الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلۡأَسۡمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمۡ عَلَى ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ فَقَالَ أَنۢبِـُٔونِي بِأَسۡمَآءِ هَـٰٓؤُلَآءِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (31)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

... عن ابن عباس قال: بعث ربّ العزّة ملك الموت، فأخذ من أديم الأرض من عذبها ومالحها، فخلق منه آدم. ومن ثم سُمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض...

[و] عن عليّ، قال: إن آدم خلق من أديم الأرض فيه الطيب والصالح والرديء، فكل ذلك أنت راء في ولده الصالح والرديء...

[و] عن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنّ اللّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الأرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ على قَدْرِ الأرْضِ جاءَ مِنْهُمْ الأحْمَرُ وَالأسْوَدُ وَالأبْيَضُ وَبَيْنَ ذلكَ، وَالسّهْلُ وَالحَزْنُ وَالخَبِيثُ وَالطّيّبُ»...

فعلى التأويل الذي تأول آدم من تأوله بمعنى أنه خلق من أديم الأرض، يجب أن يكون أصل آدم فعلاً سمي به أبو البشر، كما سمي أحمد بالفعل من الإحماد، وأسعد من الإسعاد... كما أن جلدة كل ذي جلدة له أدمة، ومن ذلك سمي الإدام إداما، لأنه صار كالجلدة العليا مما هي منه، ثم نقل من الفعل فجعل اسما للشخص بعينه...

"وعلم ءادم الأسماء كلها": اختلف أهل التأويل في الأسماء التي علمها آدم ثم عرضها على الملائكة.

فقال ابن عباس..." علم الله آدم الأسماء كلها"، وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسان ودابة، وأرض، وسهل، وبحر، وجبل، وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها... عن مجاهد: وَعَلّمَ آدمَ الأسْماءَ كُلّها قال: علمه اسم كل شيء.

وقال آخرون: "علم آدم الأسماء كلها"، أسماء الملائكة...

وقال آخرون: "وَعَلمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلّها "قال: أسماء ذرّيته أجمعين.

وأولى هذه الأقوال بالصواب وأشبهها بما دلّ على صحته ظاهر التلاوة قول من قال في قوله: "وَعَلّمَ آدمَ الأسْماءَ كُلّها" إنها أسماء ذرّيته وأسماء الملائكة، دون أسماء سائر أجناس الخلق. وذلك أن الله جل ثناؤه قال: "ثُمّ عَرَضَهُمْ على المَلائِكَةِ" يعني بذلك أعيان المسمين بالأسماء التي علمها آدم، ولا تكاد العرب تكني بالهاء والميم إلا عن أسماء بني آدم والملائكة، وأما إذا كانت عن أسماء البهائم وسائر الخلق، سوى من وصفنا، فإنها تكني عنها بالهاء والألف، أو بالهاء والنون، فقالت: عرضهن، أو عرضها. وكذلك تفعل إذا كنت عن أصناف من الخلق، كالبهائم والطير وسائر أصناف الأمم، وفيها أسماء بني آدم والملائكة، فإنها تكني عنها بما وصفنا من الهاء والنون، أو الهاء والألف. وربما كنت عنها إذ كان كذلك بالهاء والميم، كما قال جل ثناؤه: "وَاللّهُ خَلَقَ كُلّ دَابّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي على بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي على رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي على أرْبَعٍ" فكني عنها بالهاء والميم، وهي أصناف مختلفة فيها الآدميّ وغيره. وذلك وإن كان جائزا فإن الغالب المستفيض في كلام العرب ما وصفنا من إخراجهم كناية أسماء أجناس الأمم إذا اختلطت بالهاء والألف، أو الهاء والنون... وإن كان ما قال ابن عباس جائزا على مثال ما جاء في كتاب الله من قوله: "وَاللّهُ خَلَقَ كُلّ دَابّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي على بَطْنِهِ" الآية. وقد ذكر أنها في حرف ابن مسعود: «ثم عرضهن»، وأنها في حرف أبيّ: «ثم عرضها»...

" ثُمّ عَرَضَهُمْ على المَلائِكَةِ":

قد تقدم ذكرنا التأويل الذي هو أوْلى بالآية على قراءتنا ورسم مصحفنا، وأن قوله: "ثُمّ عَرَضَهُمْ" بالدلالة على بني آدم والملائكة أولى منه بالدلالة على أجناس الخلق كلها، وإن كان غير فاسد أن يكون دالاّ على جميع أصناف الأمم للعلل التي وصفنا.

ويعني جل ثناؤه بقوله: "ثُمّ عَرَضَهُمْ": ثم عرض أهل الأسماء على الملائكة.

وقد اختلف المفسرون في تأويل قوله: "ثُمّ عَرَضَهُمْ على المَلاَئِكَةِ" نحو اختلافهم في قوله: "وَعَلّمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلّها" وسأذكر قول من انتهى إلينا عنه فيه قول.

[ف] عن ابن عباس: "ثُمّ عَرَضَهُمْ على المَلائِكَةِ" ثم عرض هذه الأسماء، يعني أسماء جميع الأشياء التي علمها آدم من أصناف جميع الخلق...

[و] عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "ثُمّ عَرَضَهُمْ": ثم عرض الخلق على الملائكة...

[وعن] ابن زيد: أسماء ذريته كلها أخذهم من ظهره، "ثم عرضهم على الملائكة...

[و] عن قتادة: "ثُمّ عَرَضَهُمْ" قال: علمه اسم كل شيء، ثم عرض تلك الأسماء على الملائكة... عن مجاهد: "ثُمّ عَرَضَهُمْ" عرض أصحاب الأسماء على الملائكة.

"فقالَ أنْبِئُونِي بِأسْماءِ هَولاءِ": أنْبِئُونِي: أخبروني...

"بِأسْماءِ هَولاءِ": بأسماء هذه التي حدثت بها آدم...

"إنْ كُنْتُمِ صَادِقِينَ": اختلف أهل التأويل في ذلك...

[ف] عن ابن عباس: "إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ": إن كنتم تعلمون لِمَ أجعل في الأرض خليفة...

وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ": أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء...

[و] عن الحسن وقتادة قالا: "إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" أني لم أخلق خلقا إلا كنتم أعلم منه، فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين...

وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية تأويل ابن عباس ومن قال بقوله. ومعنى ذلك فقال: أنبئوني بأسماء من عرضته عليكم أيتها الملائكة القائلون: "أتَجْعَل فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ" من غيرنا، أم منّا؟ فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك."إن كنتم صادقين" في قيلكم أني إن جعلت خليفتي في الأرض من غيركم، عصاني ذريته، وأفسدوا فيها، وسفكوا الدماء، وإن جُعلتم فيها أطعتموني، واتبعتم أمري بالتعظيم لي والتقديس. فإنكم إن كنتم لا تعلمون أسماء هؤلاء الذين عرضتهم عليكم من خلقي وهم مخلوقون موجودون ترونهم وتعاينونهم، وعَلِمه غيركم بتعليمي إياه، فأنتم بما هو غير موجود من الأمور الكائنة التي لم توجد بعد، وبما هو مستتر من الأمور التي هي موجودة عن أعينكم، أحرى أن تكونوا غير عالمين، فلا تسألوني ما ليس لكم به علم، فإني أعلم بما يصلحكم ويصلح خلقي.

وهذا الفعل من الله جل ثناؤه بملائكته الذين قالوا له: "أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها" من جهة عتابه جل ذكره إياهم، نظير قوله جل جلاله لنبيه نوح صلوات الله عليه، إذ قال: "رَبّ إنّ ابْنِي مِنْ أهْلِي وَإِنّ وَعْدَكَ الحَقّ وَأنْتَ أحْكَمُ الحاكِمينَ...": "لا تَسْألْنِ ما لَيْسَ لَكَ بهِ عِلْمٌ إنّي أعظُكَ أنْ تَكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ". فكذلك الملائكة سألت ربها أن تكون خلفاءه في الأرض يسبحوه ويقدسوه فيها، إذ كان ذرية من أخبرهم أنه جاعله في الأرض خليفة، يفسدون فيها، ويسفكون الدماء، فقال لهم جل ذكره: "إني أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ" يعني بذلك أني أعلم أن بعضكم فاتح المعاصي وخاتمها وهو إبليس، منكرا بذلك تعالى ذكره قولهم. ثم عرّفهم موضع هفوتهم في قيلهم ما قالوا من ذلك، بتعريفهم قصور علمهم عما هم له شاهدون عيانا، فكيف بما لم يروه ولم يخبروا عنه؟ بعرضه ما عرض عليهم من خلقه الموجودين يومئذٍ، وقيله لهم: "أنْبِئُونِي بِأسْماءِ هَؤلاءِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" أنكم إن استخلفتكم في أرضي سبحتموني وقدستموني، وإن استخلفت فيها غيركم عصاني ذريته، وأفسدوا وسفكوا الدماء. فلما اتضح لهم موضع خطأ قيلهم، وبدت لهم هفوة زلتهم أنابوا إلى الله بالتوبة فقالوا: "سُبحانَكَ لا علمَ لنَا إِلاّ ما علمتنا" فسارعوا الرجعة من الهفوة، وبادروا الإنابة من الزلة، كما قال نوح حين عوتب في مسألته، فقيل له: "لا تَسألْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ": "رَبّ إنّي أعُوذُ بِكَ أنْ أسألَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وإلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أكُنْ مِنَ الخاسِرِينَ"، وكذلك فعل كل مسدد للحق موفق له، سريعة إلى الحقّ إنابته، قريبة إليه أوبته...

جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :

عِلْمُ الأنبياء أشرف مرتبة من جميع علوم الخلائق، لأن محصوله عن الله تعالى بلا واسطة ووسيلة...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسماء كُلَّهَا}: واشتقاقهم {ءادَمَ} من الأدمة، ومن أديم الأرض، نحو اشتقاقهم (يعقوب) من العقب، و (إدريس) من الدرس، و (إبليس) من الإبلاس. وما آدم إلا اسم أعجمي.

فإن قلت: فما معنى تعليمه أسماء المسميات؟ قلت: أراه الأجناس التي خلقها، وعلمه أن هذا اسمه فرس، وهذا اسمه بعير، وهذا اسمه كذا، وهذا اسمه كذا، وعلمه أحوالها وما يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية...

{ثُمَّ عَرَضَهُمْ} أي عرض المسميات. وإنما ذكّر لأن في المسميات العقلاء فغلبهم. وإنما استنبأهم وقد علم عجزهم عن الإنباء على سبيل التبكيت.

{إِن كُنتُمْ صادقين} يعني في زعمكم أني أستخلف في الأرض مفسدين سفاكين للدماء إرادة للرد عليهم، وأن فيمن يستخلفه من الفوائد العلمية التي هي أصول الفوائد كلها، ما يستأهلون لأجله أن يستخلفوا. فأراهم بذلك وبين لهم بعض ما أجمل من ذكر المصالح في استخلافهم في قوله {إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

وقوله تعالى: {وعلم} معناه: عرَّف. وتعليم آدم هنا عند قوم إلهام علمه ضرورة.

وقال قوم: بل تعليم بقول، فإما بواسطة ملك، أو بتكليم قبل هبوطه الأرض، فلا يشارك موسى- عليه السلام- في خاصته.

وقرأ اليماني:» وعُلِّم «بضم العين على بناء الفعل للمفعول،» آدمُ «مرفوعاً.

«و {آدم}: مشتق من الأدمة، وهي حمرة تميل إلى السواد، ولا ينصرف بوجه.

واختلف المتأولون في قوله: {الأسماء} فقال جمهور الأمة: «علمه التسميات» وقال قوم: «عرض عليه الأشخاص».

قال القاضي أبو محمد والأول أبين، ولفظة -علمه- تعطي ذلك.

قال المحققون من أهل التأويل: ليس هذا على جهة التكليف وإنما على جهة التقرير والتوقيف...

و {هؤلاء} ظاهره حضور أشخاص، وذلك عند العرض على الملائكة. وليس في هذه الآية ما يوجب أن الاسم أريد به المسمى كما ذهب إليه مكي والمهدوي، فمن قال إنه تعالى عرض على الملائكة أشخاصاً استقام له مع لفظ {هؤلاء}، ومن قال إنه إنما عرض أسماء فقط جعل الإشارة ب {هؤلاء} إلى أشخاص الأسماء وهي غائبة، إذ قد حضر ما هو منها بسبب، وذلك أسماؤها، وكأنه قال لهم في كل اسم لأي شخص هذا.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والذي يظهر أن الله تعالى علم آدم الأسماء، وعرض مع ذلك عليه الأجناس أشخاصاً، ثم عرض تلك على الملائكة، وسألهم عن تسمياتها التي قد تعلمها آدم، ثم إن آدم قال لهم هذا اسمه كذا، وهذا اسمه كذا...

أحكام القرآن لابن الفرس 595 هـ :

وفي هذه الآية عندي رد على المنجمين و الكهان، ومن يدعي معرفة شيء من الغيب، لأن الملائكة إذا لم تعلم إلا ما علمها الله تعالى، فالآدميون أحرى...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

...

...

اعلم أن الملائكة لما سألوا عن وجه الحكمة في خلق آدم وذريته وإسكانه تعالى إياهم في الأرض وأخبر الله تعالى عن وجه الحكمة في ذلك على سبيل الإجمال بقوله تعالى {إني أعلم ما لا تعلمون} أراد تعالى أن يزيدهم بيانا وأن يفصل لهم ذلك المجمل، فبين تعالى لهم من فضل آدم عليه السلام ما لم يكن من ذلك معلوما لهم، وذلك بأن علم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم عليهم ليظهر بذلك كمال فضله وقصورهم عنه في العلم فيتأكد ذلك الجواب الإجمالي بهذا الجواب التفصيلي.

المسألة الثانية: من الناس من قال قوله {وعلم آدم الأسماء كلها} أي علمه صفات الأشياء ونعوتها وخواصها والدليل عليه أن الاسم اشتقاقه إما من السمة أو من السمو، فإن كان من السمة كان الاسم هو العلامة وصفات الأشياء ونعوتها وخواصها دالة على ماهياتها؛ فصح أن يكون المراد من الأسماء: الصفات، وإن كان من السمو فكذلك لأن دليل الشيء كالمرتفع على ذلك الشيء فإن العلم بالدليل حاصل قبل العلم بالمدلول، فكان الدليل أسمى في الحقيقة، فثبت أنه لا امتناع في اللغة أن يكون المراد من الاسم الصفة، بقي أن أهل النحو خصصوا لفظ الاسم بالألفاظ المخصوصة، ولكن ذلك عرف حادث لا اعتبار به.

وإذا ثبت أن هذا التفسير ممكن بحسب اللغة وجب أن يكون هو المراد لا غيره، لوجوه: أحدها: أن الفضيلة في معرفة حقائق الأشياء أكثر من الفضيلة في معرفة أسمائها، وحمل الكلام المذكور لإظهار الفضيلة على ما يوجب مزيد الفضيلة، أولى من حمله على ما ليس كذلك.

وثانيها: أن التحدي إنما يجوز ويحسن بما يتمكن السامع من مثله في الجملة، فإن من كان عالما باللغة والفصاحة، يحسن أن يقول له غيره على سبيل التحدي: ائت بكلام مثل كلامي في الفصاحة، أما العربي فلا يحسن منه أن يقول للزنجي في معرض التحدي: تكلم بلغتي، وذلك لأن العقل لا طريق له إلى معرفة اللغات البتة: بل ذلك لا يحصل إلا بالتعليم، فإن حصل التعليم، حصل العلم به وإلا فلا، أما العلم بحقائق الأشياء، فالعقل متمكن من تحصيله فصح وقوع التحدي فيه.

...

المسألة السادسة: هذه الآية دالة على فضل العلم، فإنه سبحانه ما أظهر كمال حكمته في خلقة آدم عليه السلام إلا بأن أظهر علمه. فلو كان في الإمكان وجود شيء أشرف من العلم، لكان من الواجب إظهار فضله بذلك الشيء لا بالعلم.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

الصحيح أنه علمه أسماء الأشياء كلها: ذواتها وأفعالها؛ كما قال ابن عباس حتى الفسوة والفُسَية. يعني أسماء الذوات والأفعال المكبر والمصغر؛ ولهذا قال البخاري في تفسير هذه الآية من كتاب التفسير من صحيحه : حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا مسلم، حدثنا هشام، حدثنا قتادة، عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال لي خليفة: حدثنا يزيد بن زُرَيع، حدثنا سعيد، عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال -:"يجتمع المؤمنون يوم القيامة، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا؟ فيأتون آدم فيقولون: أنت أبو الناس، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، فاشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيقول: لَسْتُ هُنَاكُمْ، ويذكر ذنبه فيستحي؛ ائتوا نوحًا فإنه أول رسول بعث الله إلى أهل الأرض، فيأتونه فيقول: لست هُنَاكُم. ويذكر سؤاله ربه ما ليس له به علم فيستحي. فيقول: ائتوا خليل الرحمن، فيأتونه، فيقول: لست هُنَاكم؛ فيقول: ائتوا موسى عَبْدًا كَلمه الله، وأعطاه التوراة، فيأتونه، فيقول: لست هُنَاكُمْ، ويذكر قَتْلَ النفس بغير نفس، فيستحي من ربه؛ فيقول: ائتوا عيسى عَبْدَ الله ورسولَه وكَلِمةَ الله وروحه، فيأتونه، فيقول: لست هُنَاكُم، ائتوا محمدًا عبدًا غَفَر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني، فأنطلق حتى أستأذن على ربي، فيُؤذن لي، فإذا رأيت ربي وقعتُ ساجدًا، فيدعني ما شاء الله، ثم يقال: ارفع رأسك، وسل تعطه، وقل يُسْمَع، واشفع تُشَفَّع، فأرفع رأسي، فأحمده بتحميد يعلمُنيه، ثم أشفع فيحد لي حدًّا فأدخلهم الجنة، ثم أعود إليه، وإذا رأيت ربي مثله، ثم أشفع فيحد لي حدًا فأدخلهم الجنة، ثم أعود الرابعة فأقول: ما بقي في النار إلا مَنْ حبسه القرآن ووجب عليه الخلود"...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

تقدم في بيان معنى الخليفة أن علم الملائكة وعملهم محدودان، وأن علم الإنسان وعمله غير محدودين، وبهذه الخاصة التي فطر الله الناس عليها كان الإنسان أجدر بالخلافة من الملائكة.

وهذه هي حجة الله البالغة على الملائكة التي بينها لهم بعد ما نبههم إلى علمه المحيط بما لا يعلمون.

فقال {وعلم آدم الأسماء كلها} أي أودع في نفسه علم جميع الأشياء من غير تحديد ولا تعيين، فالمراد بالأسماء المسميات، عَبَّرَ عن المدلول بالدليل، لشدة الصلة بين المعنى واللفظ الموضوع له، وسرعة الانتقال من أحدهما إلى الآخر. والعلم الحقيقي إنما هو إدراك المعلومات أنفسها، والألفاظ الدالة عليها تختلف باختلاف اللغات التي تجري بالمواضعة والاصطلاح فهي تتغير وتختلف والمعنى لا تغير فيه ولا اختلاف.

قال الأستاذ: ثم إن الاسم قد يطلق إطلاقا صحيحا على ما يصل إلى الذهن من المعلوم أي صورة المعلوم في الذهن، وبعبارة أخرى: ما به يعلم الشيء، عند العالم، فاسم الله مثلا هو ما به عرفناه في أذهاننا، بحيث يقال: إننا نؤمن بوجوده، ونسند عليه صفاته، فالأسماء هي ما به نعلم الأشياء، وهي العلوم المطابقة للحقائق. والاسم بهذا الإطلاق هو الذي جرى الخلاف في أنه عين المسمى أو غيره، وقد كان اليونانيون يطلقون على ما في الذهن من المعلوم لفظ الاسم؛ والخلاف في أن ما في الذهن من الحقائق هو عينها أو صورتها مشهور كالخلاف في أن العلم عين المعلوم أو غير المعلوم، وأما الخلاف في أن الاسم الذي هو اللفظ عين المسمى أو غيره فهو ما أخطأ في الناظرون لعدم الدقة في التمييز بين الإطلاقات لبداهة أن اللفظ غير معناه بالضرورة، والاسم بذلك الإطلاق الذي ذكرناه هو الذي يتقدس ويتبارك ويتعالى {سبح اسم ربك الأعلى} {تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام} فاسمه جل شأنه ما يمكننا أن نعلم منه ما نعلم من صفاته؛ وما يشرق في أنفسنا من بهائه وجلاله، ولا مانع من الأسماء هذا المعنى، وهو لا يختلف في التأويل عما قالوه من إرادة المسميات ولكنه على ما نقول أظهر وأبين.

(وأقول) تقدم لنا في أول سورة الفاتحة أن اسم الله تعالى يسبح ويعظم ومنه إسناد التسبيح إليه قولا وكتابة. وتسبيحه وتعظيمه بدون ذكر اسمه خاص بالقلب، ومن تعمد إهانة اسم الله تعالى يكفر كمن يتعمد إهانة كتابه.

ثم إن الذي يتبادر إلى الفهم من صيغة التعليم هو التدريج قال تعالى {ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون} وما كان ذلك إلا تدريجا وهذا ظاهر في جميع الآيات التي فيها لفظ التعليم كقوله {وعلمك ما لم تكن تعلم} وقوله {ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل} إلى غير ذلك – ولكن المتبادر من تعليم آدم الأسماء: أنه كان دفعة واحدة إذا أريد بآدم شخصه بالفعل أو بالقوة، ولذلك قال شيخنا:

علم الله آدم كل شيء ولا فرق في ذلك بين أن يكون له هذا العلم في آن واحد أو في آنات متعددة والله قادر على كل شيء، ثم إن هذه القوة العلمية عامة للنوع الآدمي كله، ولا يلزم من ذلك أن يعرف أبناؤه الأسماء من أول يوم فيكفي في ثبوت هذه القوة لهم معرفة الأشياء بالبحث والاستدلال، علم الله آدم الأسماء على نحو ما بينا {ثم عرضهم على الملائكة} أي أطلعهم اطلاعا إجماليا بالإلهام الذي يليق بحالهم على مجموع تلك الأشياء ولو عرضت على نفوسهم عرضا تفصيليا لعلموها ولم يكن علمهم محدودا والحال أنه عرضها عليهم وسألهم عنها سؤال تعجيز. {فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء} المسميات والغرض من الإنباء بأسمائها الإبانة عن معرفتها.

ومعنى {إن كنتم صادقين} أي إن كان هناك موقع للدهشة والاستغراب من جعل الخليفة في الأرض من البشر، وكان ما طرق نفوسكم وطرأ على أذهانكم أولا حالا محله، ومصيبا غرضه، ولما تعرفوا حقيقة ما يمتاز به الخليفة فأنبئوني بأسماء ما عرضته عليكم.

تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :

والحكمة في التعليم والعرض تشريف آدم واصطفاؤه، كي لا يكون للملائكة مفخرة عليه بعلومهم ومعارفهم، وإظهار الأسرار والعلوم المكنونة في غيب علمه تعالى على لسان من يشاء من عباده...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ها نحن أولاء -بعين البصيرة في ومضات الاستشراف- نشهد ما شهده الملائكة في الملأ الأعلى.. ها نحن أولاء نشهد طرفا من ذلك السر الإلهي العظيم الذي أودعه الله هذا الكائن البشري، وهو يسلمه مقاليد الخلافة. سر القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات. سر القدرة على تسمية الأشخاص والأشياء بأسماء يجعلها -وهي ألفاظ منطوقة- رموزا لتلك الأشخاص والأشياء المحسوسة. وهي قدرة ذات قيمة كبرى في حياة الإنسان على الأرض. ندرك قيمتها حين نتصور الصعوبة الكبرى، لو لم يوهب الإنسان القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات، والمشقة في التفاهم والتعامل، حين يحتاج كل فرد لكي يتفاهم مع الآخرين على شيء أن يستحضر هذا الشيء بذاته أمامهم ليتفاهموا بشأنه.. الشأن شأن نخلة فلا سبيل إلى التفاهم عليه إلا باستحضار جسم النخلة! الشأن شأن جبل. فلا سبيل إلى التفاهم عليه إلا بالذهاب إلى الجبل! الشأن شأن فرد من الناس فلا سبيل إلى التفاهم عليه إلا بتحضير هذا الفرد من الناس... إنها مشقة هائلة لا تتصور معها حياة! وإن الحياة ما كانت لتمضي في طريقها لو لم يودع الله هذا الكائن القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات.

فأما الملائكة فلا حاجة لهم بهذه الخاصية، لأنها لا ضرورة لها في وظيفتهم. ومن ثم لم توهب لهم. فلما علم الله آدم هذا السر، وعرض عليهم ما عرض لم يعرفوا الأسماء. لم يعرفوا كيف يضعون الرموز اللفظية للأشياء والشخوص..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

الظاهر أن الأسماء التي عُلمها آدم هي ألفاظ تدل على ذوات الأشياء التي يحتاج نوع الإنسان إلى التعبير عنها لحاجته إلى ندائها، أو استحضارها، أو إفادة حصول بعضها مع بعض، وهي أي الإفادة ما نسميه اليوم بالأخبار أو التوصيف فيظهر أن المراد بالأسماء ابتداءً أسماءُ الذوات من الموجودات مثل الأعلام الشخصية وأسماء الأجناس من الحيوان والنبات والحجر والكواكب مما يقع عليه نظر الإنسان ابتداء مثل اسم جَنة، وملك، وآدم، وحواء، وإبليس، وشجرة وثمرة...

و {كلَّها} تأكيد لمعنى الاستغراق لئِلا يتوهم منه العهد فلم تزد كلمة كل العمومَ شمولاً ولكنها دفعت عنه الاحتمال. (وكُل) اسم دال على الشمول والإحاطة فيما أضيف هو إليه وأكثر ما يجيء مضافاً إلى ضمير ما قبله...

وتعليم الله تعالى آدمَ الأسماء إما بطريقة التلقين بعرض المسمى عليه فإذا أراه لُقن اسمه بصوت مخلوق يسمعه فيعلم أن ذلك اللفظ دال على تلك الذات بعلم ضروري، أو يكون التعليم بإلقاء علم ضروري في نفس آدم بحيث يخطر في ذهنه اسم شيء عند ما يعرض عليه فيضع له اسماً بأنْ ألهمه وضع الأسماء للأشياء ليمكنه أن يفيدها غيره وذلك بأن خلق قوةَ النطق فيه وجعله قادراً على وضع اللغة كما قال تعالى: {خلق الإنسان علمه البيان} [الرحمن: 2، 3] وجميع ذلك تعليم إذ التعليم مصدر علَّمه إذا جعله ذَا علم مثل أدَّبه فلا ينحصر في التلقين وإِنْ تبادَر فيه عرفاً. وأيَّاً ما كانت كيفية التعليم فقد كان سبباً لتفضيل الإنسان على بقية أنواع جنسه بقوة النطق وإحداث الموضوعات اللغوية للتعبير عما في الضمير. وكان ذلك أيضاً سبباً لتفاضل أفراد الإنسان بعضهم على بعض بما ينشأ عن النطق من استفادة المجهول من المعلوم وهو مبدأ العلوم، فالإنسان لما خُلق ناطقاً معبراً عما في ضميره فقد خُلق مدركاً أي عالماً وقد خلق معلماً، وهذا أصل نشأة العلوم والقوانين وتفاريعها لأنك إذا نظرت إلى المعارف كلها وجدتها وضع أسماء لمسميات وتعريفَ معاني تلك الأسماء وتحديدها لتسهيل إيصال ما يحصل في الذهن إلى ذهن الغير. وكلا الأمرين قد حُرِمه بقية أنواع الحيوان، فلذلك لم تتفاضل أفراده إلا تفاضلاً ضعيفاً بحسن الصورة أو قوة المنفعة أو قلة العجمة بلْهَ بقية الأجناس كالنبات والمعدن.

وبهذا تعلم أن العبرة في تعليم الله تعالى آدم الأسماء حاصلة سواء كان الذي علَّمه إياه أسماءَ الموجودات يومئذٍ أو أسماء كل ما سيوجد، وسواء كان ذلك بلغة واحدة هي التي ابتدأَ بها نطق البشر منذ ذلك التعليم أم كان بجميع اللغات التي ستنطق بها ذرياته من الأمم، وسواء كانت الأسماء أسماء الذوات فقط أو أسماء المعاني والصفات، وسواء كان المراد من الأسماء الألفاظَ الدالة على المعاني أو كل دال على شيء لفظاً كان أو غيره من خصائص الأشياء وصفاتها وأفعالها كما تقدم إذ محاولة تحقيق ذلك لا طائل تحته في تفسير القرآن.

ولعل كثيراً من المفسرين قد هان عندهم أن يكون تفضيل آدم بتعليم الله متعلقاً بمعرفة عدد من الألفاظ الدالة على المعاني الموجودة، فراموا تعظيم هذا التعليم بتوسيعه، وغفلوا عن موقع العبرة ومِلاكِ الفضيلة، وهو إيجاد هاته القوة العظيمة التي كان أولها تعليم تلك الأسماء، ولذلك كان إظهار عجز الملائكة عن لحاق هذا الشأو بعدم تعليمهم لشيء من الأسماء، ولو كانت المزية والتفاضل في تعليم آدم جميع ما سيكون من الأسماء في اللغات لكفى في إظهار عجز الملائكة عدم تعليمهم لجمهرة الأسماء وإنما علم آدم أسماء الموجودات يومئذٍ كلها ليكون إنباؤه الملائكة بها أبهر لهم في فضيلته...

{ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الملائكة فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هؤلاء إِن كُنتُمْ صادقين}... والأظهر أن (ثم) هنا للتراخي الرتبي، كشأنها في عطفها الجمل، لأن رتبة هذا العرض، وظهور عدم علم الملائكة، وظهور علم آدم، وظهور أثر علم الله وحكمته، كل ذلك أرفع رتبة في إظهار مزية آدم واستحقاقه الخلافة من رتبة مجرد تعلمه الأسماء لو بقي غير متصل به ما حدث من الحادثة كلها.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

وقد بين الله تعالى ما أودعه نفس الإنسان من العلم بالأشياء أو الاستعداد للعلم بها، أو أودع نفسه الاستعداد بعلمه بالأشياء كلها مما لا يعلمون هم، فقال تعالى:

{وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين (31) قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم (32) قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون (33)}.

والأسماء هي الأشياء من قبيل ذكر الاسم وإرادة المسمى، إن جهل الملائكة بأسماء الأشياء وعلم آدم بها هو الأمر الذي ميز آدم على الملائكة، خلقوا للطاعة، ولا يعلمون طبائع الأشياء والوجود الأرضي إلا ما أعلمهم الله تعالى إياه،أما آدم فإن الله تعالى أودعه القدرة على العلم بالأشياء، وكان في طبيعة نفسه التي أوجدها الله تعالى العلم بالأجناس أو مثلها. فالإنسان يولد وفي استعداده العلم بالمثل في هذه الأرض كما قال تعالى: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة... (78)} [النحل].

بهذه الخاصة التي وهبها الله تعالى للإنسان، وهي الاستعداد للمعرفة والعلم بكل ما في الأرض، فكان بذلك ممتازا على الملائكة ويتبعهم الجن.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

فالحق سبحانه وتعالى. رد على الملائكة بهذه الآية الكريمة. لأنه علم آدم الأسماء كلها.. وكلمة كلها تفيد الإحاطة. ومعنى الإحاطة معرفة كل شيء عن هذه الأسماء.

هنا يتبادر سؤال: هل علم الله سبحانه وتعالى آدم الأسماء منذ ساعة الخلق إلى قيام الساعة مادام الحق سبحانه وتعالى يقول كلها. فما هو حكم تلك الأسماء التي هي لمخترعات ستأتي بعد خلق آدم بقرون طويلة؟

نقول إن الله سبحانه وتعالى. حين علم آدم الأسماء وميزه على الملائكة يكون قد أعطى ذلك الأدنى عنصرا ميزه عن المخلوق من عنصر أعلى. فآدم مخلوق من طين. والملائكة مخلوقون من نور. وقدرات البشر لا تستطيع أن تعطي الأدنى شيئا أكثر من الأعلى. ولكن الله سبحانه وتعالى وحده هو الذي يعطي ذلك ليذكرنا أن ما نأخذه ليس بقدراتنا ولكن بقدرته هو سبحانه. ولذلك تجد سليمان وهو ملك ونبي.. أعطاه الله تعالى ملكا لا ينبغي لأحد من بعده. وميزه عن خلقه. يأتي الهدهد ليقول لسليمان: {أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين}.

كيف يحيط الهدهد وهو طائر ضعيف محدود بما لم يحط به سليمان وهو الملك النبي الذي حكم الإنس والجن؟ لأن الله سبحانه وتعالى.. يكره الغرور من خلقه. ولذلك يأتي بآية تميز الأدنى عن الأعلى ليعلموا جميعا أن كل قدراتهم ليست بذاتهم. وإنما هي من الله. فيأتي موسى وهو الرسول والنبي.. فيتعلم من الخضر وهو العبد الصالح ما لم يكن يعلمه.

وقد خلق الله سبحانه المسميات وإن كنا لا نعرف وجودها وجعل الملائكة تتلقى أسماء هذه المسميات من آدم. وأن البعض يتساءل عن وسيلة تعليم الخالق الأكرم لآدم عليه السلام. وتعليم الخالق يختلف عن تعليم الخلق. لأن الخالق يعلم إلهاما. يقذف في قلب آدم أسماء المسميات كلها لكل ما في الكون من أسماء المخلوقات..

إذن فالمشهد الأول. لآدم مع الملائكة. كان قد تم إيجاد كل المسميات وألهمها الله لآدم. بدليل أن الملائكة لم تتعرف على هذه المسميات. بينما عرفها آدم. وهنا لابد لنا من وقفة. إن الكلام هو ناتج السمع. واللغة ناتج البيئة، والله سبحانه وتعالى علم آدم الأسماء. وهذا العلم لا يمكن أن يأتي إلا إذا كان آدم قد سمع من الله سبحانه وتعالى.. ثم نطق. فأنت إذا أتيت بطفل عربي.. وتركته في لندن مثلا.. فتراه يتكلم الإنجليزية بطلاقة.. ولا يفهم كلمة واحدة من اللغة العربية. والعكس صحيح. إذا أتيت بطفل إنجليزي. وتركته في بلد عربي. يتكلم العربية.. ولا يعلم شيئا عن الإنجليزية. إذن فاللغة ليست وراثة ولا جنسا ولا بيئة. ولكنها محاكاة يسمعها الإنسان فينطق بها. وإذا لم يسمع الإنسان شيئا وكان أصم فإنه لا يستطيع النطق بحرف واحد. فإذا كان آدم قد نطق بهذه الأسماء فلابد أنه سمع من الله سبحانه وتعالى..

والعجيب أن الطريقة التي علم الله سبحانه وتعالى آدم بها. هي الطريقة نفسها التي تتبعها البشرية إلى يومنا هذا. فأنت لا تعلم الطفل بأن تقص عليه الأفعال. ولكن لابد أن يبدأ تعليمه بالأسماء والمسميات. تقول له: هذا كوب. وهذا جبل وهذا بحر. وهذه شمس. وهذا قمر. وبعد أن يتعلم المسميات. يستطيع أن يعرف الأفعال. ويتقدم في التعليم بعد ذلك..

وهكذا نتعرف على النشأة الأولى للكلام. وطلاقة قدرة الله سبحانه وتعالى علمت آدم الأسماء.

وهنا نتوقف لنجيب عن سؤالين: الأول: إذا كان الله سبحانه وتعالى قد علم آدم الأسماء كلها. فهل كان فيها أسماء ما سيستجد من مخترعات في العالم؟ نقول: إنه حتى لو تعلم آدم الأسماء التي يحتاج إليها في أولويات الوجود ويستخدمها في متطلبات حياته على الأرض. فإذا جد جديد، فإن أولاد آدم يستخدمون هذه الأسماء من المقدمات والأسماء التي تعلموها. فما يجد في الوجود من أسماء. تدخل على اللغة. لم تأت من فراغ. وإنما جاءت من اللغة التي تنطق بها وتكتب بها.

كذلك كل شيء في هذا الكون. لو أعدته الآن إلى أصله. تجد أن أصله من الله. فلو أعدت البشرية إلى أصلها لابد أن تصل إلى أن الإنسان الأول خلقه الله سبحانه وتعالى. ولو أعدت العلم إلى أصله. وكل علم يحتاج إلى معلم. نقول لك.. من الذي علم المعلم الأول. أليس من البديهي أن العلم بدأ بمعلم علمه الله سبحانه وتعالى. وكان هذا هو المعلم الأول.. إذن فالذي علم الأسماء لآدم هو الله سبحانه وتعالى. وهو علمها لأولاده. وأولاده علموها لأولادهم وهكذا..