المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلۡأَسۡمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمۡ عَلَى ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ فَقَالَ أَنۢبِـُٔونِي بِأَسۡمَآءِ هَـٰٓؤُلَآءِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (31)

وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 31 )

وقوله تعالى : { وعلم } معناه عرف وتعليم آدم هنا عند قوم إلهام علمه ضرورة .

وقال قوم : بل تعليم بقول ، فإما بواسطة ملك( {[431]} ) ، أو بتكليم قبل هبوطه الأرض ، فلا يشارك موسى- عليه السلام- في خاصته .

وقرأ اليماني : » وعُلِّم «بضم العين على بناء الفعل للمفعول ، » آدمُ «مرفوعاً .

قال أبو الفتح : » هي قراءة يزيد البربري «و { آدم } أفعل مشتق من الأدمة وهي حمرة تميل إلى السواد ، وجمعه أدم وأوادم كحمر وأحامر ، ولا ينصرف بوجه ، وقيل { آدم } وزنه فاعل مشتق من أديم الأرض( {[432]} ) ، كأن الملك آدمها وجمعه آدمون وأوادم ، ويلزم قائل المقالة صرفه .

وقال الطبري : «آدم فعل رباعي سمي به » ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «خلق الله آدم من أديم الأرض كلها فخرجت ذريته على نحو ذلك منهم الأبيض والأسود والأسمر والسهل والحزن والطيب والخبيث »( {[433]} ) .

واختلف المتأولون في قوله : { الأسماء } فقال جمهور الأمة : «علمه التسميات » وقال قوم : «عرض عليه الأشخاص » .

قال القاضي أبو محمد والأول أبين ، ولفظة -علمه- تعطي ذلك .

ثم اختلف الجمهور في أي الأسماء علمه ؟ فقال ابن عباس وقتادة ومجاهد : «علمه اسم كل شيء من جميع المخلوقات دقيقها وجليلها »( {[434]} ) .

وقال حميد الشامي( {[435]} ) : «علمه أسماء النجوم فقط » .

وقال الربيع بن خثيم( {[436]} ) : «علمه أسماء الملائكة فقط » .

وقال عبد الرحمن بن زيد : «علمه أسماء ذريته فقط » .

وقال الطبري : «علمه أسماء ذريته والملائكة » ، واختار هذا ورجحه بقوله تعالى : { ثم عرضهم على الملائكة( {[437]} ) } .

وحكى النقاش عن ابن عباس أنه تعالى علمه كلمة واحدة عرف منها جميع الأسماء .

وقال آخرون : «علمه أسماء الأجناس ، كالجبال والخيل والأودية ونحو ذلك ، دون أن يعين ما سمته ذريته منها » .

وقال ابن قتيبة : «علمه أسماء ما خلق في الأرض » .

وقال قوم : علمه الأسماء بلغة واحدة ، ثم وقع الاصطلاح من ذريته فيما سواها .

وقال بعضهم : «بل علمه الأسماء بكل لغة تكلمت بها ذريته » وقد غلا قوم في هذا المعنى حتى حكى ابن جني عن أبي علي الفارسي أنه قال : «علم الله تعالى آدم كل شيء ، حتى إنه كان يحسن من النحو مثل ما أحسن سيبويه » ، ونحو هذا من القول الذي هو بين الخطأ من جهات( {[438]} ) . وقال أكثر العلماء : «علمه تعالى منافع كل شيء ولما يصلح »( {[439]} ) .

وقال قوم : «عرض عليه الأشخاص عند التعليم » .

وقال قوم : «بل وصفها له دون عرض أشخاص » .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذه كلها احتمالات ، قال الناس بها .

وقرا أبي بن كعب : «ثم عرضها » .

وقرأ ابن مسعود : «ثم عرضهن » واختلف المتأولون هل عرض على الملائكة أشخاص الأسماء أو الأسماء دون الأشخاص ؟ فقال ابن مسعود وغيره : عرض الأشخاص .

وقال ابن عباس وغيره : عرض الأسماء ، فمن قال في الأسماء بعموم كل شيء قال عرضهم أمة أمة ونوعاً نوعاً ، ومن قال في الأسماء إنها التسميات( {[440]} ) استقام على قراء ة أبيّ : «عرضها » ، ونقول في قراءة من قرأ «عرضهم » : إن لفظ الأسماء يدل على الأشخاص( {[441]} ) ، فلذلك ساغ أن يقول للأسماء عرضهم .

و { أنبئوني } معناه : أخبروني ، والنبأ الخبر ، ومنه النبيء .

وقال قوم : يخرج من هذا الأمر بالإنباء تكليف ما لا يطاق ، ويتقرر جوازه ، لأنه تعالى علم أنهم لا يعملون .

وقال المحققون من أهل التأويل : ليس هذا على جهة التكليف وإنما على جهة التقرير والتوقيف( {[442]} ) .

وقوله تعالى : { هؤلاء } ظاهره حضور أشخاص ، وذلك عند العرض على الملائكة .

وليس في هذه الآية ما يوجب أن الاسم أريد به المسمى كما ذهب إليه مكي والمهدوي ، فمن قال إنه تعالى عرض على الملائكة أشخاصاً استقام له مع لفظ { هؤلاء } ، ومن قال إنه إنما عرض أسماء فقط جعل الإشارة ب { هؤلاء } إلى أشخاص الأسماء وهي غائبة ، إذ قد حضر ما هو منها بسبب ، وذلك أسماؤها ، وكأنه قال لهم في كل اسم لأي شخص هذا .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : والذي يظهر أن الله تعالى علم آدم الأسماء وعرض مع ذلك عليه الأجناس أشخاصاً ، ثم عرض تلك على الملائكة وسألهم عن تسمياتها التي قد تعلمها آدم ، ثم إن آدم قال لهم هذا اسمه كذا ، وهذا اسمه كذا ، و { هؤلاء } لفظ مبني على الكسر والقصر فيه لغة تميم وبعض قيس وأسد ، قال الأعشى : [ الخفيف ] .

هؤلا ثم هؤلا كلا أعطيتَ نعالاً محذوة بنعال( {[443]} )

و { كنتم } في موضع الجزم بالشرط ، والجواب عند سيبويه فيما قبله ، وعند المبرد محذوف( {[444]} ) ، والتقدير : إن كنتم صادقين فأنبئوني .

وقال ابن مسعود وابن عباس وناس من أصحاب النبي صلى عليه السلام ، معنى الآية : { إن كنتم صادقين } في أن الخليفة يفسد ويسفك( {[445]} ) .

وقال آخرون : { صادقين } في إني إن استخلفتكم سبحتم بحمدي وقدستم لي .

وقال الحسن وقتادة : روي أن الملائكة قالت حين خلق الله آدم : ليخلق ربنا ما شاء فلن يخلق خلقاً أعلم منا ولا أكرم عليه ، فأراد الله تعالى أن يريهم من علم آدم وكرامته خلاف ما ظنوا فالمعنى إن كنتم صادقين في دعواكم العلم .

وقال قوم : معنى الآية { إن كنتم صادقين } في جواب السؤال عالمين بالأسماء .


[431]:- هو جبريل، وكذا هو المراد في قوله بعد ذلك: كأن الملك آدمها.
[432]:- هذا هو الصحيح في اشتقاقه، قال سعيد بن جبير: إنما سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض أي وجهها. وإنما سمي إنسانا لأنه نسي، هكذا ذكره ابن سعد في الطبقات.
[433]:- روى الترمذي عن أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله عز وجل خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك. والسهل والحزن، والخبيث والطيب". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. ومعنى قوله من قبضة قبضها: أن الله أمر الموكل بالأرض فتناول ذلك من بقاعها على النحو المذكور، وجاء بها فكان الخلق منها.
[434]:- هذا القول أرجح الأقوال، وسنده التأكيد في قوله تعالى: "الأسماء كلها"، والتعميم في قول النبي صلى الله عليه وسلم "وعلمك أسماء كل شيء" كما في صحيح البخاري.
[435]:- هو ابن أبي حميد الشامي بمعجمه، وهناك حميد بن مسعدة البصري السامي بمهملة.
[436]:- هو أبو يزيد الكوفي، تابعي جليل، أخذ القراءة عن ابن مسعود، ووردت عنه الرواية في حروف القرآن. توفي سنة 90 هـ. طبقات في القراء 1/283.
[437]:- استدل على هذا الترجيح بقوله تعالى: [ثم عرضهم] وهو عبارة عمن يعقل، وهذا الذي رجح به لا يلزم، فإنه لا ينفي أن يدخل معهم غيرهم ويعبر عن الجميع بصيغة من يعقل للتغليب.
[438]:- لعله من جهة تشبيه آدم بسيبويه، مع أن مقام آدم غير مقام سيبويه، وطبيعة التعليم في آدم غيرها في سيبويه كسبي، وتعليم آدم وهبي، ومن جهة الاختلاف في القصد والغاية أيضا.
[439]:- عطف مرادف، أي علمه منفعة كل شيء وما يصلح له.
[440]:- التسمية غير الاسم –ومعناها: العلم بأن يسمي الأشياء.
[441]:- أي: لأن كل اسم له مسمى فهو يتضمنه.
[442]:- الأولى: التبكيت والتعنيف.
[443]:- أي: أوقعت بهم جميعا، ويريد بذلك بني محارب حيث مشاهم الأسود على الجمر فتساقط لحم أقدامهم، وفي رواية (بمثال) بدل بنعال.
[444]:- فيه أن مذهب سيبويه المعروف هو أن الجواب محذوف، ويدل عليه ما قبله، وليس ما قبله هوالجواب، كما أن مذهب الكوفيين أن الجواب هو ما قبله، وقد عكس ابن عطية ذلك كما عكسه المهدوي- فتأمل.
[445]:- قال في (خ): وفي النفس منهذا القول شيء، والملائكة منزهون معصومون كما تقدم، والصواب ما تقدم من التفسير عند قوله تعالى: "أتجعل فيها" الآية، وقال أبو (ح): الصدق هنا هو الصواب، كما ألكذب يراد به الخطأ، أي إن كنتم مصيبين. وفي متعلق الصدق أقوال: -وأبعد من ذهب إلى أن الصدق هنا ضد الكذب المعروف لعصمة الملائكة، كما أبعد من جعل (إن) فأخرجها عن الشرطية إلى الظرفية.