اعلم أن الملائكة لما سألوا عن وجه الحكمة ، فأجابهم على سبيل الإجمال بقوله : { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .
أراد الله تعالى أن يزيدهم بياناً ، وأن يفصّل لهم ذاك المُجْمَل ، فبين تعالى لهم من فضل آدم - عليه الصلاة والسلام - ما لم يكن معلوماً لهم ، وذلك بأن علم آدم الأسماء كلها ، ثم عرضهم عليهم ليظهر بذلك كَمَال فَضْله ، وقُصُورهم عنه في العلم ، فيتأكّد ذلك الجواب الإجمالي بهذا الجواب التفصيلي .
قوله : { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ } هذه الجملة يجوز ألاَّ يكون لها مَحَلّ من الإعراب ، لاستئنافها ، وأن يكون محلها الجر ، لعطفها على " قَالَ رَبُّكَ " .
و " علم " متعدّية إلى اثنين ، وكانت قبل التضعيف متعديةً لواحد ؛ لأنها عرفانية ، فتعدّت بالتضعيف لآخر ، وفرقوا بين " علم " العِرْفانية واليَقِينيّة في التعدية ، فإذا أرادوا أن يعدوا اليقينية عدوها بالهمزة ذكر ذلك " أبو علي الشّلوبين " .
وفاعل " علم " يعود على الباري تَعَالى ، و " آدم " مفعوله .
وآدم - عليه الصلاة والسلام - كُنيته أبو البَشَر ، وقيل : أبو محمد ذكره السُّهيلي ، وقيل : كنيته في الأرض أبو البشر ، وكنيته في الجنة أبو محمد .
وأصله بهمزتين ، لأنه " أفعل " إلا أنهم لَيَّنُوا الثانية ، فإذا احتجت إلى تحريكها جعلتها " واواً " فقلت : " أوادم " في الجمع ؛ لأنه ليس لها أصل في الياء معروف ، فجعلت الغالب عليها الواو ، عن " الأخفش " .
وفي " آدم " ستة أقوال : أرجحها أنه اسم أعجمي لا اشتقاق فيه ، ووزنه " فَاعَل " كَنَظَائره نحو : " آزر " و " شالخ " ، وإنّما مُنعَ من الصَّرف للعلمية والعُجْمة الشخصية .
والثاني : أنه مشتقٌّ من " الأُدْمَةِ " ، وهي حُمْرَةٌ تميل إلى السَّوَاد ، واختلفوا في الأُدْمَةِ ، فزعم " الضَّحاك " أنها السُّمرة ، وزعم " النَّضْر " أنها البياض ، وأن آدم - عليه الصلاة والسلام - كان أبيض ، مأخوذ من قولهم : ناقة أَدْمَاء ، إذا كانت بيضاء ، وعلى هذا الاشتقاق جمعه " أَدْمٌ " و " أَوَادِمُ " ك " حُمَرٍ " و " أَحَامِرَ " ، ولا ينصرف بوجه .
الثالث : أنه مشتقٌ من أديم الأرض ، وهو وجهها . ومنع من الصَّرف على هَذَيْنِ القولين للوزن والعلميّة .
الرابع : أنه مشتقٌّ من أَدِيم أيضاً على هذا الوزن أعني وزن فاعل ، وهذا خطأ ، لأنه كان يبنغي أن ينصرف ، لأن كونه مشتقٌّ من الأُدْمَة ، وهو أديم الأرض جمعه " آدَمُون " فيلزم قائلو هذه المقالة صرفه .
الخامس : أنه عِبْرِيّ من الإدام ، وهو التراب .
السّادس : قال " الطبري " : إنه في الأصل فعل رباعي مثل : " أكرم " ، وسمي به لغرض إظهار الشيء حتى تعرف جِهَته .
والحاصل أن ادِّعاء الاشتقاق فيه بعيد ؛ لأن الأسماء الأعجمية لا يَدْخُلُهَا اشتقاق ولا تصريف .
و " آدم " وإن كان مفعولاً لفظاً فهو فاعل معنى ، و " الأسماء " مفعول ثانٍ ، والمسألة من باب " أعطى وكَسَا " ، وله أحكام تأتي إن شاء الله تعالى .
وقرئ{[1067]} : " عُلَّمَ " مبنياً للمفعول و " آدمُ " رفع لقيامه مقام الفاعل . و " كُلَّهَا " تأكيد للأسماء تابع أبداً ، وقد يلي العوامل كما تقدّم .
وقوله : { الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } الظاهر أنه لا يحتاج إلى ادِّعَاء حذف ؛ لأن المعنى : وعلم آدم الأسماء ، ولم يبين لنا أسماء مخصوصة ، بل دلّ قوله : " كلها " على الشُّمول ، والحكمة حاصلة بتعلُّم الأسماء ، وإن لم يعلم مسمياتها ، أو يكون أطلق الأسماء ، وأراد المسميات ، فَعَلَى هذين الوجهين لا حَذْفَ .
وقيل : لا بُدّ من حذف ، واختلفوا فيه ، فقيل : تقديره : أسماء المسميات ، فحذف المُضَاف إليه للعلم .
قال الزمخشري : وعوض منه " اللام " ، كقوله تعالى : { وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً } [ مريم : 4 ] ورجّح هذا القول بقوله : { أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ } ، { فَلَمَّا أَنْبَأَهَمْ بَأَسْمَائِهِمْ } ولم يقل : " أَنْبِئُونِي بِهَؤُلاَءِ " ، " فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بهِمْ " ولكن في قوله " وعوض منه اللام " نظر ؛ لأن الألف واللام لا تقوم مَقَامَ الإضافة عند البصريين . وقيل : تقديره : مسميات الأسماء ، فحذف المُضَاف ، وأقيم المُضَاف إليه مقامه ، ورجح هذا القول بقوله : " ثُمَّ عَرَضَهُمْ " لأن الأسماء لا تجمع كذلك ، فدلّ عوده على المسميات ، ونحو هذه الآية قوله تعالى : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ } [ النور : 40 ] .
تقديره : أو كَذِي ظُلُمَاتٍ ، فالهاء في " يغشاه " على " ذي " المحذوف .
فصل في المراد بالأسماء في الآية
اختلف أهل التأويل في معنى الأسماء التي علّمها لآدم - عليه الصلاة والسلام - فقال ابن عباس ، وعكرمه ، وقتادة ، ومجاهد ، وابن جبير : علمه أسماء جميع الأشياء كلّها جليلها وحقيرها{[1068]} .
وروى عاصم بن كليب عن سعد{[1069]} مولى الحَسَنِ بن علي قال : " كنت جالساً عند ابن عباس ، فذكروا اسْمَ الآنِيَةِ وَاسْمَ السّوط ، قال ابن عباس : وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا " .
وروي عن ابن عَبَّاس ، ومجاهد ، وقتادة : " علمه أسماء كلّ شيء حتى القصْعَة والقصيعة وحتى الجَفنة والمِحْلب " وعن قتادة قال : علم آدم من الأسماء أسماء خلقه ما لم تعلم المَلائكة{[1070]} ، وسمى كل شيء باسمه ، وأنحى منفعة كل شيء إلى جنسه .
قال النَّحَّاس : " وهذا أحسن ما روي " .
وقال الطبري " علمه أسماء الملائكة وذريّته " واختار هذا ، ورجّحه بقوله : " ثم عرضهم " .
وقال القتيبي " أسماء ما خلق في الأرض " .
وقيل : أسماء الأجناس والأنواع .
وقال الربيع بن أنس{[1071]} : " أسماء الملائكة " .
وقيل : أسماء ما كان وما يكون إلى يوم القيامة .
وقال أصحاب التأويل : إن الله - عزّ وَجَلّ - علم آدم جميع اللُّغات ، ثم تكلم كل واحد من أولاده بلغة فتفرقوا في البلاد ، واختص كل فرقة منهم بِلُغةٍ .
فصل في بيان أن اللغات توقيفية أو اصطلاحية ؟
قال " الأشعري " و " الجبائي " و " الكعبي " : اللُّغات كلها توفيقيةٌ ، بمعنى أن الله تعالى خلق علماً ضرورياً بتلك الألفاظ ، وتلك المعاني ، وبأن تلك الألفاظ موضوعةٌ{[1072]} لتلك المعاني : لقوله تعالى : { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَآءَ كُلَّهَا } .
وقال " أبو هاشم " : إنه لا بد من تقدم لغة اصطلاحية ، وأن الوضع لا بد وأن يكون مسبوقاً على الاصطلاح ، واحتج بأمور :
أحدها : أنه لو حصل العلم الضروري بأنه - تعالى - وضع ذلك اللَّفظ لذلك المَعْنَى لصارت صفةُ الله معلومةً بالضرورة ، مع أن ذاته معلومة بالاستدلال ، وذلك مُحَال ، ولا جائز أن يحصل لغير العاقل ، لأنه يبعد في العقول أن يحصل العلم بهذه اللُّغَات مع ما فيها من الحكم العجيبة لغير العاقل ، فالقول بالتوقيف فاسد .
وثانيها : أنه - تعالى - خاطب الملائكة ، وذلك يوجب تقدُّم لغة على ذلك التكلم .
وثالثها : أن قوله : { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } يقتضي إضافة التعليم إلى الأسماء ، وذلك يقتضي في تلك الأسماء أنها كانت أسماء قبل ذلك التَّعليم ، وإذا كان كذلك كانت اللُّغات حاصلةً قبل ذلك التعليم .
ورابعها : أن آدم - عليه الصَّلاة والسلام - لما تَحَدَّى الملائكة بعلم الأسماء ، فلا بد وأن تعلم الملائكة كونه صادقاً في تعيين تلك الأسماء لتلك المسميات على ذلك التعليم .
فصل في بيان هل كان آدم نبياً قبل المعصية ؟
قالت المعتزلة : إن علم آدم الأسماء معجزة دالّة على نبوّته - عليه الصلاة والسلام - والأقرب أنه كان مبعوثاً إلى حَوّاء ، ولا يبعد أيضاً أن يكون إلى من توجّه التحدي إليهم من الملائكة ؛ لأن جميعهم وإن كانوا رسلاً فقد يجوز الإرْسَال إلى الرسول ، كبعثة إبراهيم - عليه الصلاة والسّلام - إلى لُوطٍ - عليه الصلاة والسّلام - واحتجوا بأن حصول ذلك العلم له ناقصٌ للعادة ، فوجب أن يكون معجزاً ، وإذا ثبت كونه معجزاً ثبت كونه رسولاً في ذلك الوقت .
ولقائل أن يقول : لا نسلم أن ذلك العلم ناقص للعادة ؛ لأن حصول العلم باللُّغة لمن علمه الله ، وعدم حصوله لمن لم يعلمه ليس بناقصٍ للعادة .
وأيضاً فإما أن يقال : الملائكة علموا كون تلك الأسماء موضوعةً لتلك المسميات ، فحينئذ تحصل المُعَارضة ، ولا تظهر المزية ، وإن لم يعلموا ذلك ، فكيف عرفوا أن آدم أصاب فيما ذكر من كون كلّ واحد من تلك الألفاظ اسماً لكل واحد من تلك المعاني ؟ واعلم أنه يمكن دفع هذا السُّؤال من وجهين :
الأول : ربّما كان لكل صِنْفٍ من أصناف الملائكة لغة من هذه اللغات ، وكان كل صنف جاهلاً بلغة الصنف الآخر ، ثم إن جميع أصناف الملائكة حضروا وإن آدم - عليه الصَّلاة والسلام - لما عَدّ عليهم جميع تلك اللُّغات بأسرها عرف كل صنف إصابته في تلك اللُّغة خاصّة ، فعرفوا بهذه الطريق صدقه إلاّ أنهم بأسرهم عجزوا عن معرفة تلك اللغات بأسرها ، فكان ذلك معجزاً .
الثَّاني : لا يمتنع أن يقال : إنه - تعالى - عرفهم قبل ذلك أنهم إذا سمعوا من آدم - عليه الصلاة والسَّلام - أظهر فعلاً خارقاً للعادة ، فَلِمَ لا يجوز أن يكون ذلك من باب الكرامات أو من باب الإرهاص ؟ وهما عندنا جائزان .
واحتج من قطع بأنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - ما كان نبياً في ذلك الوَقْتِ بوجوه :
أحدها : أنه لو كان نبياً في ذلك الزمان لكان قد صدرت منه المعصية بعد النبوة ، وذلك غير جائز .
وثانيها : لو كان رسولاً في ذلك الوقت لكان إما أن يكون مبعوثاً إلى أحد ، أو لا يكون مبعوثاً إلى أحد ، وإما أن يكون مبعوثاً إلى الملائكة والإنس والجن ، والأَوّل باطل ، لأن الملائكة عند المعتزلة أفضل من البشر ، ولا يجوز جعل الأدون رسولاً إلى الأشرف ؛ لأن الرسول متبوع ، والأمّة تبع ، وجعل الأدون متبوع الأشرف خلاف الأصل ، وأيضا فالمرء إلى قبول القول ممن هو من جنسه أمكن ، ولهذا قال الله تعالى : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً } [ الأنعام : 9 ] ولا جائز أن يكون مبعوثاً إلى البشر ، لأنه ما كان هناك أحد من البشر إلا حَوّاء ، وحواء ما عرفت التكليف إلا بواسطة آدم لقوله تعالى : { وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ } [ البقرة : 35 ] شافههما بهذا التكليف ، وما جعل آدم واسطة ، ولا جائز أن يكون مبعوثاً إلى الجن ؛ لأنه ما كان في السماء أحد من الجنّ ، ولا جائز أيضاً أن يكون مبعوثاً إلى أحد ، لأن المقصود من جعله رسولاً التبليغ ، فحيث لا مبلغ لم يكن في جعله رسولاً فائدة .
وثالثها : قوله تعالى : { ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ } [ طه : 122 ] دليل على أنه إنما اجتباه ربه بعد الزّلة ، فوجب أن يكون قبل الزَّلة غير مجتبى ، وإذا لم يكن ذلك الوقت مجتبى وجب ألا يكون رسولاً ؛ لأن الاجتباء والرسالة مُتَلاَزمان ، لأن الاجتباء لا مَعْنَى له إلاّ التخصيص بأنواع التشريفات ، وكل من جعله الله رسولاً ، فقد خصّه بذلك لقوله تعالى : { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] .
قوله : { ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ } .
" ثم " : حرف للتَّرَاخي كما تقدّم ، والضَّمير في " عَرَضَهُمْ " للمسميات المقدّرة ، أو لإطلاق الأسماء وإرادة المسميات ، كما تقدم .
وقيل : يعود على الأسماء . ونقل عن ابن عباس ، ويؤيده قراءة أُبيّ{[1073]} " عَرَضَهَا " ، وقراءة{[1074]} ابن مسعود{[1075]} : " عَرَضَهُنَّ " إلا أن في هذا القول جعل ضمير غير العقلاء كضمير العقلاء أو نقول : إنما قال ابن عباس ذلك بناء منه أنه أطلق الأسماء ، وأراد المسميات كما تقدم وهو واضح .
و " عَلَى المَلاَئِكَةِ " متعلّق ب " عَرَضَهُمْ " .
قال ابن مسعود وغيره : عرض الأشخاص ، لقوله تعالى : " عَرَضَهُمْ " وقوله : { أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ } .
وفي الحديث : " إنَّه عَرَضَهُمْ أَمْثَالَ الذَّرِّ " {[1076]} .
وقال ابن عباس وغيره : عرض الأسماء{[1077]} .
فصل في بيان أول من تكلم بالعربية
اختلف في أوّل من تكلم بالعربية .
روى كعب الأحبار : أن أول من وضع الكتاب العربي والسّرياني والكتب كلها ، وتكلم بالألسنة كلها آدم عليه الصلاة والسلام . فإن قيل : روى ثور بن يزيد عن خَالِدِ بن مَعْدَان عن كعب قال : أوّل من تكلّم بالعربية جبريل - عليه الصلاة والسلام - وهو الذي أَلْقَاهَا على لسان نُوحٍ عليه الصلاة والسلام ، وألقاها نوح على لسان ابنه سَام .
وقد روي أيضاً : أن أوّل من تكلّم بالعربية يعرب بن قَحْطَان ، وروي غير ذلك ، والجواب الصحيح أن أول من تكلّم بالغات كلها من البشر آدم عليه الصلاة والسلام - والقرآن يشهد له . الآية .
وقال صلى الله عليه وسلم : " وَعَلمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا حَتَّى القَصْعَة وَالقُصَيْعَة " {[1078]} وما ذكروه يحتمل أن يكون المراد به أول من تكلّم بالعربية من ولد إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - إسماعيل عليه الصلاة والسَّلام ، وكذلك إن صَحّ ما سواه فإنه يكون محمولاً على أن المذكور أول من تكلّم من قبيلته بالعربية .
وكذلك جبريل أول من تكلم بها من الملائكة ، وألقاها على لسان نوح بعد أن علمها الله آدم أو جبريل ، على ما تقدم .
قوله : { أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ } .
" الإِنْبَاء " الإخبار ، وأصل أنبأ أن يتعدّى لاثنين ثانيهما بحرف الجر كهذه الآية ، وقد يحذف حرف الجر ، قال تعالى : { مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا }
[ التحريم : 3 ] أي : بهذا ، وقد يتضمّن معنى أعلم اليقينية ، فيتعدّى تعديتها إلى ثلاثة مَفَاعيل ، ومثل أنبأ : نبّأ وأخبر ، وخبر وحدث .
و " هؤلاء " في محل خفض بالإضافة ، وهو اسم إشارة ، ورتبته دُنْيَا ، ويُمَدُّ وَيُقْصَرُ ؛ كقوله : [ الخفيف ]
هؤُلَى ثُمَّ هؤُلَى كُلاًّ اعْطَيْ *** تَ نِعَالاً مَحْذُوَّةً بِمِثَالِ{[1079]}
والمشهور بناؤه على الكَسْرِ ، وقد يضم ، وقد ينوَّن مكسوراً ، وقد تبدل همزته هاء ، فيقال : هؤُلاَه ، وقد يقال : هَوْلاَءِ ؛ كقوله : [ الوافر ]
تَجَلَّدْ لاَ يَقُلْ هَوْلاَءِ : هَذَا *** بَكَى لَمَّا بَكَى أَسَفاً عَلَيْكَا{[1080]}
ولامه عند الفارسي همزة فتكون فاؤه ولامه من مادّة واحدة ، وعند المبرد أصلها ياء ، وإنما قلبت همزةً لتطرفها بعد الألف الزَّائدة .
قوله : { إنْ كُنْتُمْ صَادِقِيْنَ } تقدّم نظيره وجوابه محذوف أي : إنْ كنتم صادقين ، فأنبئوني . والكوفيون والمبرد يرون أن الجواب هو المتقدم ، وهو مردود بقولهم : " أنت ظالم إن فعلت " لأنه لو كان جواباً لوجبت الفاء معه كما تجب معه متأخراً .
وقال ابن عطية : إن كون الجواب مَحْذوفاً هو رأي المبرد ، وكونه متقدماً هو رأي سيبويه ، وهو وهم ؛ لأن المنقول عن المبرد أن التقدير : إن كنتم صادقين أن بني آدم يفسدون في الأرض فأنبئوني . وهذه الآية دالة على فضيلة العلم .