الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٖ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمۡرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡۗ وَمَن يَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَٰلٗا مُّبِينٗا} (36)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: لم يكن لمؤمن بالله ورسوله، ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله في أنفسهم قضاء أن يتخيروا من أمرهم غير الذي قضى فيهم، ويخالفوا أمر الله وأمر رسوله وقضاءهما فيعصوهما، ومن يعص الله ورسوله فيما أَمَرا أو نَهَيا "فَقَدْ ضَلّ ضَلالاً مُبِينا "يقول: فقد جار عن قصد السبيل، وسلك غير سبيل الهدى والرشاد.

وذُكر أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش حين خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتاه زيد بن حارثة، فامتنعت من إنكاحه نفسها. ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: "وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أمْرا" إلى آخر الآية، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق يخطب على فتاه زيد بن حارثة، فدخل على زينب بنت جحش الأسدية فخطبها، فقالت: لست بناكحته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فانكحيه»، فقلت: يا رسول الله أؤامَر في نفسي فبينما هما يتحدّثان أنزل الله هذه الآية على رسوله: "وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ" إلى قوله: "ضَلالاً مُبِينا" قالت: قد رضيته لي يا رسول الله مَنْكَحا؟ قال: «نَعم»، قالت: إذن لا أعصي رسول الله، قد أنكحته نفسي...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا} وإن كان هذا في المؤمنين، فيكون الضلال هو الخطأ، كأنه قال: فقد أخطأ خطأ بينا، وإن كان في المنافقين فهم في ضلال بيّن؛ فالضلال من المؤمن، لا يفهم منه ما يفهم من الكافر والمنافق.

أحكام القرآن للجصاص 370 هـ :

فيه الدلالة على أن أوامر الله تعالى وأوامر رسوله على الوجوب؛ لأنه قد نفى بالآية أن تكون لنا الخِيرَةُ في تَرْكِ أوامر الله وأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو لم يكن على الوجوب لكنا مخيَّرين بين الترك والفعل، وقد نفت الآية التخيير. وقوله تعالى: {ومَنْ يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ} في نسق ذِكْرِ الأوامر يدل على ذلك أيضاً وأن تارك الأمر عاصٍ لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم؛ فقد انتظمت الآية الدلالة على وجوب أوامر الله وأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم من وجهين، أحدهما: أنها نفت التخيير معهما، والثاني: أن تارك الأمر عاصٍ لله ورسوله.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

الافتياتُ عليه في أمره والاعتراضُ عليه في حُكْمِه وتَرْكُ الانقيادِ لإشارته، قَرْعٌ لبابِ الشِّرْكِ، فَمَنْ لم يُمْسِكْ عنه سريعاً وَقَعَ في وهدته...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

والمعنى وما صحّ لرجل ولا امرأة من المؤمنين {إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ} أي رسول الله، أو لأن قضاء رسول الله هو قضاء الله.

{أمْراً} من الأمور: أن يختاروا من أمرهم ما شاؤوا، بل من حقهم أن يجعلوا رأيهم تبعاً لرأيه، واختيارهم تلواً لاختياره.

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

وَاَلَّذِي رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عن أَنَسٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ مُطْلَقًا من غَيْرِ تَفْسِيرٍ.

مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي 710 هـ :

فإن كان العصيان عصيان رد وامتناع عن القبول فهو ضلال وكفر، وإن كان عصيان فعل مع قبول الأمر واعتقاد الوجوب فهو ضلال خطأ وفسق.

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

ومناسبة هذه الآية أنه لما ذكر تلك الأوصاف السابقة من الإسلام فما بعده، عقب ذلك بما صدر من بعض المسلمين، إذ أشار الرسول بأمر وقع منهم الإباء له، فأنكر عليهم، إذ طاعته، عليه السلام، من طاعة الله، وأمره من أمره.

الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي 875 هـ :

{وَمَا كَانَ} لفظه النفي، ومعناه الحظرُ والمنعُ.

والخيرةُ مصدرُ بمعنى التَّخَيُّر.

روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :

إشارة إلى مقام التسليم وأنه اللائق بالمؤمنين وهذا حكم مستمر على الأمة إلى يوم القيامة فلا ينبغي لأحد بلغه شيء عن الله عز وجل وعن رسوله صلى الله عليه وسلم أن يختار لنفسه خلافه لإشعار ذلك باتهام الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ْ} لأنه ترك الصراط المستقيم الموصلة إلى كرامة اللّه إلى غيرها من الطرق الموصلة للعذاب الأليم، فذكر أولاً السبب الموجب لعدم معارضته أمر اللّه ورسوله، وهو الإيمان، ثم ذكر المانع من ذلك، وهو التخويف بالضلال، الدال على العقوبة والنكال...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

هذا الدرس شوط جديد في إعادة تنظيم الجماعة المسلمة على أساس التصور الإسلامي. وهو يختص ابتداء بإبطال نظام التبني الذي ورد الحديث عنه في أول السورة. وقد شاء الله أن ينتدب لإبطال هذا التقليد من الناحية العملية رسوله [صلى الله عليه وسلم] وقد كانت العرب تحرم مطلقة الابن بالتبني حرمة مطلقة الابن من النسب؛ وما كانت تطيق أن تحل مطلقات الأدعياء عملا، إلا أن توجد سابقة تقرر هذه القاعدة الجديدة. فانتدب الله رسوله ليحمل هذا العبء فيما يحمل من أعباء الرسالة. وسنرى من موقف النبي [صلى الله عليه وسلم] من هذه التجربة أنه ما كان سواه قادرا على احتمال هذا العبء الجسيم، ومواجهة المجتمع بمثل هذه الخارقة لمألوفه العميق! وسنرى كذلك أن التعقيب على الحادث كان تعقيبا طويلا لربط النفوس بالله ولبيان علاقه المسلمين بالله وعلاقتهم بنبيهم، ووظيفة النبي بينهم.. كل ذلك لتيسير الأمر على النفوس، وتطييب القلوب لتقبل أمر الله في هذا التنظيم بالرضى والتسليم.

ولقد سبق الحديث عن الحادث تقرير قاعدة أن الأمر لله ورسوله، وأنه (ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم). مما يوحي كذلك بصعوبة هذا الأمر الشاق المخالف لمألوف العرب وتقاليدهم العنيفة.

(وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا)..

روي أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش -رضي الله عنها- حينما أراد النبي [صلى الله عليه وسلم] أن يحطم الفوارق الطبقية الموروثة في الجماعة المسلمة؛ فيرد الناس سواسية كأسنان المشط. لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى. وكان الموالي -وهم الرقيق المحرر- طبقة أدنى من طبقة السادة. ومن هؤلاء كان زيد بن حارثة مولى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] الذي تبناه. فأراد رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أن يحقق المساواة الكاملة بتزويجه من شريفة من بني هاشم، قريبته [صلى الله عليه وسلم] زينب بنت جحش؛ ليسقط تلك الفوارق الطبقية بنفسه، في أسرته. وكانت هذه الفوارق من العمق والعنف بحيث لا يحطمها إلا فعل واقعي من رسول الله [صلى الله عليه وسلم] تتخذ منه الجماعة المسلمة اسوة، وتسير البشرية كلها على هداه في هذا الطريق.

روى ابن كثير في التفسير قال: قال العوفي عن ابن عباس -رضي الله عنهما -: قوله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة). الآية. وذلك أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] انطلق ليخطب على فتاه زيد بن حارثة- رضي الله عنه -فدخل على زينب بنت جحش الأسدية- رضي الله عنها -فخطبها، فقالت: لست بناكحته! فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]:"بلى فانكحيه". قالت: يا رسول الله. أؤامر في نفسي؟ فبينما هما يتحدثان أنزل الله هذه الآية على رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا).. الآية. قالت: قد رضيته لي يا رسول الله منكحا؟ قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: "نعم "! قالت: إذن لا أعصي رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قد أنكحته نفسي!

وقال ابن لهيعة عن أبي عمرة عن عكرمة عن ابن عباس- رضي الله عنهما -قال: خطب رسول الله [صلى الله عليه وسلم] زينب بنت جحش لزيد بن حارثة- رضي الله عنه -فاستنكفت منه، وقالت: أنا خير منه حسبا- وكانت امرأة فيها حدة -فأنزل الله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة...) الآية كلها.

وهكذا قال مجاهد وقتادة ومقاتل بن حيان أنها نزلت في زينب بنت جحش- رضي الله عنها -حين خطبها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] على مولاه زيد بن حارثة- رضي الله عنه -فامتنعت ثم أجابت.

وروى ابن كثير في التفسير كذلك رواية أخرى قال: وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط- رضي الله عنها -وكانت أول من هاجر من النساء- يعني بعد صلح الحديبية -فوهبت نفسها للنبي [صلى الله عليه وسلم] فقال: "قد قبلت". فزوجها زيد بن حارثة- رضي الله عنه -[يعني والله أعلم بعد فراقه زينب] فسخطت هي وأخوها، وقال: إنما أردنا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فزوجنا عبده! قال: فنزل القرآن: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا) إلى آخر الآية. قال: وجاء أمر أجمع من هذا: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) قال: فذاك خاص وهذا أجمع.

وفي رواية ثالثة: قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن ثابت البناني، عن أنس- رضي الله عنه -قال: خطب النبي [صلى الله عليه وسلم] على جليبيب امرأة من الأنصار إلى أبيها. فقال: حتى أستأمر أمها. فقال النبي [صلى الله عليه وسلم]:"فنعم إذن". قال: فانطلق الرجل إلى امرأته، فذكر ذلك لها، فقالت: لاها الله! إذن ما وجد رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إلا جليبيبا، وقد منعناها من فلان وفلان؟ قال: والجارية في سترها تسمع. قال: فانطلق الرجل يريد أن يخبر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بذلك. فقالت الجارية: أتريدون أن تردوا على رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أمره؟ إن كان قد رضيه لكم فأنكحوه. قال: فكأنها جلت عن أبويها. وقالا: صدقت. فذهب أبوها إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فقال: إن كنت قد رضيته فقد رضيناه. قال [صلى الله عليه وسلم] "فإني قد رضيته". قال: فزوجها.. ثم فزع أهل المدينة، فركب جليبيب، فوجدوه قد قتل، وحوله ناس من المشركين قد قتلهم. قال أنس- رضي الله عنه -فلقد رأيتها وإنها لمن أنفق بيت بالمدينة..

فهذه الروايات- إن صحت -تعلق هذه الآية بحادث زواج زينب من زيد- رضي الله عنهما -أو زواجه من أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط.

وقد أثبتنا الرواية الثالثة عن جليبيب لأنها تدل على منطق البيئة الذي توكل الإسلام بتحطيمه، وتولى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] تغييره بفعله وسنته. وهو جزء من إعادة تنظيم الجماعة المسلمة على أساس منطق الإسلام الجديد، وتصوره للقيم في هذه الأرض، وانطلاق النزعة التحررية القائمة على منهج الإسلام، المستمدة من روحه العظيم.

ولكن نص الآية أعم من أي حادث خاص. وقد تكون له علاقة كذلك بإبطال آثار التبني، وإحلال مطلقات الأدعياء، وحادث زواج رسول الله [صلى الله عليه وسلم] من زينب- رضي الله عنها -بعد طلاقها من زيد. الأمر الذي كانت له ضجة عظيمة في حينه. والذي ما يزال يتخذه بعض أعداء الإسلام تكأة للطعن على رسول الله [صلى الله عليه وسلم] حتى اليوم، ويلفقون حوله الأساطير!

وسواء كان سبب نزول الآية ما جاء في تلك الروايات، أو كانت بصدد زواج الرسول [صلى الله عليه وسلم] من زينب- رضي الله عنها -فإن القاعدة التي تقررها الآية أعم وأشمل، وأعمق جدا في نفوس المسلمين وحياتهم وتصورهم الأصيل.

فهذا المقوم من مقومات العقيدة هو الذي استقر في قلوب تلك الجماعة الأولى من المسلمين استقرارا حقيقيا؛ واستيقنته أنفسهم، وتكيفت به مشاعرهم.. هذا المقوم يتلخص في أنه ليس لهم في أنفسهم شيء؛ وليس لهم من أمرهم شيء. إنما هم وما ملكت أيديهم لله. يصرفهم كيف يشاء، ويختار لهم ما يريد. وإن هم إلا بعض هذا الوجود الذي يسير وفق الناموس العام. وخالق هذا الوجود ومدبره يحركهم مع حركة الوجود العام؛ ويقسم لهم دورهم في رواية الوجود الكبيرة؛ ويقرر حركاتهم على مسرح الوجود العظيم. وليس لهم أن يختاروا الدور الذي يقومون به، لأنهم لا يعرفون الرواية كاملة؛ وليس لهم أن يختاروا الحركة التي يحبونها لأن ما يحبونه قد لا يستقيم مع الدور الذي خصص لهم! وهم ليسوا أصحاب الرواية ولا المسرح؛ وإن هم إلا أجراء، لهم أجرهم على العمل، وليس لهم ولا عليهم في النتيجة!

عندئذ أسلموا أنفسهم حقيقة لله. أسلموها بكل ما فيها؛ فلم يعد لهم منها شيء. وعندئذ استقامت نفوسهم مع فطرة الكون كله؛ واستقامت حركاتهم مع دورته العامة؛ وساروا في فلكهم كما تسير تلك الكواكب والنجوم في أفلاكها، لا تحاول أن تخرج عنها، ولا أن تسرع أو تبطئ في دورتها المتناسقة مع حركة الوجود كله.

وعندئذ رضيت نفوسهم بكل ما يأتي به قدر الله، لشعورهم الباطن الواصل بأن قدر الله هو الذي يصرف كل شيء، وكل أحد، وكل حادث، وكل حالة. واستقبلوا قدر الله فيهم بالمعرفة المدركة المريحة الواثقة المطمئنة.

وشيئا فشيئا لم يعودوا يحسون بالمفاجأة لقدر الله حين يصيبهم، ولا بالجزع الذي يعالج بالتجمل؛ أو بالألم الذي يعالج بالصبر. إنما عادوا يستقبلون قدر الله استقبال العارف المنتظر المرتقب لأمر مألوف في حسه، معروف في ضميره، ولا يثير مفاجأة ولا رجفة ولا غرابة!

ومن ثم لم يعودوا يستعجلون دورة الفلك ليقضوا أمرا هم يريدون قضاءه، ولم يعودوا يستبطئون الأحداث لأن لهم أربا يستعجلون تحقيقه، ولو كان هذا الأرب هو نصر دعوتهم وتمكينها! إنما ساروا في طريقهم مع قدر الله، ينتهي بهم إلى حيث ينتهي، وهم راضون مستروحون، يبذلون ما يملكون من أرواح وجهود وأموال في غير عجلة ولا ضيق، وفي غير من ولا غرور، وفي غير حسرة ولا أسف. وهم على يقين أنهم يفعلون ما قدر الله لهم أن يفعلوه؛ وأن ما يريده الله هو الذي يكون، وأن كل أمر مرهون بوقته وأجله المرسوم.

إنه الاستسلام المطلق ليد الله تقود خطاهم، وتصرف حركاتهم؛ وهم مطمئنون لليد التي تقودهم، شاعرون معها بالأمن والثقة واليقين، سائرون معها في بساطة ويسر ولين.

وهم- مع هذا -يعملون ما يقدرون عليه، ويبذلون ما يملكون كله، ولا يضيعون وقتا ولا جهدا، ولا يتركون حيلة ولا وسيلة. ثم لا يتكلفون ما لا يطيقون، ولا يحاولون الخروج عن بشريتهم وما فيها من خصائص، ومن ضعف وقوة؛ ولا يدعون ما لا يجدونه في أنفسهم من مشاعر وطاقات، ولا يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، ولا أن يقولوا غير ما يفعلون.

وهذا التوازن بين الاستسلام المطلق لقدر الله، والعمل الجاهد بكل ما في الطاقة، والوقوف المطمئن عند ما يستطيعون.. هذا التوازن هو السمة التي طبعت حياة تلك المجموعة الأولى وميزتها؛ وهي التي أهلتها لحمل أمانة هذه العقيدة الضخمة التي تنوء بها الجبال!

واستقرار ذلك المقوم الأول في أعماق الضمائر هو الذي كفل لتلك الجماعة الأولى تحقيق تلك الخوارق التي حققتها في حياتها الخاصة، وفي حياة المجتمع الإنساني إذ ذاك. وهو الذي جعل خطواتها وحركاتها تتناسق مع دورة الأفلاك، وخطوات الزمان، ولا تحتك بها أو تصطدم، فتتعوق أو تبطئ نتيجة الاحتكاك والاصطدام. وهو الذي بارك تلك الجهود، فإذا هي تثمر ذلك الثمر الحلو الكثير العظيم في فترة قصيرة من الزمان.

ولقد كان ذلك التحول في نفوسهم بحيث تستقيم حركتها مع حركة الوجود، وفق قدر الله المصرف لهذا الوجود.. كان هذا التحول في تلك النفوس هو المعجزة الكبرى التي لا يقدر عليها بشر؛ إنما تتم بإرادة الله المباشرة التي أنشأت الأرض والسماوات، والكواكب والأفلاك؛ ونسقت بين خطاها ودوراتها ذلك التنسيق الإلهي الخاص.

وإلى هذه الحقيقة تشير هذه الآيات الكثيرة في القرآن.. حيث يقول الله تبارك وتعالى: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء).. أو يقول: (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء).. أو يقول: (إن الهدى هدى الله).. فذلك هو الهدى بحقيقته الكبيرة ومعناه الواسع. هدى الإنسان إلى مكانه في هيكل هذا الوجود؛ وتنسيق خطاه مع حركة هذا الوجود.

ولن يؤتي الجهد كامل ثماره إلا حين يستقيم القلب على هدى الله بمعناه؛ وتستقيم حركة الفرد مع دورة الوجود؛ ويطمئن الضمير إلى قدر الله الشامل الذي لا يكون في الوجود أمر إلا وفق مقتضاه.

ومن هذا البيان ينجلي أن هذا النص القرآني: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم).. أشمل وأوسع وأبعد مدى من أي حادث خاص يكون قد نزل فيه. وأنه يقرر كلية أساسية، أو الكلية الأساسية، في منهج الإسلام!

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

{ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً} تذييل تعميم للتحذير من مخالفة الرسول عليه الصلاة والسلام سواء فيما هو فيه الخيرة أم كان عن عمد للهوى في المخالفة.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

استسلام المؤمنين المطلق لقضاء الله ورسوله هذا هو الخط المستقيم في الالتزام الإيماني للإنسان المؤمن، رجلاً كان أو امرأة، إذا وقف أمام أوامر الله ونواهيه، فلا بد له من الاستسلام المطلق الذي لا مجال معه لأيّة خصوصية فكريةٍ أو عاطفيةٍ أو مزاجية أو أيّة مصلحةٍ شخصيةٍ أو أيّ وضعٍ عائليٍّ أو اجتماعي، في ما يمكن أن يدفعه إلى التأمّل والتفكير أو التوقف فيما بين خط التقدم والتأخر، لأن الإنسان المؤمن يحمل الإحساس الداخلي العميق بأن وجوده لا يملك أيّة استقلاليةٍ أمام وجود الله، وأن إرادته لا تملك أيّ تماسكٍ أو أيّة قوّةٍ، في مواجهة إرادة الله، بل هي منسحقةٌ في خط إرادته، وهذا هو الذي يحفظ للإنسان توازنه، وللمجتمع نظامه، وللحياة قوّتها وصلابتها واستقرارها.

{أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} فلا مجال هناك لعملية الاختيار الذاتي، ليوازنوا بين ما يريدونه وبين ما يريده الله، ليختاروا هذا تارةً وذاك أخرى، فإن هذا هو معنى الإسلام في معناه العميق الذي يعني إسلام كل شيءٍ لله، واختيار ما يريده دائماً على طول الخطّ.