تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٖ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمۡرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡۗ وَمَن يَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَٰلٗا مُّبِينٗا} (36)

الآية 36 [ وقوله تعالى ]( {[16651]} ) : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } قال جعفر بن حرب [ المعتزلي ]( {[16652]} ) : دلت هذه الآية على أن الكفر مما لم يقضه الله ، لأنه لو كان مما قضاه الله لكان لا يكون لهم الخيرة والتخيير . فإن قال : إنه : { إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة } دل أنه مما لم يقضه الله .

لكن يقول : إن القضاء ههنا ، ليس هو قضاء الخلق على ما فهم هو ، ولكن القضاء ههنا الأمر [ أو الحكم . فالأمر ]( {[16653]} ) كقوله : { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } [ الإسراء : 23 ] أي أمر ربك ، وأوجب ألا تعبدوا إلا إياه .

[ ويحتمل ]( {[16654]} ) أن يكون الحكم كقوله : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلّموا تسليما } [ النساء : 65 ] أي مما حكمت .

فإذا كان القضاء يحتمل الأمر والحكم على ما ذكرنا ، فيكون كأنه قال : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله { ورسوله أمرا } أي إذا أمر الله ورسوله أمرا ، أو إذا حكم الله ورسوله حكما( {[16655]} ) { أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } وهكذا يكون في ما أمر الله ورسوله بأمر ، أو حكم بحكم ألا يكون لأحد التخيير في ذلك .

ومما يدل أيضا على أن القضاء أيضا ههنا ، ليس هو القضاء الذي فهم المعتزلة حين( {[16656]} ) أضاف ذلك إلى رسوله أيضا حين( {[16657]} ) قال : { إذا قضى الله ورسوله أمرا } ولا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان لا يملك القضاء الذي هو قضاء خلق . دل أن المعتزلة أخطأت ، وغلطت ، في فهم ذلك ، وقصرت عقولهم عن درك ذلك ، وأن التأويل ما ذكرنا نحن .

ثم أجمع أهل التأويل على أن قوله : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } إنما نزل في زينب بنت جحش ؛ يذكرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان أعتق زيد بن حارثة ، وتبناه ، وكان مولى له ، فخطب له زينب بنت جحش ، فقالت زينب : إني لا أرضاه لنفسي ، وأنا من أتم نساء قريش ، وكانت ابنة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بنت ميمونة بنت عبد المطلب فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : قد رضيته لك ، فزوجي نفسك منه ، فأبت ذلك ، فنزل قول فيها : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } .

لكن إن كان على [ ما ]( {[16658]} ) يذكرون من الخطبة لها ، فلا يحتمل أن يجبرها على النكاح ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ( ليس( {[16659]} ) للولي مع الثيب أمر ) [ أبو داوود 2100 ] وقال النبي صلى الله عليه وسلم ( البكر تستأمر في نفسها ، والثيب تشاور ) [ بنحوه مسلم 1419 ] ثم تجيء الآية في جبرها على النكاح ممن شاء ، وله الحكم بالنكاح لمن شاء على من شاء وليس لهم الخيرة في ذلك .

فأما بالخطبة [ فهي ]( {[16660]} ) دون الأمر والحكم من الله ، لا جبر في ذلك . ألا ترى أنه ذكر : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطب أم سلمة ، فقالت : إن أوليائي غيب ، فقال : ليس أحد من أوليائك لا يرضى بي ) [ أحمد : 6/295 ] أو كلام نحوه ، خطبها ، ولم يجبرها على ذلك ؟

فعلى ذلك زينب ، إلا أن يكون على الأمر والحكم على ما ذكرنا ، أو أن يكون سبب نزول الآية في من ذكر أهل التأويل في خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش ، ويكون الوعيد الذي ذكر فيه في غيره في ما فيه أمر من الله أو حكم نحو ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أنه صلى الفجر ، فرأى رجلين جالسين ، فقال لهما : ما بالكما لم تصليا معنا ؟ فقالا : إنا قد صلينا في رجالنا ، فقال : إذا صليتما ، ثم أتيتما المسجد ، فصليا معهم ، فتكون لكما سبحة ) [ بنحوه أبو داوود 575 ] وإنما قال : فصليا معهم لا في صلاة الفجر ، ولكن في الصلوات التي يتطوع بعدها .

وقوله تعالى : { ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا } وإن كان هذا في المؤمنين فيكون الضلال ، هو الخطأ ، كأنه قال : فقد أخطأ خطأ بينا .

ويجوز هذا في اللغة نحو قول إخوة يوسف لأبيهم في تفضيله يوسف عليه السلام ، حين( {[16661]} ) قالوا : { إن أبانا لفي ضلال مبين } [ يوسف : 8 ] أي في خطأ بيّن حين( {[16662]} ) يفضل من لا منفعة له منه على من منه منفعة . فعلى ذلك هذا .

وإن كان في المنافقين فهم في ضلال بيّن . فالضلال من المؤمن ، لا يفهم منه ما يفهم من الكافر والمنافق .

ألا ترى أن الظلم من المؤمن ، لا يفهم منه ما يفهم من المنافق أو الكافر ؟

ألا ترى أن آدم وحواء لما ارتكبا ، وقربا تلك الشجرة : { قالا ربنا ظلمنا أنفسنا } [ الأعراف : 23 ] لم يريدا ظلم كفر ؟ وعلى ذلك قوله : { فتكونا من الظالمين } [ البقرة : 53 والأعراف : 19 ] .

فعلى ذلك المفهوم من ضلال المؤمن غير المفهوم من ضلال المنافق والكافر ، والله أعلم .


[16651]:ساقطة من الأصل وم.
[16652]:من م، في الأصل: المعتزلة.
[16653]:في الأصل: والحكم، في م: أو الحكم.
[16654]:في الأصل وم: أو.
[16655]:في الأصل وم: أمرا.
[16656]:في الأصل وم: حيث.
[16657]:في الأصل وم: حيث.
[16658]:من م، ساقطة من الأصل.
[16659]:من م، ساقطة من الأصل.
[16660]:ساقطة من الأصل وم.
[16661]:في الأصل وم: حيث.
[16662]:في الأصل وم: حيث.