فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٖ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمۡرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡۗ وَمَن يَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَٰلٗا مُّبِينٗا} (36)

{ وَمَا كَانَ } أي ما صح وما استقام { لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } قال القرطبي : لفظ ما كان وما ينبغي ونحوهما معناها الحظر والمنع من الشيء والإخبار بأنه لا يحل شرعا أن يكون ، وقد يكون لما يمتنع عقلا كقوله : { ما كان لكم أن تنبتوا شجرها } ، ومعنى الآية : أنه لا يحل لمن يؤمن بالله – إذا قضى الله أمرا – أن يختار من أمر نفسه ما شاء ، بل يجب عليه أن يذعن للقضاء ويوقف نفسه تحت ما قضاه الله عليه ، واختاره له ، ويجعل رأيه تبعا لرأيه . وجمع الضمير في قوله لهم ومن أمرهم ؛ لأن مؤمنا وقعا في سياق النفي ، فهما يعمان كل مؤمن ومؤمنة . قرئ أن يكون بالتحتية ؛ لأنه قد فرق بين الفعل وفاعله المؤنث بقوله : لهم مع كون التأنيث غير حقيقي ، وقرئ بالفوقية لكونه مسندا إلى الخيرة وهي مؤنثة لفظا والخيرة مصدر بمعنى الاختيار ، ودل ذلك على أن الأمر للوجوب ، وقرئ بسكون التحتية وبتحريكها . ثم توعد سبحانه من لم يذعن لقضاء الله وقدره فقال : { وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ } في أمر من الأمور ومن ذلك عدم الرضاء بالقضاء { فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُّبِينًا } أي ضل عن طريق الحق ضلالا ظاهرا واضحا لا يخفى ، فإن كان العصيان عصيان رد وامتناع عن القبول فهو ضلال كفر ، وإن كان عصيان فعل مع قبول الأمر واعتقاد الوجوب فهو ضلال خطأ وفسق .

عن ابن عباس قال : ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق ليخطب على فتاه زيد بن حارثة فدخل على زينب بنت جحش الأسدية فخطبها . قالت : لست بناكحته

قال : بلى فانكحيه . قالت : يا رسول الله أؤامر نفسي ، فبينما هما يتحدثان أنزل الله هذه الآية على رسوله . قالت : قد رضيته لي يا رسول الله منكحا ، قال : نعم قالت : إذن لا أعصي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم قد أنحكته نفسي ) أخرجه ابن جرير وابن مردويه ، وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزينب : إني أريد أن أزوجك زيد بن حارثة فإني قد رضيته لك . قالت : يا رسول الله لكني لا أرضاه لنفسي ، أما أيم قومي ، وبنت عمتك ، فلم أكن لأفعل فنزلت هذه الآية : ( وما كان لمؤمن ) يعني : زيدا ( ولا مؤمنة ) يعني زينب ( إذا قضى الله ورسوله أمرا ) يعني النكاح في هذا الموضع ( أن تكون لهم الخيرة من أمرهم ) ، يقول : ليس لهم الخيرة من أمرهم خلاف ما أمر الله به ، قالت : قد أطعتك فاصنع ما شئت ، فزوجها زيد ودخل عليها . أخرجه ابن مردويه .

وعن ابن زيد قال : نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وكانت أول امرأة هاجرت فوهبت نفسها للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فزوجها زيد بن حارثة فسخطت هي وأخوها وقالا : إنما أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجها عبده ، وكان تزوج زيد بزينب قبل الهجرة بنحو ثمان سنين ، وبعد ما طلق زيد زينب زوجه ( صلى الله عليه وسلم ) أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وكانت وهبت نفسها للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فزوجها من زيد ، وكان زوجه قبلها أم أيمن وولدت له أسامة ، وكانت ولادته بعد البعثة بثلاث سنين ، وقيل بخمس . وفي شرح المواهب أن أم أيمن ، هي بركة الحبشية بنت ثعلبة اعتقها عبد الله أبو النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وقيل بل اعتقها هو ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل : كانت لأمه أسلمت قديما وهاجرت الهجرتين ماتت بعده ( صلى الله عليه وسلم ) بخمسة أشهر ، وقيل بستة ، ودلت الآية على لزوم إتباع قضاء الكتاب والسنة ، وذم التقليد والرأي ، وعدم خيرة الأمر في مقابلة النص من الله ورسوله ( صلى الله عليه وسلم ) وإن كان السبب خاصا فان الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .