ثم خاطبهن الله تعالى بأنهن لسن كأحد من نساء عصرهن فما بعد ، بل هن أفضل بشرط التقوى لما منحهن من صحبة الرسول وعظيم المحل منه ونزول القرآن في لحفهن ، وإنما خصص لأن فيمن تقدم آسية ومريم فتأمله ، وقد أشار إلى هذا قتادة ثم نهاهن الله تعالى عما كانت الحال عليه في نساء العرب من مكالمة الرجال برخيم القول ، و { لا تخضعن } معناه ولا تلن ، وقد يكون الخضوع في القول في نفس الألفاظ ورخامتها ، وإن لم يكن المعنى مريباً ، والعرب تستعمل لفظة الخضوع بمعنى الميل في الغزل ومنه قول ليلى الأخيلية حين قال لها الحجاج : هل رأيت قط من توبة شيئاً تكرهينه ، قالت : لا والله أيها الأمير إلا أنه أنشدني يوماً شعراً ظننت أنه قد خضع لبعض الأمر فأنشدته : [ الطويل ]
وذي حاجة قلنا له لا تبح بها . . . فليس إليها ما حييت سبيل{[9507]}
الحكاية ، وقال ابن زيد : خضوع القول ما يدخل في القلوب الغزل ، وقرأ الجمهور «فيطمعَ » بالنصب على أنه نصب بالفاء في جواب النهي ، وقرأ الأعرج وأبان بن عثمان «فيطمعِ » بالجزم وكسر للالتقاء{[9508]} ، وهذه فاء عطف محضة وكأن النهي دون جواب ظاهر ، وقراءة الجمهور أبلغ في النهي لأنها تعطي أن الخضوع سبب الطمع ، قال أبو عمرو الداني قرأ الأعرج وعيسى بن عمر «فيَطمِع » بفتح الياء وكسر الميم ، و «المرض » في هذه الآية قال قتادة هو النفاق ، وقال عكرمة الفسق والغزل وهذا أصوب ، وليس للنفاق مدخل في هذه الآية ، والقول المعروف هو الصواب الذي لا تنكره الشريعة ولا النفوس .
{ يانسآء النبيء لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النسآء إِنِ اتقيتن }
أعيد خطابهن من جانب ربهنّ وأعيد نداؤهن للاهتمام بهذا الخبر اهتماماً يخصُّه .
وأحد : اسم بمعنى واحد مثل : { قل هو الله أحد } [ الإخلاص : 1 ] وهمزته بدل من الواو . وأصلهُ : وَحَد بوزن فَعَل ، أي متوحِّد ، كما قالوا : فَرَد بمعنى منفرد . قال النابغة يذكر ركوبه راحلته :
كان رحلي وقد زال النهار بنا *** يوم الجليل على مستأنس وَحد
يُريد على ثور وحشي منفرد . فلما ثقل الابتداء بالواو شاع أن يقولوا : أَحد ، وأكثر ما يستعمل في سياق النفي ، قال تعالى : { فما منكم من أحد عنه حاجزين } [ الحاقة : 47 ] فإذا وقع في سياق النفي دل على نفي كل واحد من الجنس .
ونفي المشابهة هُنا يراد به نفي المساواة مكنَّى به عن الأفضلية على غيرهنّ مثل نفي المساواة في قوله تعالى : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله } [ النساء : 95 ] ، فلولا قصد التفضيل ما كان لزيادة { غير أولي الضرر } وجه ولا لسبب نزولها داع كما تقدم في سورة النساء ( 95 ) . فالمعنى : أنتُنَّ أفضل النساء ، وظاهره تفضيل لجملتهن على نساء هذه الأمة ، وسبب ذلك أنهن اتصَلْنَ بالنبي عليه الصلاة والسلام اتصالاً أقرب من كل اتصال وصرن أنيساته ملازمات شؤونه فيختصصن باطلاع ما لم يطلع عليه غيرُهن من أحواله وخلقه في المنشط والمكره ، ويتخلقن بخلقه أكثر مما يقتبس منه غيرهن ، ولأن إقباله عليهن إقبالٌ خاص ، ألا ترى إلى قوله : حُبِّب إلي من دنياكم النساء والطيب ، وقال تعالى : { والطيبات للطيبين } [ النور : 26 ] . ثم إن نساء النبي عليه الصلاة والسلام يتفاضلن بينهن .
والتقييد بقوله : { إن اتقيتن } ليس لقصد الاحتراز عن ضد ذلك وإنما هو إلْهاب وتحريض على الازدياد من التقوى ، وقريب من هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لحفصة : " إن عبد الله يعني أخاها رجل صالح لو كان يَقوم من الليل " فلما أبلغت حفصة ذلك عبد اللَّه بن عمر لم يترك قيام الليل بعد ذلك لأنه علم أن المقصود التحريض على القيام .
وفعل الشرط مستعمل في الدلالة على الدوام ، أي إن دمتنّ على التقوى فإن نساء النبي صلى الله عليه وسلم مُتَّقِيات من قبلُ ، وجواب الشرط دل عليه ما قبله .
واعلم أن ظاهر هذه الآية تفضيل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على جميع نساء هذه الأمة . وقد اختُلِف في التفاضل بين الزوجات وبين بنات النبي صلى الله عليه وسلم وعن الأشعري الوقف في ذلك ، ولعل ذلك لتعارض الأدلة السمعية ولاختلاف جهات أصول التفضيل الدينية والروحية بحيث يعسر ضبطها بضوابط . أشار إلى جملة منها أبو بكر بن العربي في « شرح الترمذي » في حديث رؤيا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى ميزاناً نزل من السماء فوُزن النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ، فرجح النبي صلى الله عليه وسلم ووُزن أبو بكر وعُمر فرجح أبو بكر ، ووُزن عمر وعثمان فرجح عُمر ، ثم رُفع الميزان .
والجهات التي بنى عليها أبو بكر بن العربي أكثرها من شؤون الرجال . وليس يلزم أن تكون بنات النبي ولا نساؤه سواء في الفضل . ومن العلماء مَن جزموا بتفضيل بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم على أزواجه وبخاصة فاطمة رضي الله عنها وهو ظاهر كلام التفتزاني في كتاب « المقاصد » . وهي مسألة لا يترتب على تدقيقها عمل فلا ينبغي تطويل البحث فيها .
والأحسن أن يكون الوقف على { إن اتقيتن } ، وقوله { فلا تخضعن } ابتداء تفريع وليس هو جواب الشرط .
{ فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا }
فُرع على تفضيلهن وترفيع قدرهن إرشادُهُنّ إلى دقائق من الأخلاق قد تقع الغفلة عن مراعاتها لخفاء الشعور بآثارها ، ولأنها ذرائع خفية نادرة تفضي إلى ما لا يليق بحرمتهن في نفوس بعض ممن اشتملت عليه الأمة ، وفيها منافقوها .
وابتدىء من ذلك بالتحذير من هيئة الكلام فإن الناس متفاوتون في لينه ، والنساءُ في كلامهن رقّة طبيعية وقد يكون لبعضهن من اللطافة ولِين النفس ما إذا انضمّ إلى لينها الجبليّ قرُبت هيئته من هيئة التَدلّل لقلة اعتياد مثله إلا في تلك الحالة . فإذا بدا ذلك على بعض النساء ظَنّ بعض من يُشافِهُها من الرجال أنها تتحبّب إليه ، فربما اجترأت نفسُه على الطمع في المغازلة فبدرت منه بادرة تكون منافية لحرمة المرأة ، بله أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللاتي هنّ أمهات المؤمنين .
والخضوع : حقيقته التذلّل ، وأطلق هنا على الرقة لمشابهتها التذلل .
والباء في قوله : { بالقول } يجوز أن تكون للتعدية بمنزلة همزة التعدية ، أي لا تُخضعن القول ، أي تَجعَلْنَه خاضعاً ذليلاً ، أي رقيقاً متفكّكا . وموقع الباء هنا أحسن من موقع همزة التعدية لأن باء التعدية جاءت من باء المصاحبة على ما بيّنه المحققون من النحاة أن أصل قولك : ذهبت بزيد ، أنك ذهبتَ مصاحباً له فأنت أذهبته معك ، ثم تنوسي معنى المصاحبة في نحو : { ذهب الله بنورهم } [ البقرة : 17 ] ، فلما كان التفكك والتزيين للقول يتبع تفكك القائل أسند الخضوع إليهن في صورة ، وأفيدت التعدية بالباء . ويجوز أن تكون الباء بمعنى ( في ) ، أي لا يكن منكُن لِين في القول .
والنهي عن الخضوع بالقول إشارة إلى التحذير مما هو زائد على المعتاد في كلام النساء من الرقة وذلك ترخيم الصوت ، أي ليكن كلامكن جزلاً .
والمرض : حقيقته اختلال نظام المزاج البدني من ضعف القوة ، وهو هنا مستعار لاختلال الوازع الديني مثل المنافقين ومن كان في أول الإيمان من الأَعراب ممن لم ترسخ فيه أخلاق الإسلام ، وكذلك من تخلّقوا بسوء الظن فيرمون المحصنات الغافلات المؤمنات ، وقضية إفك المنافقين على عائشة رضي الله عنها شاهد لذلك .
وتقدم في قوله تعالى : { في قلوبهم مرض } في سورة البقرة ( 10 ) .
وانتصب { يطمَع } في جواب النهي بعد الفاء لأن المنهي عنه سبب في هذا الطمع .
وحذف متعلِق { فيطمع } تنزهاً وتعظيماً لشأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع قيام القرينة .
وعَطْفُ { وقلن قولاً معروفاً } على { لا تَخْضَعْنَ بالقول بمنزلة الاحتراس لئلا يحسبن أن الله كلفهن بخفض أصواتهن كحديث السرار .
والمعروف : هو الذي يألفه الناس بحسب العُرففِ العام ، ويشمل القول المعروف هيئة الكلام وهي التي سيق لها المقام ، ويشمل مدلولاته أن لا ينتهرن من يكلمهن أو يسمعنه قولاً بذيئاً من باب : فليقل خيراً أو ليصمت . وبذلك تكون هذه الجملة بمنزلة التذييل .