المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِنۢ بَحِيرَةٖ وَلَا سَآئِبَةٖ وَلَا وَصِيلَةٖ وَلَا حَامٖ وَلَٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۖ وَأَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (103)

103- لم يأذن الله لكم أن تحرِّموا ما أحلَّه لكم ، فتشقوا أذن الناقة ، وتمتنعوا عن الانتفاع بها ، وتسموها «بَحِيرة » ، وتتركوها بناء على نذر ، وتسموها «سائبة » ، وتُحَرِّموا الذكر من الشاة ، وتهبوه للأصنام ، حتى إذا أنتجت الشاة ذكراً وأنثى سميتموها «وَصِيلة » ، ولم تذبحوا الذكر منها . ولم يشرع لكم أن تحرِّموا الانتفاع بالذكر من الإبل إذا ولد منه عشرة أبطن ، وتطلقوا عليه اسم «حَام » ، لم يشرع الله لكم شيئاً من ذلك ، ولكن الذين كفروا يختلقون الكذب وينسبونه إلى الله ، وأكثرهم لا يعقلون{[58]} .


[58]:كان عند الجاهلية عادات حرموا بها على أنفسهم ما لم يحرمه الله فمنها: 1 – إذا أنتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر شقوا أذنها وحرموا ركوبها ولم يطردوها عن ماء ولا مرعى وسموها "بحيرة" أي مشقوقة الأذن. 2 – كان الرجل منهم يقول: إذا قدمت من سفري أو برئت من مرضي فناقتي سائبة ثم يجعلها كالبحيرة. 3 – وكانوا إذا ولدت الشاة أنثى جعلوها لهم وإن ولدت ذكرا جعلوه لآلهتهم وإن ولدت ذكرا وأنثى لم يذبحوا الذكر لآلهتهم وقالوا عن الشاة وصلت أخاها وسموها "وصيلة". 4 – وكانوا إذا نتج من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ويعرف عندهم باسم "حام".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِنۢ بَحِيرَةٖ وَلَا سَآئِبَةٖ وَلَا وَصِيلَةٖ وَلَا حَامٖ وَلَٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۖ وَأَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (103)

لما سأل قوم عن هذه الأحكام التي كانت في الجاهلية هل تلحق بحكم الله في تعظيم الكعبة والحرم . أخبر تعالى في هذه الآية أنه لم يجعل شيئاً منها ولا سنه لعباده . المعنى ولكن الكفار فعلوا ذلك إذ أكابرهم ورؤساؤهم كعمرو بن لحي وغيره يفترون على الله الكذب ويقولون هذه قربة إلى الله وأمر يرضيه{ وأكثرهم } يعني الأتباع { لا يعقلون } بل يتبعون هذه الأمور تقليداً وضلالاً بغير حجة و { جعل } في هذه الآية لا يتجه أن تكون بمعنى خلق الله . لأن الله تعالى خلق هذه الأشياء كلها . ولا هي بمعنى صير لعدم المفعول الثاني ، وإنما هي بمعنى ما سنَّ ولا شرع فتعدت تعدي هذه التي بمعناه إلى مفعول واحد و «البحيرة » فعلية بمعنى مفعولة . وبحر شق كانوا إذا انتجت الناقة عشرة بطون شقوا أذنها بنصفين طولاً فهي مبحورة وتركت ترعى وترد الماء ولا ينتفع منها بشيء ويحرم لحمها إذا ماتت على النساء ويحل للرجال{[4752]} ، وقال ابن عباس كانوا يفعلون ذلك بها إذا أنتجت خمسة بطون ، وقال مسروق إذا ولدت خمساً أو سبعاً شقوا أذنها .

قال القاضي أبو محمد : ويظهر مما يروى في هذا أن العرب كانت تختلف في المبلغ الذي تبحر عنده آذان النوق ، فلكل سنة ، وهي كلها ضلال ، قال ابن سيده ويقال «البحيرة » هي التي خليت بلا راع ، ويقال للناقة الغزيرة بحيرة .

قال القاضي أبو محمد : أرى أن البحيرة تصلح وتسمن ويغزر لبنها فتشبه الغزيرات بالبحر ، وعلى هذا يجيء قول ابن مقبل :

فيه من الأخرج المرتاع قرقرة *** هدر الديامي وسط الهجمة البحر{[4753]}

فإنما يريد النوق العظام وإن لم تكن مشققة الآذان . وروى الشعبي عن أبي الأحوص عن أبيه قال دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي أرأيت إبلك ألست تنتجها مسلمة آذانها ، فتأخذ الموسى فتقطع آذانها ، فتقول هذه بحر ، وتقطع جلودها فتقول هذه صوم فتحرمها عليك وعلى أهلك ؟ قال نعم قال : فإن ما آتاك الله لك حل . وساعد الله أشد ، وموسى الله أحُّد{[4754]} .

والسائبة : هي الناقة التي تسيب للآلهة ، والناقة أيضاً إذا تابعت اثنتي عشرة إناثاً ليس فيهن ذكر سيبت ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأكثم بن الجون الخزاعي : «يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار فما رأيت أشبه به منك ، قال أكثم : أيضرني شبهه يا رسول الله ؟ قال : لا إنك مؤمن وإنه كافر » ، هو أول من غير دين إسماعيل عليه اسلام ونصب الأوثان وسيب السوائب{[4755]} ، وكانت السوائب أيضاً في العرب كالقربة عند المريض يبرأ منه ، والقدوم من السفر ، وإذا نزل بأحدهم أمر يشكر الله عليه تقرب بأن يسيب ناقة فلا ينتفع منها بلبن ولا ظهر ولا غيره ، يرون ذلك كعتق بني آدم{[4756]} ، ذكره السدي وغيره وكانت العرب تعتقد أن من عرض لهذه النوق فأخذها أو انتفع منها بشيء فإنه تلحقه عقوبة من الله ، و «الوصيلة » قال أكثر الناس :

إن «الوصيلة » في الغنم قالوا إذا ولدت الشاة ثلاثة بطون أو خمسة فإن كان آخرها جدياً{[4757]} ذبحوه لبيت الآلهة وإن كانت عناقاً{[4758]} استحيوها{[4759]} وإن كان جذي وعناق استحيوهما وقالوا هذه العناق وصلت أخاها فمنعته من أن يذبح ، وعلى أن الوصيلة في الغنم جاءت الروايات عن أكثر الناس وروي عن سعيد بن المسيب أن الوصيلة من الإبل كانت الناقة إذا ابتكرت بأنثى ثم ثنت بأخرى قالوا وصلت أنثيين ، فكانوا يجدعونها لطواغيتهم أو يذبحونها .

شك الطبري في إحدى اللفظين . وأما «الحامي » فإنه الفحل من الإبل إذا ضرب في الإبل عشرين وقيل إذا ولد من صلبه عشر وقيل إذا ولد ولده قالوا حمي ظهره فسيبوه لم يركب ولا سخر في شيء{[4760]} ، وقال علقمة لمن سأله في هذه الأشياء ما تريد إلى شيء كان من عمل أهل الجاهلية وقد ذهب ؟ وقال نحوه ابن زيد .

قال القاضي أبو محمد : وجملة ما يظهر من هذه الأمور أن الله تعالى قد جعل هذه الأنعام رفقاً لعباده ونعمة عددها عليهم ومنفعة بالغة ، فكان أهل الجاهلية يقطعون طريق الانتفاع وُيذهبون نعمة الله فيها ويزيلون المصلحة التي للعباد في تلك الإبل ، وبهذا فارقت هذه الأمور الأحباس والأوقاف ، فإن المالك الذي له أن يهب ويتصدق له أن يصرف المنفعة في أي طريق من البر ، ولم يسد الطريق إليها جملة كما فعل بالبحيرة والسائبة ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا تجوز الأحباس والأوقاف وقاسوا على البحيرة والسائبة ، والفرق بين ، ولو عمد رجل إلى ضيعة له فقال هذه تكون حبساً لا يجتنى ثمرها ولا يزرع أرضها ولا ينتفع منها بنفع لجاز أن يشبه هذا بالبحيرة والسائبة ، وأما الحبس البين طريقه واستمرار الانتفاع به فليس من هذا ، وحسبك بأن النبي عليه السلام قال لعمر بن الخطاب في مال له : اجعله حبساً لا يباع أصله ، وحبس أصحاب النبي عليه الصلاة السلام{[4761]} .

وقوله تعالى { ولكن الذين كفروا } الآية ، وقد تقدم أن المفترين هم المبتدعون ، وأن الذين { لا يعقلون } هم الأتباع ، وكذلك نص الشعبي وغيره وهو الذي تعطيه الآية ، وقال محمد بن أبي موسى : الذين كفروا وافتروا هم أهل الكتاب ، والذين { لا يعقلون } هم أهل الأوثان .

قال القاضي أبو محمد : وهذا تفسير من انتزع ألفاظ آخر الآية عما تقدمها وارتبط بها من المعنى وعما تأخر أيضاً من قوله { وإذا قيل لهم } والأول من التأويلين أرجح .


[4752]:- وقيل أيضا: لم يركب ظهرها، ولم يجز وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ضيف، فهي: محرمة لا يطعم الناس لحمها ولا نحن في شيء كذاك البحائر
[4753]:- هذا البيت أنشده شمر كما قال في "اللسان" لابن مقبل شاهدا على أن بحيرة تُجمع على بحر، والضمير في (فيه) يعود على مكان معين. والأخرج: من نعت الظليم، قال الليث: هو الذي سواده أكثر من بياضه كلون الرماد، والمرتاع: الخائف الشديد الفزع. والقرقرة: الهدير. والهدر: مصدر للفعل هدر على وزن ضرب. والديامي: جماعة الإبل- (وفي رواية الزيامي)، والهجمة: الجماعة الضخمة من الإبل، والبحر بضمتين جمع بحيرة. يقول: في هذا المكان قرقرة عالية تصدر عن هذا الظليم الخائف المرتاع كأنها هدير جماعة ضخمة من الإبل وسط مجموعة كبيرة من البحر التي شقت آذانها. وتركت بدون راع فمضت ترعى وتهدر حيث تشاء.
[4754]:- أخرجه أحمد، وعبد بن حميد، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات –عن أبي الأحوص. وفي آخر الحديث شرح أبو الأحوص المعنى، وفسّر الكلمات التي في الآية وهي: البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام. (الدر المنثور 2/337).
[4755]:- أخرجه ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن مردويه، والحاكم وصححه- عن أبي هريرة (الدر المنثور 2/338)
[4756]:- قال عكرمة: السائبة: البعير- تسيب بنذر يكون على الرجل إن سلمه الله من مرض أو بلّغه منزله أن يفعل ذلك، فلا تُحبس عن رعي ولا ماء، ولا يركبها أحد، قال الشاعر: وسائبة لله تنمي تشكرا إن الله عافى عامرا أو مجاشعا وقيل: السائبة هي المُخلاة لا قيد عليها، ولا راعي لها، فاعل بمعنى مفعول، نحو: "عيشة راضية"، أي: مرضية، من سابت الحيّة وانسابت، قال الشاعر: عقرتم ناقة كانت لربي وسائبة فقوموا للعقاب
[4757]:- الجدي: الذكر من أولاد الماعز، جمعه: أجد، وجداء، وجديان.
[4758]:-العناق: الأنثى من أولاد المعز، والغنم من حيث الولادة إلى تمام حول، وجمعه: أعنق، وعُنُقٌ، وعنوقٌ.
[4759]:-استحياه: تركه حيا فلم يقتله، وفي التنزيل العزيز: {يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم}.
[4760]:- يؤيد هذا قول الشاعر: حماها أبو قابوس في عز ملكه كما حمى أولاد أولاده الفحل
[4761]:- روي أن أبا يوسف رجع عن قول أبي حنيفة في ذلك لما حدثه ابن عليّة، عن ابن عون، عن نافع، عن ابن عمر أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يتصدق بسهمه بخيبر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (احبس الأصل وسبّل الثمرة)، أي: اجعلها وقفا وأبح ثمرتها لمن وقفتها عليه. وقد قال القرطبي: "إن المسألة إجماع من الصحابة، وذلك أن أبا بكر وعمر وعثمان وعليّا وعائشة وفاطمة وعمرو بن العاص وابن الزبير وجابرا رضي الله عنهم كلهم وقفوا الأوقاف، وأوقافهم بمكة والمدينة معروفة ومشهورة".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِنۢ بَحِيرَةٖ وَلَا سَآئِبَةٖ وَلَا وَصِيلَةٖ وَلَا حَامٖ وَلَٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۖ وَأَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (103)

استئناف ابتدائي جاء فارقاً بين ما أحدثه أهل الجاهلية من نقائض الحنيفية وبين ما نوّه الله به ممّا كانوا عليه من شعائر الحج ، فإنّه لمّا بيّن أنّه جعل الكعبة قياماً للناس وجعل الهدْي والقلائد قياماً لهم ، بيّن هنا أنّ أموراً ما جعلها الله ولكن جعلها أهل الضلالة ليميز الخبيث من الطيّب ، فيكون كالبيان لآية { قل لا يستوي الخبيث والطيّب } [ المائدة : 100 ] ، فإنّ البَحيرة وما عطف عليها هنا تشبهُ الهدي في أنّها تحرّر منافعها وذواتها حيّة لأصنامهم كما تهدي الهدايا للكعبة مذكّاة ، فكانوا في الجاهلية يزعمون أنّ الله شرع لهم ذلك ويخلطون ذلك بالهدايا ، ولذلك قال الله تعالى : { قل هلمَّ شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرَّم هذا وقال في هذه الآية : { ولكنّ الذين كفروا يفترون على الله الكذب } . فالتصدّي للتفرقة بين الهدي وبين البحيرة والسائبة ونحوهما ، كالتصدّي لبيان عدم التفرقة بين الطواف وبين السعي للصفا والمروة في قوله : { إنّ الصفا والمروة من شعائر الله } [ البقرة : 158 ] كما تقدّم هنالك . وقد قدّمنا ما رواه مجاهد عن ابن عباس : أنّ ناساً سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحيرة والسائبة ونحوهما فنزلت هذه الآية .

وممّا يزيدك ثقة بما ذكرته أنّ الله افتتح هذه الآية بقوله : { ما جعل الله } لتكون مقابلاً لقوله في الآية الأخرى { جعل الله الكعبة } [ المائدة : 97 ] . ولولا ما توسّط بين الآيتين من الآي الكثيرة لكانت هذه الآية معطوفة على الأولى بحرف العطف إلاّ أنّ الفصل هنا كان أوقع ليكون به استقلال الكلام فيفيد مزيد اهتمام بما تضمّنه .

والجعل هنا بمعنى الأمر والتشريع ، لأنّ أصل ( جعل ) إذَا تعدّى إلى مفعول واحد أن يكون بمعنى الخلق والتكوين ، ثم يستعار إلى التقدير والكتْب كما في قولهم : فرض عليه جعالة ، وهو هنا كذلك فيؤول إلى معنى التقدير والأمر بخلاف ما وقع في قوله : { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس } [ المائدة : 97 ] . فالمقصود هنا نفي تشريع هذه الأجناس من الحقائق فإنّها موجودة في الواقع . فنفي جعلها مُتعيّن لأن يكون المراد منه نفيَ الأمر والتشريع ، وهو كناية عن عدم الرضا به والغضببِ على من جعله ، كما يقول الرجل لمن فعل شيئاً : ما أمرتك بهذا . فليس المراد إباحته والتخيير في فعله وتركه كما يستفاد من المقام ، وذلك مثل قوله : { قل هلمّ شهداءكم الذين يشهدون أنّ الله حرّم هذا } [ الأنعام : 150 ] فإنّه كناية عن الغضب على من حرّموه ، وليس المراد أنّ لهم أن يجتنبوه .

وأدخلت ( مِن ) الزائدة بعد النفي للتنصيص على أنّ النفي نفي الجنس لا نفي أفراد معيّنة ، فقد ساوى أن يقال : لاَ بحيرة ولاَ سائبةَ مع قضاء حقّ المقام من بيان أنّ هذا ليس من جعل الله وأنّه لا يَرضى به فهو حرام .

والبَحيرة بفتح الباء الموحّدة وكسر الحاء المهملة فَعِيلة بمعنى مفعولة ، أي مبحورة ، والبَحْر الشقّ . يقال : بحرَشقّ . وفي حديث حفر زمزم أنّ عبد المطلب بَحَرَها بَحْراً ، أي شقّها ووسّعها . فالبحيرة هي الناقة ، كانوا يشقّون أذنها بنصفين طولاً علامة على تخليتها ، أي أنّها لا تركب ولا تنحر ولا تمنع عن ماء ولا عن مرعى ولا يَجزرونها ويكون لبنها لطواغيتهم ، أي أصنامهم ، ولا يشرب لبنها إلاّ ضيف ، والظاهر أنّه يشربه إذا كانت ضيافة لزيارة الصنم أو إضافة سادنه ، فكلّ حيّ من أحياء العرب تكون بحائرهم لصنمهم . وقد كانت للقبائل أصنام تدين كلّ قبيلة لصنم أو أكثر .

وإنّما يجعلونها بحيرة إذا نُتجت{[226]} عشرة أبطن على قول أكثر أهل اللغة . وقيل : إذا نُتجت خمسة أبطن وكان الخامس ذكراً . وإذا ماتت حتف أنفها حلّ أكل لحمها للرجال وحرم على النساء .

والسائبة : البعير أو الناقة يجعل نَذراً عن شفاء من مرض أو قدوم من سفر ، فيقول : أجعله لله سائبة . فالتاء فيه للمبالغة في الوصف كتاء نسّابة ، ولذلك يقال : عبد سائبة ، وهو اسم فاعل بمعنى الانطلاق والإهمال ، وقيل : فاعل بمعنى مفعول ، أي مسيّب .

وحكم السائبة كالبحيرة في تحريم الانتفاع ، فيكون ذلك كالعتق وكانوا يدفعونها إلى السدنة ليُطعموا من ألبانها أبناء السبيل . وكانت علامتها أن تقطع قطعة من جلدة فَقار الظهر ، فيقال لها : صَريم وجمعه صُرُم ، وإذا ولدت الناقة عشرة أبطن كلّهنّ إناث متتابعة سيّبوها أيضاً فهي سائبة ، وما تلده السائبة يكون بحيرة في قول بعضهم . والظاهر أنّه يكون مثلها سائبة .

والوصيلة من الغنم هي الشاة تلد أنثى بعد أنثى ، فتسمّى الأمّ وصيلة لأنّها وصلت أنثى بأنثى ، كذا فسّرها مالك في رواية ابن وهب عنه ، فعلى هذه الرواية تكون الوصيلة هي المتقرّب بها ، ويكون تسليط نفي الجعل عليها ظاهراً . وقال الجمهور : الوصيلة أن تلد الشاة خمسة أبطن أو سبعة ( على اختلاف مصطَلَح القبائل ) فالأخير إذا كان ذكراً ذبحوه لبيوت الطواغيت وإن كانت أنثى استحيوها ، أي للطواغيت ، وإن أتأمت استحيوهما جميعاً وقالوا : وَصَلت الأنثى أخاها فمنعته من الذبح ، فعلى هذا التأويل فالوصيلة حالة من حالات نسل الغنم ، وهي التي أبطلها الله تعالى ، ولم يتعرّضوا لبقية أحوال الشاة . والأظهر أنّ الوصيلة اسم للشاة التي وصلت سبعة أبطن إناثاً ، جمعاً بين تفسير مالك وتفسير غيره ، فالشاة تسيّب للطواغيت ، وما ذكروه من ذبح ولدها أو ابنتها هو من فروع استحقاق تسييبها لتكون الآية شاملة لأحوالها كلّها . وعن ابن إسحاق : الوصيلة الشاة تتئم في خمسة أبطن عشرة إناث فما ولدت بعد ذلك فهو للذكور منهم دون النساء إلاّ أن يموت شيء منها فيشترك في أكله الرجال والنساء .

وفي « صحيح البخاري » عن سعيد بن المسيّب : أنّ الوصيلة من الإبل إذا بكّرت الناقة في أول إنتاج الإبل بأنثى ثم تثنّي بعد بأنثى في آخر العام فكانوا يجعلونها لطواغيتهم .

وهذا قاله سعيد من نفسه ولم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم ووقع في سياق البخاري إيهام اغترّ به بعض الشارحين ونبّه عليه في « فتح الباري » . وعلى الوجوه كلّها فالوصيلة فعيلة بمعنى فاعلة .

والحامي هو فحل الإبل إذا نُتجت من صلبه عشرة أبطن فيمنع من أن يركب أو يحمل عليه ولا يمنع من مرعًى ولا ماء . ويقولون : إنّه حمى ظهره ، أي كان سبباً في حمايته ، فهو حام . قال ابن وهب عن مالك ، كانوا يجعلون عليه ريش الطواويس ويسيّبونه ، فالظاهر أنّه يكون بمنزلة السائبة لا يؤكل حتى يموت وينتفع بوبره للأصنام .

وقوله : { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } الاستدراك لرفع ما يتوهّمه المشركون من اعتقاد أنّها من شرع الله لتقادم العمل بها منذ قرون . والمراد بالذين كفروا هنا جميع المشركين فإنّهم يكذّبون في نسبة هذه الأشياء إلى شعائر الله لأنّهم جميعاً يخبرون بما هو مخالف لما في الواقع . والكذب هو الخبر المخالف للواقع .

والكفّار فريقان خاصّة وعامّة : فأمّا الخاصّة فهم الذين ابتدعوا هذه الضلالات لمقاصد مختلفة ونسبوها إلى الله ، وأشهر هؤلاء وأكذبهم هو عَمْرُو بنُ عامر بن لُحَيّ بضم اللام وفتح الحاء المهملة وياء مشدّدة الخزاعي ، ففي الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت عمرو بنَ عامر بن لُحَي الخزاعي يجُرّ قُصْبَه بضم القاف وسكون الصاد المهملة أي إمعاءه في النار ، وكان أولَ من سيّب السوائب . ومنهم جنادة بن عوف{[227]} . وعن مالك أنّ منهم رجلاً من بني مُدْلِج هو أول من بحَّر البَحيرة وأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : رأيته مع عَمرو في النار . رواه ابن العربي . وفي رواية أنّ عَمرو بن لحي أول من بحّر البحيرة وسيّب السائبة . وأصحّ الروايات وأشهرها عن رسول الله : أنّ عمرو بن لحي أول من سيّب السوائب ولم يذكر البحيرة .

وأمّا العامّة فهم الذين اتّبعوا هؤلاء المضلّين عن غير بصيرة ، وهم الذين أريدوا بقول : { وأكثرهم لا يعقلون } . فلمّا وصف الأكثر بعدم الفهم تعيّن أنّ الأقلّ هم الذين دبّروا هذه الضلالات وزيّنوها للناس .

والافتراء : الكذب . وتقدّم عند قوله تعالى : { فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك } في سورة آل عمران ( 94 ) .

وفي تسمية ما فعله الكفّار من هذه الأشياء افتراء وكذباً ونفي أن يكون الله أمر به ما يدلّ على أنّ تلك الأحداث لا تمتّ إلى مرضاة الله تعالى بسبب من جهتين : إحداهما : أنّها تنتسب إلى الآلهة والأصنام ، وذلك إشراك وكفر عظيم . الثانية : أنّ ما يجعل منها لله تعالى مثل السائبة هو عمل ضرّه أكثر من نفعه ، لأنّ في تسييب الحيوان إضرار به إذ ربما لا يجد مرعى ولا مأوى ، وربما عدت عليه السباع ، وفيه تعطيل منفعته حتى يموت حتف أنفه . وما يحصل من درّ بعضها للضيف وابن السبيل إنّما هو منفعة ضئيلة في جانب المفاسد الحافّة به .


[226]:- نتجت مبني للمفعول وهو يتعدى إلأى مفعولين، فأولهما جعل نائب فاعل وثانيهما هو المنصوب.
[227]:- هو جنادة بن أمية بن عوف من بني ماك بن كنانة وهو نسأة الشهور. وجنادة هذا أدركه الإسلام وهو القائم بالنسي.