قوله تعالى : { وما تفرقوا } يعني أهل الأديان المختلفة ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : يعني أهل الكتاب كما ذكر في سورة البينة . { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب } الآية { إلا من بعد ما جاءهم العلم } بأن الفرقة ضلالة ولكنهم فعلوا ذلك ، { بغياً بينهم } أي : للبغي ، قال عطاء : يعني بغياً بينهم على محمد صلى الله عليه وسلم ، { ولولا كلمة سبقت من ربك } في تأخير العذاب عنهم ، { إلى أجل مسمى } وهو يوم القيامة . { لقضي بينهم } بين من آمن وكفر ، يعني أنزل العذاب بالمكذبين في الدنيا ، { وإن الذين أورثوا الكتاب } أي اليهود والنصارى ، { من بعدهم } أي من بعد أنبيائهم ، وقيل : من بعد الأمم الخالية . وقال قتادة : معناه من قبلهم أي : من قبل مشركي مكة . { لفي شك منه مريب } أي : من محمد صلى الله عليه وسلم .
{ وَمَا تفرقوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِىَ بِيْنَهُمْ } .
عطف على جملة { ولا تتفرقوا فيه } [ الشورى : 13 ] وما بينهما اعتراض كما علمت ، وفي الكلام حذف يدل عليه قوله : { وما تفرقوا } تقديره : فتفرقوا . وضمير { تفرقوا } عائد إلى ما عاد إليه ضمير { أن أقيموا الدّين ولا تتفرقوا } [ الشورى : 13 ] وهم أمم الرّسل المذكورين ، أي أوصيناهم بواسطة رسلهم بأن يقيموا الدّين . دلّ على تقديره ما في فعل { وصَّى } [ الشورى : 13 ] من معنى التبليغ كما تقدم .
والعلم : إدراك العقل جزماً أو ظنّاً . ومجيء العِلم إليهم يؤذن بأن رسلهم بيّنوا لهم مضارّ التفرق من عهد نوح كما حكى الله عنه في قوله : { ثم إنّي دعوتُهم جِهاراً ثم إنِيَ أعلنتُ لهم وأسررت لهم إسراراً } إلى قوله : { سُبُلاً فِجَاجاً } في سورة نوح ( 8 20 ) . وإنما تلقَّى ذلك العِلمَ علماؤهم .
ويجوز أن يكون المراد بالعلم سببَ العلم ، أي إلاّ من بعد مجيء النبي بصفاته الموافقة لما في كِتابهم فتفرقوا في اختلاق المطاعن والمعاذير الباطلة لينفوا مطابقة الصفات ، فيكون كقوله تعالى : { وما تَفرّق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البيَّنة } [ البينة : 4 ] على أحد تفسيرين .
والمعنى : وما تفرقت أممهم في أديانهم إلا من بعد ما جاءهم العلم على لسان رسلهم من النهي عن التفرق في الدّين مع بيانهم لهم مفاسد التفرق وأضراره ، أي أنهم تفرقوا عالمين بمفاسد التفرق غير معذورين بالجهل . وهذا كقوله تعالى : { وما تفرّق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البيّنة } [ البينة : 4 ] على التفسير الآخر .
وذُكر سبب تفرقهم بقوله : { بغياً بينهم } أي تفرّقوا لأجل العداوة بينهم ، أي بين المتفرقين ، أي لم يحافظوا على وصَايَا الرّسل . وهذا تعريض بالمشركين في إعراضهم عن دعوة الإسلام لعداوتهم للمؤمنين وقولُه : { ولولا كلمة سبقت من ربك } الخ تحذير للمؤمنين من مثل ذلك الاختلاف . وتنكير { كلمة } للتنويع لأن لكل فريق من المتفرقين في الدّين كلمة من الله في تأجيلهم فهو على حدّ قوله تعالى : { وعلى أبصارهم غشاوة } [ البقرة : 7 ] . وتنكير { أجل } أيضاً للتنويع لأن لكل أمة من المتفرقين أجلاً مسمى ، فهي آجال متفاوتة في الطّول والقصر ومختلفة بالأزمنة والأمكنة .
والمراد بالكلمة ما أراده الله من إمهالهم وتأخير مؤاخذتهم إلى أجل لهم اقتضته حكمتُه في نظام هذا العالم ، فربّما أخرهم ثم عذّبهم في الدنيا ، وربّما أخرهم إلى عذاب الآخرة ، وكل ذلك يدخل في الأجل المسمّى ، ولكل ذلك كلمته . فالكلمة هنا مستعارة للإرادة والتقدير . وسبقها تقدمها من قَبل وقت تفرقهم وذلك سبْق علم الله بها وإرادته إيّاها على وقف علمه وقدره ، وقد تقدم نظير هذه الكلمة في سورة هود وفي سورة طه .
{ وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب مِن بَعْدِهِمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مريب } .
عطف على جملة { وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم } إلى قوله : { لقضي بينهم } . وهذه الجملة هي المقصود من جملة { شَرع لكم من الدّين ما وصَّى به نوحاً } إلى قوله : { ولا تتفرقوا فيه } [ الشورى : 13 ] ، لأن المقصود أهل الكتاب الموجودون في زمن نزول الآية .
وإذ قد كانت من الأمم التي أوحى الله إلى رسلهم أمتَاننِ موجودتان في حين نزول هذه الآية وهما اليهود والنصارى ، وكانتا قد تفرقتا فيما جاءهم به العلم ، وكان الله قد أخّر القضاء بين المختلفين منهم إلى أجل مسمّى ، وكانوا لمَّا بلغتهم رسالة محمّد صلى الله عليه وسلم شَكُّوا في انطباق الأوصاف التي وردت في الكتاب بوصف النبي الموعود به .
فالمعنى : أنه كما تفرق أسلافهم في الدّين قبل بعثة النبي الموعود به تفرق خلَفُهم مثلهم وزادوا تفرقاً في تطبيق صفات النبي الموعود به تفرقاً ناشئاً عن التردد والشك ، أي دونَ بذل الجهد في تحصيل اليقين ، فلم يزل الشك دأبهم . فالمخبر عنهم بأنهم في شك : هم الذين أُورثوا الكتاب من بعدِ سلفهم .
وقد جاء نظم الآية على أسلوب إيجاز يتحمل هذه المعاني الكثيرةَ وما يتفرع عنها ، فجيء بضمير { منه } بعد تقدُّم ألفاظ صالحة لأن تكون معادَ ذلك الضمير ، وهي لفظ { الدِّين في قوله من الدّين } [ الشورى : 13 ] ، ولفظ الذي } في قوله : { والذي أوحينا إليك } [ الشورى : 13 ] ، و { ما } الموصولةُ في قوله : { ما تدعوهم إليه } [ الشورى : 13 ] ، وهذه الثلاثة مدلولها الإسلام . وهنالك لفظ { ما وصيّنا } [ الشورى : 13 ] المتعدّي إلى موسى وعيسى ، ولفظ { الكتاب } في قوله { وإن الذين أُورثوا الكتاب } . وهذان مدلولهما كتابَا أهل الكتاب .
وهؤلاء الذين أوتوا الكتاب هم الموجودون في وقت نزول الآية . والإخبار عنهم بأنهم في شك ناشىءٍ من تلك المعادات للضمير معناه : أن مبلغ كفرهم وعنادهم لا يتجاوز حالة الشك في صدق الرّسالة المحمدية ، أي ليسوا مع ذلك بموقنين بأن الإسلام باطل ، ولكنهم تردّدوا ثم أقدموا على التكذيب به حسداً وعناداً . فمنهم من بقي حالهم في الشك . ومنهم من أيقن بأن الإسلام حق ، كما قال تعالى : { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون } [ البقرة : 146 ] . ويحتمل أن المعنى لفي شك بصدق القرآن أو في شك مما في كتابهم من الأمور التي تفرقوا فيها ، أو ما في كتابهم من الدّلالة على مجيء النبي الموعود به وصفاته . فهذه معان كثيرة تتحملها الآية وكلها منطبقة على أهل الكتابَيْن وبذلك يظهر أنه لا داعي إلى صرف كلمة { شك } عن حقيقتها .
ومعنى { أورثوا الكتاب } صار إليهم علم الكتاب الذي اختلف فيه سلفُهم فاستعير الإرث للخَلفِيّة في علم الكتاب .
والتعريف في { الكتاب } للجنس ليشمل كتاب اليهود وكتاب النصارى .
فضمير { من بعدهم } عائِد إلى ما عاد إليه ضمير { تفرقوا } وهم الذين خوطبوا بقوله { ولا تتفرقوا فيه } [ الشورى : 13 ] .
وظرفية قوله : { في شك } ظرفية مجازية وهي استعارة تبعية ، شُبه تمكن الشك من نفوسهم بإحاطة الظرف بالمظروف .
و ( من ) في قوله : { لفي شك منه } ابتدائية وهو ابتداء مجازي معناه المصاحبة والملابسة ، أي شك متعلق به أو في شك بسببه . ففي حرف ( من ) استعارة تبعية ، وقع حرف ( مِن ) موقع باء المصاحبة أو السببية .
وتأكيد الخبر ب { إنَّ } للاهتمام ومجرد تحقيقه للنبيء صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، وهذا الاهتمام كناية عن التحريض للحذر من مكرهم وعدم الركون إليهم لظهور عداوتهم لئلا يركنوا إليهم ، ولعل اليهود قد أخذوا يومئذٍ في تشكيك المسلمين واختلطوا بهم في مكّة ليتطلعوا حال الدعوة المحمدية .
هذا هو الوجه في تفسير هذه الآية وهو الذي يلتئم مع ما قبله ومع قوله بعده { ولا تتبع أهواءهم وقُل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأُمرتُ لأعدل بينكم الله رَبّنا وربّكم } [ الشورى : 15 ] الآية .
والمريب : الموجب الريب وهو الاتهام . فالمعنى : لفي شك يفضي إلى الظنة والتهمة ، أي شك مشوب بتكذيب ، ف { مريب } اسم فاعل من أراب الذي همزته للتعدية ، أي جاعل الريب ، وليست همزةَ أراب التي هي للجعل في قولهم : أرابني بمعنى أوهمني منه ريبة وهو ليس بذي ريب ، كما في قول بشار :
أخوك الذي إن رِبْتَه قال إنّما *** أرَبْتَ وإن عاتبته لان جانبه
على رواية فتح التاء من أربتَ ، وتقدم قوله { وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب } في سورة هود ( 62 ) .