قوله تعالى : { إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا } ، صدقا لا خلف فيه . نصب على المصدر ، أي : وعدكم وعدا حقا .
قوله تعالى : { إنه يبدأ الخلق ثم يعيده } ، أي : يحييهم ابتداء ثم يميتهم ثم يحييهم ، قراءة العامة : " إنه " بكسر الألف على الاستئناف ، وقرأ أبو جعفر أنه بالفتح على معنى بأنه { ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط } ، بالعدل { والذين كفروا لهم شراب من حميم } ، ماء حار انتهى حره . { وعذاب أليم بما كانوا يكفرون } .
وقوله { إليه مرجعكم جميعاً } الآية ، آية إنباء بالبعث من القبور وهي من الأمور التي جوزها العقل وأثبت وقوعها الشرع ، وقوله { جميعاً } الآية ، حال من الضمير في { مرجعكم } ، { وعد الله } نصب على المصدر ، وكذلك قوله { حقاً } وقال أبو الفتح { حقاً } نعت ، وقرأ الجمهور «إنه » بكسر الألف على القطع والاستئناف ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع والأعمش وسهل بن شعيب وعبد الله «أنه » بفتح الألف ، وموضعها النصب على تقدير أحق أنه ، وقال الفراء : موضعها رفع على تقدير يحق أنه .
قال القاضي أبو محمد : يجوز عندي أن يكون { أنه } بدلاً من قوله { وعد الله } ، قال أبو الفتح : إن شئت قدرت لأنه يبدأ الخلق أي فمن في قدرته هذا فهو غني عن إخلاف الوعد . وإن شئت قدرته «وعد الله حقاً أنه » ولا يعمل فيه المصدر الذي هو { وعد الله } لأنه قد وصف فإذن ذلك بتمامه وقطع عمله{[6011]} ، وقرأ ابن أبي عبلة «حقٌّ » بالرفع فهو ابتداء وخبره «أنه » وقوله { يبدأ الخلق } يريد النشأة الأولى ، والإعادة هي البعث من القبور ، وقرأ طلحة «يُبدِىء الخلق » بضم الياء وكسر الدال ، وقوله { ليجزي } هي لام كي والمعنى أن الإعادة إنما هي ليقع الجزاء على الأعمال ، وقوله { بالقسط } أي بالعدل في رحمتهم وحسن جزائهم ، وقوله { والذين كفروا } ابتداء و «الحميم » الحار المسخن وهو فعيل بمعنى مفعول ومنه الحمام والحمة ومنه قول المرقش :
في كل يوم لها مقطرة *** وكباء معدة وحميم{[6012]}
وحميم النار فيما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه سلم إذا أدناه الكافر من فيه تساقطت فروة رأسه{[6013]} ، وهو كما وصفه تعالى { يشوي الوجوه }{[6014]} .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: إلى ربكم الذي صفته ما وصف جلّ ثناؤه في الآية قبل هذه معادكم أيها الناس يوم القيامة جميعا، "وَعْدَ اللّهِ حَقّا"... ومعناه: يعدكم الله أن يحييكم بعد مماتكم وعدا حقّا... "إِنّهُ يَبْدَأ الخَلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ "يقول تعالى ذكره: إن ربكم يبدأ إنشاء الخلق وإحداثه وإيجاده ثم يعيده، فيوجده حيّا كهيئته يوم ابتدأه بعد فنائه وبلائه...
وقوله: "لِيَجْزِيَ الّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ بالقِسْطِ" يقول: ثم يعيده من بعد مماته كهيئته قبل مماته عند بعثه من قبره، "لَيْجِزيَ الّذِينَ آمَنُوا" يقول: ليثيب من صدق الله ورسوله وعملوا ما أمرهم الله به من الأعمال واجتنبوا ما نهاهم عنه على أعمالهم الحسنة "بالقِسْطِ" يقول: ليجزيهم على الحسن من أعمالهم التي عملوها في الدنيا الحسن من الثواب والصالح من الجزاء في الآخرة، وذلك هو القسط. والقسط: العدل والإنصاف...
وقوله: "وَالّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ" فإنه جلّ ثناؤه ابتدأ الخبر عما أعدّ الله للذين كفروا من العذاب، وفيه معنى العطف على الأوّل، لأنه تعالى ذكره عمّ بالخبر عن معاد جميعهم؛ كفارهم ومؤمنيهم إليه، ثم أخبر أن إعادتهم ليجزي كلّ فريق بما عمل؛ المحسن منهم بالإحسان، والمسيء بالإساءة، ولكن لما كان قد تقدم الخبر المستأنف عما أعدّ للذين كفروا من العذاب ما يدلّ سامع ذلك على المراد، ابتدأ الخبر والمعني العطف، فقال: والذين جحدوا الله ورسوله وكذبوا بآيات الله، "لهم شراب" في جهنم "من حميم"، وذلك شراب قد أغلي واشتدّ حرّه حتى إنه فيما ذكر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ليتساقط من أحدهم حين يدنيه منه فروة رأسه، وكما وصفه جلّ ثناؤه: "كالمُهْلِ يَشْوِي الوُجُوهَ"، وأصله مفعول صرف إلى فعيل، وإنما هو «محموم»: أي مسخن، وكلّ مسخن عند العرب فهو حميم... وقوله: "عَذَابٌ ألِيمٌ" يقول: ولهم مع ذلك عذاب موجع سوى الشراب من الحميم "بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ" بالله ورسوله.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) إليه مرجع الخلائق كلهم في جميع الأوقات، لكنه خصه ذلك اليوم بالمرجع إليه لما أن الخلائق كلهم يعلمون يومئذ أنهم راجعون إليه. وكذلك قوله: (وبرزوا لله جميعا) [إبراهيم: 21] هم بارزون له في الدنيا والآخرة، لكنهم يومئذ يعرفون، ويقرون بالبروز له. وكذلك قوله: (الملك يومئذ لله) [الحج: 56] الملك لله في الدنيا والآخرة وفي الأوقات جميعا، لكنه خص ذلك اليوم لما لا ينازع في الملك في ذلك اليوم، وفي الدنيا من قد نازع في ملكه. هذا، والله أعلم، وجه التخصيص لذلك اليوم بالملك وإن كان الملك له في الدارين جميعا. فعلى ذلك المرجع، أو سمى البعث رجوعا إليه لما المقصود من إنشائه البعث، فسماه بذلك لما ذكرنا؛ لأنه لو لم يكن المقصود من إنشائه إياهم سوى الإنشاء والإفناء كان خلقه عبثا باطلا كقوله: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون) [المؤمنون: 115].
(وعد الله حقا)؛ يحتمل (وعد الله حقا) البعث الذي ذكر (إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) ويحتمل (وعد الله حقا) من الثواب والعقاب في الآخرة؛ الثواب للمحسن منهم والعقاب للمسيء.
(إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) أي عرفتم أنه هو الذي برأكم والخلق جميعا، وكذلك هو يعيدكم بعد إفنائكم؛ إذ بدء الشيء على غير مثال أشد عندكم من إعادته على مثال كقوله: (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه) [الروم: 27] أي إعادة الشيء أهون عنده من بدئه.
(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ) قيل بالعدل، لكن ما يجزيهم إنما يجزيهم إفضالا وإحسانا استيجابا واستحقاقا.
...ويشبه أن يكون على تقديم العدل؛ أي يجزي الذين عملوا بالعدل؛ أي لا يعذبهم في النار إذا آمنوا. ثم الذين عملوا الصالحات يوفيهم أجورهم، ويزيدهم من فضله، والله أعلم بالصواب من ذلك...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} أي لا ترجعون في العاقبة إلاّ إليه فاستعدوا للقائه {وَعَدَ الله} مصدر مؤكد لقوله: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} و {حَقًّا} مصدر مؤكد لقوله: {وَعَدَ الله}. {إنَّهُ يبدأ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} استئناف معناه التعليل لوجوب المرجع إليه، وهو أنّ الغرض ومقتضى الحكمة بابتداء الخلق وإعادته هو جزاء المكلفين على أعمالهم... {بالقسط}: بالعدل، وهو متعلق ب"يجزي". والمعنى: ليجزيهم بقسطه ويوفيهم أجورهم، أو بقسطهم وبما أقسطوا وعدلوا ولم يظلموا حين آمنوا وعملوا صالحاً، لأنّ الشرك ظلم. قال الله تعالى: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] والعصاة: ظلاّم أنفسهم، وهذا أوجه، لمقابلة قوله: {بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فلما تقرر أنه هو الذي بدأ الخلق، تقرر بذلك أنه قادر على إعادته فقال: {إليه} أي خاصة {مرجعكم} أي رجوعكم وموضع رجوعكم ووقته حال كونكم {جميعاً} لا يتخلف منكم أحد، تقدم وعده لكم بذلك {وعد الله} أي الذي له الكمال كله {حقاً} فهو تعليل لعبادته لوحدانيته، فيحيون بعد الموت ويحشرون إلى موضع جزاء الله تعالى لهم في زمانه الذي قدره له، ويرفع ما كان لهم من المكنة في الدنيا، فعلم قطعاً أنه لا بد من الرسول، فاستعدوا للقاء هذا الملك الأعظم بكل ما أمركم به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ثم أوضح التنبيه على قدرته مضمناً له بيان حكمته فقال معللاً لوجوب المرجع إليه مؤكداً عداً لهم في عداد المنكر للابتداء لأجل إنكارهم ما يلزم عنه من تمام القدرة على البعث وغيره: {إنه يبدأ الخلق} أي ينشئه النشأة الأولى، له هذه الصفة متجددة التعلق على سبيل الاستمرار {ثم يعيده} ليقيم العدل في خلقه بأن ينجز لمن عبده، وعده بأن يعزه ويذل عدوه وذلك معنى قوله: {ليجزي}.
ولما كان في سياق البعث، قدم أهل الجزاء وبدأ بأشرافهم فقال: {الذين آمنوا} أي أوجدوا هذا الوصف الذي هو الأساس المتقن لكل عمل صالح {وعملوا} أي وصدقوا إيمانهم بأن عملوا {الصالحات} جزاء كائناً {بالقسط}، واقتصر على العدل دون الفضل ليفهم أن ترك الحشو مخل بالعمل الذي هو محط الحكمة التي هي أعظم مصالح السورة، والجزاء: الإعطاء بالعمل ما يقتضيه من خير أو شر، فلو كان الإعطاء ابتداء لم يكن جزاء، ولو كان ما لا يقتضيه العمل لم يكن جزاء مطلقاً، والقسط: العدل} والذين كفروا {أي أوجدوا هذا الوصف {لهم} أي في الجزاء على جهة الاستحقاق {شراب من حميم} أي مسخن بالنار أشد الإسخان {وعذاب أليم} أي بالغ الإيلام {بما كانوا} أي جبلة وطبعاً {يكفرون} فإن عذابهم من أعظم نعيم المؤمنين الذين عادوهم فيه سبحانه {فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون} [سورة المطففين: 34-36] وكأنه قال: {يبدأ} مضارعاً لا كما قال في آية أخرى {كما بدأكم تعودون} [الأنفال: 29] حكاية للحال وتصويراً لها تنبيهاً على تأمل ما يتجدد إنشاءه ليكون أدعى لهم إلى تصور القدرة على الإعادة؛ قال الرماني: وقد تضمنت الآية البيان عما يوجبه التمكين في الدنيا من تجديد النشأة للجزاء لأنه لا بد -مع التمكين من الحسن والقبيح- من ترغيب وترهيب لا يؤمن معه العذاب على الخلود ليخرج المكلف بالزجر عن القبيح عن حال الإباحة له برفع التبعة عليه -انتهى. فقد لاح بما ذكر مع ما تعين في أثناء السورة بتكريره لتوضيحه وتقريره- أن مقصودها وصف الكتاب بما يدل قطعاً على أنه من عنده سبحانه وبإذنه، لأنه لا غائب عن علمه ولا مداني لقدرته ولا مجترئ على عظمته، وأنه تام القدرة متفرد بالخلق والأمر فهو قادر على الإعادة كما قدر على الابتداء، وأن المراد بالكتاب البشارة والنذارة للفوز عند البعث والنجاة من غوائل يوم الحشر مع أنه سبحانه نافذ القضاء، فلا تغني الآيات والدلالات البينات عمن حكم بشقاوته وقضى بغوايته، وأن ذلك من حكمته وعدله فيجب التسليم لأمره وقطع الهمم عن سواه.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذه الآية بيان للركن الثاني من أركان الدين وهو البعث بعد الموت والجزاء على الأعمال يقول تعالى: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً}، أي إلى ربكم دون غيره من معبوداتكم وشفعائكم وأوليائكم ترجعون جميعا بعد الموت وفناء هذا العالم الذي أنتم فيه، لا يتخلف منكم أحد.
{وعْدَ اللّهِ حَقّاً} أي وعد الله هذا وعدا حقا لا يخلف.
{إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} هذا بيان لتعلق الوعد المؤكد مرتين بدليله، أي إن شأنه تعالى أن يبدأ الخلق وينشئه عند التكوين، ثم يعيده في نشأة أخرى بعد انحلاله وفنائه، فالتعبير بفعل المستقبل (يبدأ) لتصوير الشأن، وهو يشمل الماضي والمستقبل، ولفظ الخلق عام يراد به الخاص أولا وبالذات، بدليل ما قبله وما بعده من السياق، وقد أجمع علماء الكون الماديون منهم والروحيون على أن الأرض وجميع الأجرام السماوية -ما يرى منها بالأبصار والآلات المقربة للأبعاد وما لا يرى- كلها قد وجدت بعد أن لم تكن، وإن كانوا لا يزالون يبحثون في نشأة تكوينها والقوة الأزلية المتصرفة في أصل مادتها، كما أنهم متفقون على توقع خراب هذه الأرض والكواكب المرتبطة معها في هذا النظام الشمسي الجامع لها، وعلى أن أقرب الأسباب الموافقة لأصول العلم الثابتة أن تصيب الأرض قارعة من الأجرام السماوية فتبسها بسا، حتى تكون هباء منبثا، كما تشير إليه سورة القارعة والواقعة وغيرهما.
فأما بدؤه فقد حصل بالفعل، وأما إعادته فدليلها أن القادر على البدء يكون قادرا على الإعادة بالطريق الأولى، كما قال في سورة الروم {وهُو الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وهُو أَهْونُ عَلَيْهِ} [الروم: 27]، ومن المسائل المتفق عليها عند علماء الكون في هذا العصر وهي تقرب إلى العقول عقيدة البعث أن هذه الأجساد الحية ينحل منها في كل وقت ما يتبخر في الهواء، وما يموت في داخل الجسم ثم يخرج منه، ويحل محل كل ما يزول ويندثر مواد حية جديدة حتى يفنى جسد كل حيوان، فهو يزول في سنين قليلة ويتجدد غيره، فالبدء والإعادة في كل جسد دائمان ما دام حيا، وقد فصلنا مسألة البعث بالبيان العلمي في تفسير سورة الأنعام (ج 8).
{لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ} هذا تعليل للإعادة، أي يعيده لأجل جزائهم، والقسط العدل، وقال الراغب: النصيب من العدل، أي ليجزيهم بعدله، وهو عبارة عن إعطاء كل عامل حقه من الثواب الذي جعله الله لعلمه، بمعنى أنه لا يظلم منه شيئا كما قال في سورة الأنبياء: {ونَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} [الأنبياء: 47]، ولا يمنع ذلك أن يزيدهم ويضاعف لهم كما وعد في آيات أخرى منها قوله: {فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله} [النساء: 172]، وقوله في هذه السورة {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} [يونس: 26]، فالحسنى هي الجزاء بالقسط المضاد للجور والظلم، والزيادة فضل منه عزّ وجلّ. وسيأتي فيها أيضا قوله: {وقضي بينهم بالقسط} [يونس: 47 و 54] وقيل: إن المراد يجزيهم بما كانوا عليه من القيام بالقسط، وهو الحق، وللعدل في الأمور كلها الذي هو مقتضى الإيمان في قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ والْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] وقوله: {قل أمر ربي بالقسط} [الأعراف: 28]، على أن القسط في الآيتين عام شامل لأمور الدين كلها، وقيل: بل المراد منه الإيمان، أو التوحيد المقابل لظلم الشرك في قوله تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13]، والمتبادر الموافق لسائر الآيات الصريحة هو الأول ولا يصح إرادة الثاني إلا بالتبع للأول، أو الجمع بين المعنيين على القول بأن كل ما يحتمله اللفظ من المعاني المشتركة فيه أو حقيقته ومجازه بمقتضى اللغة -من غير مانع من الشرع- يكون مرادا منه.
{والَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} الحميم الماء الحارّ أو الشديد الحرارة الذي يستحم به، والعرق، يقال استحم الفرس إذا عرق، والحمام الذي هو مكان الاستحمام من الأول أو من الثاني. والجملة بيان لجزاء الكافرين في مقابلة جزاء المؤمنين الصالحين على منهج القرآن في الجمع بينهما.
والمعنى أن الكافرين لهم من الجزاء شراب من ماء حميم يقطع أمعاءهم وعذاب شديد الألم -وهذا من عطف العام على الخاص- ونكتة هذا الخاص أن العرب الذين خوطبوا به أولا، ونزل بلغتهم -ولاسيما عرب الحجاز -يشعرون بما لا يشعر غيرهم من الوعيد بشرب الماء الحميم والحرمان من الماء البارد، وإنما كان لهم هذا الجزاء بسبب ما كانوا يعملون من أعمال الكفر المستمرة إلى الموت، كدعاء غير الله تعالى، والنذر لغيره، وذبح القرابين لغيره، وسائر الأعمال السيئة التي يزينها لهم الكفر ويصد عنها الإيمان، فقوله: {والذين كفروا} مقابل لقوله: {الذين آمنوا}، وقوله: {بما كانوا يكفرون} مقابل لقوله: {وعملوا الصالحات}؛ لأن الذي يتجدد من الكفر أعماله لا عقيدته، على أن العمل بمقتضى العقيدة هو أثرها، يزيدها قوة ورسوخا واستمرارا، وسيعاد ذكر جزاء الفريقين بعد آيتين بتفصيل آخر لعملهما.
ولعل نكتة اختلاف النظم أو الأسلوب في جزاء الفريقين وتعليل الرجوع إليه تعالى هنا هي إفادة أن المقصود بالذات من الرجوع إلى الله تعالى هو جزاء المؤمنين الصالحين؛ لأنه هو الذي يكون به منتهى كمال الارتقاء البشري للذين زكوا أنفسهم في الدنيا بما يكون لهم في الجنة من غلبة سلطان الأرواح على الأجساد، وجعلها تابعة لها في الجمع بين خصائص المادة والروح الذي هو حقيقة الإنسانية، فيلقى الإنسان الكامل هنالك من النعيم المادي الخالي من الشوائب والتنغيص الذي عهده في الدنيا، ومن النعيم الروحاني المعبر عنه برضوان الله الأكبر- كما تقدم في آية سورة التوبة (72)- ما يتحقق به فضل الإنسانية الجامعة على الروحانية الخالصة، وما أعده تعالى لصاحبهما مما لا يعلم كنهه في هذه الحياة أحد، كما قال تعالى في سورة ألم السجدة {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} [السجدة: 17]، وما فسرت به في الحديث القدسي:"أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر" 88 رواه البخاري، وأعلاه مقام رؤية الله عزّ وجلّ -كما شرحناه في تفسير آية سورة الأعراف (8: 143)- وأدناه ما سيأتي قريبا في الآية العاشرة.
وأما جزاء الكافرين المفسدين الظالمين لأنفسهم وللناس على تدسيتهم وتدنيسهم لأنفسهم بالكفر والخطايا وهي لها كأعراض الأمراض التي سببها مخالفة سنة الله في حفظ الأبدان وصحتها فليس من المقاصد التي اقتضتها الحكمة الإلهية في خلق الإنسان، ولكنها مقتضى العدل في المظالم والحقوق، ومقتضى اطراد السنن الحكيمة في ارتباط الأسباب بالمسببات، والعلل بالمعلولات، فهو جزاء كما صرح به في آيات أخرى، ولكنه ليس المقصود بالذات من الرجوع إلى الله عزّ وجلّ.
وقد سألني رجل من أذكياء الإنكليز: هل يليق بعظمة الله أن يعذب هذا الإنسان الضعيف على ذنوبه التي هي مقتضى ضعفه؟ قلت: إن الشرك بالله والكفر بنعمه واقتراف الخطايا المخالفة لشرائعه وللوجدان الفطري في الإنسان تدنس نفس فاعلها وتفسدها بما يجعلها غير أهل للنعيم الروحاني الخاص بالأنفس الزكية، فيكون العقاب في الآخرة أثرا طبيعيا لهذا الفساد، كما يكون المرض أثرا طبيعيا لمخالفة قوانين الصحة ووصايا الطبيب. فقال: إذا كان سبب العذاب من الداخل لا من الخارج فهو معقول.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا).. إليه وحده لا للشركاء والشفعاء. وقد وعد فلا خلف ولا تخلف، فالبعث هو تتمة الخلق: (إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط، والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون)..
(ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط...). والنعيم بلا منغصات وبدون عقابيل تعقب اللذة غاية من غايات الخلق والإعادة. إنها قمة الكمال البشري الذي يمكن أن تصل إليه البشرية. والبشرية لا تصل إلى شيء من هذا في هذه الأرض وفي هذه الحياة الدنيا المشوبة بالقلق والكدر، والتي لا تخلو فيها لذة من غصة، أو من عقابيل تعقبها -إلا لذائذ الروح الخالصة وهذه قلما تخلص لبشر- ولو لم يكن في هذه الحياة الدنيا إلا الشعور بنهاية نعيمها لكان هذا وحده ناقصا منها وحائلا دون كمالها. فالبشرية لا تصل في هذه الأرض إلى أعلى الدرجات المقدرة لها، وهي التخلص من النقص والضعف ومعقباتهما، والاستمتاع بلا كدر ولا خوف من الفوت ولا قلق من الانتهاء.. وهذا كله تبلغه في الجنة كما وصف القرآن نعيمها الكامل الشامل. فلا جرم يكون من غاية الخلق والإعادة إبلاغ المهتدين من البشرية، الذين اتبعوا سنة الحياة الصحيحة وناموس الحياة القويم، إلى أعلى مراتب البشرية.
فأما الذين كفروا فقد خالفوا عن الناموس، فلم يسيروا في طريق الكمال البشري، بل جانبوه. وهذا يقتضي -حسب السنة التي لا تتخلف- ألا يصلوا إلى مرتبة الكمال، لأنهم جانبوا قانون الكمال؛ وأن يلقوا عاقبة انحرافهم كما يلقى المريض عاقبة انحرافه عن قوانين الصحة الجسدية. هذا يلقاه مرضا وضعفا، وأولئك يلقونه ترديا وانتكاسا، وغصصا بلا لذائذ -في مقابل اللذائذ بلا غصص. (والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون)..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقع أمرهم بعبادته عقب ذكر الجزاء إنذاراً وتبشيراً، فالجملة كالدليل على وجوب عبادته، وهي بمنزلة النتيجة الناشئة عن إثبات خلقه السموات والأرض لأن الذي خلق مثل تلك العوالم من غير سابق وجود لا يعجزه أن يعيد بعض الموجودات الكائنة في تلك العوالم خلقاً ثانياً. ومما يشير إلى هذا قوله: {إنه يبدأ الخلق ثم يعيده}، فبَدء الخلق هو ما سبق ذكره، وإعادتُه هي ما أفاده قوله: {إليه مرجعكم جميعاً} ولذلك فصلت عن التي قبلها لما بينهما من شبه كمال الاتصال..
وفي تقديم المجرور في قوله: {إليه مرجعكم} إفادة القصر، أي لا إلى غيره، قطعاً لمطامع بعضهم القائلين في آلهتهم {هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [يونس: 18] يريدون أنهم شفعاء على تسليم وقوع البعث للجزاء، فإذا كان الرجوع إليه لا إلى غيره كان حقيقاً بالعبادة وكانت عبادة غيره باطلاً. والمرجع: مصدر ميمي بمعنى الرجوع. وقد تقدم في قوله: {إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم تعملون} في سورة [العقود: 105].
... {ليجزي الذين آمنوا...} الخ...وإنما خص بذلك جزاء المؤمنين مع أن الجزاء كله عدل، بل ربما كانت الزيادة في ثواب المؤمنين فضلاً زائداً على العدل لأمرين: أحدهما: تأنيس المؤمنين وإكرامهم بأن جزاءهم قد استحقوه بما عملوا، كقوله: {ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} [النحل: 32]. ومن أعظم الكرم أن يُوهم الكريم أن ما تفضل به على المكرَم هو حقه وأن لا فضل له فيه. الأمر الثاني: الإشارة إلى أن جزاء الكافرين دون ما يقتضيه العدل، ففيه تفضل بضرب من التخفيف لأنهم لو جُوزوا على قدر جُرمهم لكان عذابهم أشد، ولأجل هذا خولف الأسلوب في ذكر جزاء الذين كفروا فجاء صريحاً بما يعم أحوال العذاب بقوله: {لهم شراب من حميم وعذاب أليم} [الأنعام: 70]. وخص الشراب من الحميم بالذكر من بين أنواع العذاب الأليم لأنه أكره أنواع العذاب في مألوف النفوس. وشراب الحميم تقدم في قوله تعالى: {أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون} في سورة [الأنعام: 70]. والباء في قوله: {بما كانوا يكفرون} للعِوض.
ونكتة تغيير الأسلوب حيث لم يعطف جزاء الكافرين على جزاء المؤمنين فيقال: ويَجزي الذين كفروا بعذاب الخ كما في قوله: {لينذر بأساً شديداً من لدنه ويُبشر المؤمنين} [الكهف: 2] هو الإشارة إلى الاهتمام بجزاء المؤمنين الصالحين وأنه الذي يبادر بالإعلام به وأن جزاء الكافرين جدير بالإعراض عن ذكره لولا سؤال السامعين.