تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{إِلَيۡهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِيعٗاۖ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقًّاۚ إِنَّهُۥ يَبۡدَؤُاْ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ لِيَجۡزِيَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ بِٱلۡقِسۡطِۚ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمۡ شَرَابٞ مِّنۡ حَمِيمٖ وَعَذَابٌ أَلِيمُۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡفُرُونَ} (4)

وقوله تعالى : ( إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً ) إليه مرجع الخلائق كلهم في جميع الأوقات ، لكنه خصه ذلك اليوم بالمرجع إليه لما أن الخلائق كلهم يعلمون يومئذ أنهم راجعون إليه . وكذلك قوله : ( وبرزوا لله جميعا )[ إبراهيم : 21 ] هم بارزون له في الدنيا والآخرة ، لكنهم يومئذ يعرفون ، ويقرون بالبروز له . وكذلك [ قوله ][ ساقطة من الأصل وم ] : ( الملك يومئذ لله )[ الحج : 56 ] الملك لله في الدنيا والآخرة وفي الأوقات جميعا ، لكنه خص ذلك اليوم[ أدرج بعدها في الأصل : الذي ] لما لا ينازع في الملك في ذلك اليوم ، وفي الدنيا من قد نازع في ملكه .

هذا ، والله أعلم ، وجه التخصيص لذلك اليوم بالملك وإن كان الملك له في الدارين جميعا . فعلى ذلك المرجع ، أو سمى البعث رجوعا إليه لما المقصود من إنشائه البعث ، فسماه بذلك لما ذكرنا ؛ لأنه لو لم يكن المقصود من إنشائه [ إياهم سوى الإنشاء ][ من م ، ساقطة من الأصل ] والإفناء كان خلقه عبثا باطلا كقوله : ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون )[ المؤمنون : 115 ] .

وقوله تعالى : ( وعد الله حقا ) يحتمل ( وعد الله حقا ) البعث الذي ذكر ( إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) ويحتمل ( وعد الله حقا ) من الثواب والعقاب في الآخرة الثواب للمحسن منهم والعقاب للمسيء .

وقوله تعالى : ( إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) أي عرفتم أنه هو الذي برأكم والخلق جميعا ، وكذلك هو يعيدكم بعد إفنائكم ؛ إذ بدء الشيء على غير مثال أشد عندكم من إعادته على مثال كقوله : ( وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده /226-أ/ وهو أهون عليه )[ الروم : 27 ] أي إعادة الشيء أهون عنده[ في الأصل وم : عندكم ] من بدئه .

وقوله تعالى : ( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ ) قيل بالعدل ، لكن ما يجزيهم إنما يجزيهم إفضالا وإحسانا استيجابا واستحقاقا .

ثم يحتمل قوله ( بالقسط ) وجوها :

أحدها : أنه يجزي المحسن جزاء الإحسان والمسيء جزاء الإساءة ، ويفضل بين الولي والعدو في الآخرة في الجزاء ، ويجعل للولي علامة وأثرا يعرف بها من العدو ؛ إذ لم يفضل في الدنيا بين الأولياء والأعداء في الرزق وما يساق إليهم من النعيم ، ولم يجعل علامة ، يعرف بها الولي من العدو ، وجعل في الآخرة ذلك حتى يعرف هذا من هذا . فهذا العدل الذي ذكرنا يشبه أن يكون هو ذلك .

والثاني[ في الأصل وم : و ] : يحتمل القسط الوزن ؛ أي يجزيهم بالوزن على تعديل النوع بالنوع لا على القدر ؛ أي يجزي بالحسنة قدرا لا يزيد على ذلك ، ولكن يجزي للخير خيرا وللحسنة حسنة وللسيئة سيئة .

والثالث[ في الأصل وم : و ] : يحتمل قوله : ( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) بالعدل ؛ أي يجزي الذين عملوا بالعدل ، لم يجوزوا فيه ، ولا جاوزوا الحد الذي حد لهم ، ولكن عملوا بالعدل فيه .

ويشبه أن يكون على تقديم العدل ؛ أي يجزي الذين عملوا بالعدل ؛ أي لا يعذبهم في النار إذا آمنوا . ثم الذين[ في الأصل وم : للذين ] عملوا الصالحات يوفيهم أجورهم ، ويزيدهم من فضله ، والله أعلم بالصواب من ذلك .

وقوله تعالى : ( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بالقسط ) أي يجزيهم في الآخرة بما أقسطوا في الدنيا ، وعدلوا ؛ ويكون القسط على هذا التأويل نعتا لهم ، وإن كان ما ذكر من القسط راجعا إلى الله ووصفا له فهو يخرج على وجوه :

أحدها : يجزي فريقا من المؤمنين بالعدل ؛ يجزيهم[ في الأصل وم : يجزي ] لإحسانهم جزاءهم الإحسان ، ويكفر عن سيئاتهم ، وهو كقوله : ( أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ) الآية[ الأحقاف : 16 ] وقوله : ( إن الله لا يغفر ) الآية[ النساء : 48و . . ] .

والثاني : يجزيهم بالفضل ؛ إذ العدل هو وضع الشيء موضعه ؛ أي يضع الفضل في أهله ، لا يضعه في غير أهله ، ووضع الفضل في أهل الإيمان عدل ؛ إذ هم أهل له ، والله أعلم . وهو كقوله : ( ويؤت كل ذي فضل فضله )[ هود : 3 ] .

والثالث : العدل الذي هو مقابل الإحسان ، وهو الفضل لا العدل الذي هو ضد الجور كقوله : ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء )الآية ؛ لا يحتمل أن يقول : ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ) في العدل الذي هو مقابل الإحسان ، وهو[ الواو ساقطة من الأصل وم ] الفضل ؛ إذ للفضل درجات . وأصله : أن جزاء الآخرة كلها إفضال وإحسان وإنعام لا استحقاقا واستيجابا .

وقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ ) قيل : الحميم الشراب الذي انتهى حره غايته .