غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{إِلَيۡهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِيعٗاۖ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقًّاۚ إِنَّهُۥ يَبۡدَؤُاْ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ لِيَجۡزِيَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ بِٱلۡقِسۡطِۚ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمۡ شَرَابٞ مِّنۡ حَمِيمٖ وَعَذَابٌ أَلِيمُۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡفُرُونَ} (4)

1

ثم شرع في إثبات المعاد فقال : { إليه مرجعكم } أي رجوعكم { جميعاً } مجموعين . وتقديم الجار والمجرور للاختصاص والمعنى لا ترجعون في العاقبة إلا إلى جزائه وحكمه فاستعدوا للقائه ، ثم أكد ذلك بقوله : { وعد الله حقاً } وفيه تأكيدان كما مر . ثم قال : { إنه يبدأ الخلق ثم يعيده } وهو استئناف فيه معنى التعليل كأنه قال إن الذي قدر على الإبداء يقدر على الإعادة بالطريق الأولى كقوله : { وننشئكم فيما لا تعلمون } [ الواقعة : 61 ] يعني أنه سبحانه لما كان قادراً على إنشاء ذواتكم أوّلاً ثم على إنشاء أجزائكم حال حياتكم ثانياً شيئاً فشيئاً من غير أن تكونوا عالمين بوقت حدوثه وبوقت نموّه ، وجب القطع بأنه لا يمتنع عليه إعادة تلك الأجزاء بعد البلى والتفرق . ومن قرأ { أنه } بالفتح فعلى حذف لام التعليل أي لأنه ، أو على أنه منصوب بالفعل الذي نصب وعد الله أي وعد الله وعداً بدء الخلق ثم إعادته ، ويجوز أن يكون مرفوعاً بما نصب حقاً أي حق حقاً بدء الخلق .

ثم ذكر غاية الإعادة وحكمتها فقال : { ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات } قال المفسرون : في الآية إضمار والتقدير أنه يبدأ الخلق ليأمرهم بالعبادة ثم يميتهم ثم يعيدهم ليجزي . وإنما حسن هذا الحذف لتقدم قوله : { فاعبدوه } ولأن الإعادة لا تكون إلا بعد الإماتة والإعدام . وقوله : { بالقسط } أي بالعدل متعلق ب { يجزي } أي ليجزيهم بقسطه ويوفيهم أجرهم أو ليجزيهم بقسطهم وبما لم يظلموا أنفسهم حين آمنوا وعملوا صالحاً وهذا وجه حسن لطباق قوله : { بما كانوا يكفرون } وفي قوله : { والذين كفروا } من غير أن يدخل لام العاقبة في الجملة كما أدخلها في الأولى دليل على أنه خلق الخلق للرحمة لا للعذاب ، وإنما جاء التعذيب لغرض وقوعهم في طريق القهر . والحميم الماء الذي أسخن بالنار حتى انتهى حره . قالت الأشاعرة : في الآية دلالة على عدم منزلة بين المنزلتين على ما يقول بها المعتزلة . وأجيب بأن عدم الذكر لا يدل على العدم ورُدَّ بأن الفساق أكثر من أهل الطاعة فكيف يجوز طي ذكرهم ؟ واعلم أن للعلماء في إثبات المعاد طريقين : الأول طريق القائلين بالحسن والقبح العقليين ، والثاني طريق من يقول لا يجب على الله شيء أصلاً يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد . أما الفريق الأول فلهم على وجوب المعاد حجج عقلية منها : أنه تعالى خلق الخلق وأعطاهم عقولاً وقدراً فيجب في حكمته أن يرغبهم في الخيرات ويزجرهم عن السيئات ، وهذا الترغيب والزجر لا يمكن إلا بربط الثواب على الفعل والعقاب على الترك . هذا في المأمورات وبالعكس في المنهيات ، وذلك الثواب المرغب والعقاب المرهب غير حاصل في الدنيا فلا بد من دار أخرى هي دار الآخرة ليحصل فيها ذلك وإلا لزم أن يكون الله تعالى كاذباً في قوله : { ليجزي } الخ . فإن قيل : لم لا يكفي في الترغيب والردع ما أودع الله في العقول من تحسين الخيرات وتقبيح المنكرات فلا يحتاج إلى الوعد والوعيد ؟ ولئن سلم فلم لا يجوز أن يكون الغرض من الترغيب والترهيب نظام العالم لا أنه يفعل ذلك ولا يلزم منه الكذب على الله ، ألستم تخصصون أكثر عمومات القرآن ثم تزعمون أنه لا كذب ؟ سلمنا أنه يفعل لكن لم لا يجوز أن يكون الثواب والعقاب هو ما يصل إلى الإنسان في دار الدنيا من الراحات والآلام ؟ فالجواب أن العقل وإن كان يدعو إلى فعل الخير وترك الشر إلا أن الهوى والنفس يدعوان إلى الانهماك في الشهوات الجسمانية ، وإذا حصل هذا التعارض فلا بد من مرجح وما ذاك إلا ترتيب الوعد والوعيد على الأعمال ، وتجويز الخلف في ذلك مناف للغرض ، وأخذ الأجرة إنما يكون بعد الفراغ من العمل والعبد ما دام في الدنيا فهو في العمل ، وقد ترى أزهد الناس وأعلمهم مبتلى بالآفات والبليات ، وأفسقهم وأجهلهم في أتم اللذات والمسرات . ومنها أن صريح العقل يوجب في حكمة الحكيم أن يفرق بين المحسن والمسيء والمظلوم والظالم وأن لا يجعل من كفر به وعصاه كمن آمن به وأطاعه وليس هذه التفرقة في الدنيا كما قيل :

كم عالم عالم أعيت مذاهبه *** وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا

فلا بد من دار أخرى يظهر فيها التفاوت . ومنها أنه كلف عبيده بأن يعبدوه ، والحكيم إذا أمر عبده بشيء فلا بد أن يجعله فارغ البال منتظم الأحوال حتى يمكنه الاشتغال بأداء تكليفه ، والناس جبلوا على طلب اللذات والتبادر إلى تحصيل أسباب الراحات فلو لم يكن زاجر من خوف المعاد لوقع الهرج والمرج والفتن وحينئذٍ لا يتفرغ المكلف لأداء ما أمر به . فإن قيل : لم لا يكفي في نظام العالم مهابة الملوك وسياستهم ؟ قلنا : إن لم يكن السلطان قاهراً قادراً على الرعية فلا فائدة فيه ، وإن كان قاهراً غالباً ولا خوف له من المعاد فحينئذٍ يقدم على أنواع الظلم والإيذاء لأن الداعية النفسانية قائمة ولا وازع له في الدنيا ولا في الآخرة . ومنها أنه تعالى خلق هذا العالم وخلق فيه الناس ، والعبث لا يليق بالحكيم الرحيم فوجب أن يقال : إنه خلقهم لمقصود ومصلحة وخير وليس ذلك في الدنيا لأن لذات هذا العالم جسمانية لا حقيقة لها إلا إزالة الألم ، وإزالة الألم أمر عدمي وكان هذا حاصلاً قبل الوجود فلا يبقى للتخليق فائدة . وأيضاً إن لذات الدنيا مشوبة بالآلام بل اللذة في الدنيا كالقطرة من البحر فعلمنا أن للراحة دار أخرى . فإن قيل : ليس أنه يعذب أهل النار لا لمصلحة وفائدة لهم ؟ قلنا : الفرق أن لذلك الألم استحقوه على أعمالهم وهذا الألم الحاصل في الدنيا غير مستحق فوجب أن يعقبه خيرات عظيمة وإلا فينافي كونه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين . ومنها أنه لو لم يحصل للإنسان معاد لكان أحسن من جميع الحيوانات لأنها تشاركه في اللذات الحسية لأن الروث في مذاق الجعل كاللوز في فم الإنسان ، والإنسان يزيد عليها بعقل هو سبب تألمه وتأذيه في أغلب الأحوال ، يتفكر في الأحوال الماضية فيتأسف ، ويتأمل في الأحوال الآتية فيخاف ، فلو لم يكن للإنسان معاد به يكمل حاله ويظهر سعادته كان عقله سبباً لشقائه وخسته دون شرفه ومزيته .

ومنها أن إيصال النعم إما أن يكون مشوباً بالآفات أو خالصاً عنها ، فلما أنعم الله تعالى علينا في الدنيا بالمرتبة الأولى وجب أن ينعم علنيا بالمرتبة الثانية في دار أخرى إظهاراً لكمال القدرة والرأفة والحكمة ، فهناك ينعم على المطيعين ويعفو عن المذنبين ويزيل الغموم والهموم والآفات والمخافات . ومما يقوّي هذا الكلام أن الإنسان دائماً في الترقي من حين كونه جنيناً في بطن أمه إلى أن يخلص من ذلك السجن ويخرج إلى قضاء الدنيا ، وإلى أن ينتقل من تناول اللبن والشد الوثيق في المهد إلى تناول الأطعمة اللذيذة والمشي والعدو إلى أن يصير أميراً نافذ الحكم على الخلق أو عالماً مشرفاً على حقائق الأشياء ، فوجب بحكم هذا الاستقراء أن يكون حاله بعد الموت أشرف وأبهى من اللذات العاجلة المشوبة بالآلام . ومنها طريقة الاحتياط فإنا إذا آمنا بالمعاد وتأهبنا له فإن كان هذا المذهب حقاً فقد نجونا وهلك المنكر ، وإن كان باطلاً لم يضرنا هذا الاعتقاد ، غاية ذلك فوات بعض اللذات الزائلة المشوبة بالمنغصات . ومنها أن أحوال الإنسان من صباه إلى هرمه تضاهي حال الأرض من الربيع إلى الشتاء . ثم إنا نرى الأرض في الربيع الثاني تعود إلى تلك الحياة فلم لا يعقل مثل ذلك في الإنسان ؟ ومنها أن الإنسان إنما يتولد من نطفة تولدت من الأغذية الكائنة من الأجزاء العنصرية المتفرقة في مشارق الأرض ومغاربها ، فإذا مات وتفرقت تلك الأجزاء فكيف يمتنع أن تجتمع مرة أخرى على مثال الاجتماع الأول ؟ ومنها أن النظر في تغيرات العالم أدى إلى إثبات صانع حكيم قادر قاهر ، والعقل يحكم بأن هذا الحكيم لا يليق به أن يترك عبيده هملاً يكذبون عليه ويجورون ، فلا بد من أن يكون له أمر ونهي ووعد ووعيد من غير تجويز خلف فيهما كما مر ، ولا يتحقق جميع ذلك إلا في دار الجزاء .

وأما الفريق الآخر الذين لا يعللون أفعال الله تعالى برعاية المصالح فإنهم يقولون : المعاد أمر جائز الوجود لأن تعلق النفس بالبدن لما كان في المرة الأولى جائزاً فالمرة الثانية أيضاً جائزة . ثم إن إله العالم قادر مختار عالم بجميع المعلومات الكليات والجزئيات فلا يعجز تمييز أجزاء بدن زيد - وإن اختلطت بأجزاء التراب والبحار - عن أجزاء بدن عمرو ، وإذا ثبت هذا الإمكان وقد دل الدليل على صدق الأنبياء عليهم السلام وعلى أن القرآن كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . ثم إنهم قطعوا بوقوع هذا الممكن والقرآن مشحون بآيات البعث والجزاء فوجب علينا القطع بالمعاد الجسماني . وأما شبهة المنكرين فمن ذلك أنهم قالوا الدار الآخرة إن كانت شراً من هذه فالتبديل سفه ، وإن كانت مثلها فعبث ، وإن كانت خيراً منها فإما أن يقال إنه قادر على خلق ذلك الأجود أولاً ثم تركه وفعل الأرذل فذلك سفه ، أو يقال إنه ما كان قادراً ثم حدثت له القدرة فذلك انتقال من العجز إلى القدرة ومن الجهل إلى الحكمة فهو محال على القديم . والجواب أن كلاً من الدارين خير في وقتها فالأولى لتحصيل الكمالات النفسانية الممكنة للنوع الإنساني من قبيل العلم والعمل ، والأخرى للراحة والجزاء ، ومن ذلك أنهم قالوا : حركات الأفلاك مستديرة والمستدير لا ضد له وما لا ضد له لا يقبل الفساد . والجواب ما ذكرنا في كتبنا الحكمية من أن كل جسم مركب وكل مركب ينحل لا محالة . ولئن سلمنا أنها أزلية فحركاتها غير أزلية لأن الحركة عبارة عن الانتقال من حال إلى حال ، وهذه الماهية تقتضي المسبوقية بالحالة المنتقل عنها والأزلية تنافي المسبوقية بالغير فكان الجمع بين الأزل والحركة محالاً . ولئن سلم أن الحركة أزلية فلم لا يجوز أن يكون بعض أوضاع الأفلاك مقتضياً لإعادة المعدومات من الأشخاص الإنسانية ؟ ومن ذلك أنهم قالوا : الإنسان عبارة عن هذا البدن ذي الأجزاء لا كيف كانت بل بشرط وقوعها على تأليف مخصوص ، لأن أجزاء البدن كانت موجودة قبل هذا الإنسان والموجود مغاير للمعدوم . فإذا مات الإنسان وتفرقت أجزاؤه فقد عدمت تلك الصورة والأعراض وعود المعدوم محال . وأجيب بأن الإنسان ليس عبارة عن هذا الجسد وإنما هو النفس سواء كانت جوهراً مجرداً مفارقاً أو جسماً مخصوصاً لطيفاً باقياً في جميع أحوال البدن من الصبا إلى الهرم مصوناً عن التحلل والتبدل وهو الذي يسميه المتكلمون بالأجزاء الأصلية . ومن ذلك أنهم قالوا : إذا قتل الإنسان واغتذى به إنسان آخر لزم أن تعاد تلك الأجزاء في بدن كل واحد من الشخصين وذلك محال . وأجيب بعين ما مر وهي أن الأجزاء الأصلية لا تصير جزءاً من إنسان آخر . فهذه خلاصة وما وصل إليه العقول من أمر المعاد والله تعالى أعلم بحقائق الأمور .

/خ10