المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{إِلَيۡهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِيعٗاۖ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقًّاۚ إِنَّهُۥ يَبۡدَؤُاْ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ لِيَجۡزِيَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ بِٱلۡقِسۡطِۚ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمۡ شَرَابٞ مِّنۡ حَمِيمٖ وَعَذَابٌ أَلِيمُۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡفُرُونَ} (4)

وقوله { إليه مرجعكم جميعاً } الآية ، آية إنباء بالبعث من القبور وهي من الأمور التي جوزها العقل وأثبت وقوعها الشرع ، وقوله { جميعاً } الآية ، حال من الضمير في { مرجعكم } ، { وعد الله } نصب على المصدر ، وكذلك قوله { حقاً } وقال أبو الفتح { حقاً } نعت ، وقرأ الجمهور «إنه » بكسر الألف على القطع والاستئناف ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع والأعمش وسهل بن شعيب وعبد الله «أنه » بفتح الألف ، وموضعها النصب على تقدير أحق أنه ، وقال الفراء : موضعها رفع على تقدير يحق أنه .

قال القاضي أبو محمد : يجوز عندي أن يكون { أنه } بدلاً من قوله { وعد الله } ، قال أبو الفتح : إن شئت قدرت لأنه يبدأ الخلق أي فمن في قدرته هذا فهو غني عن إخلاف الوعد . وإن شئت قدرته «وعد الله حقاً أنه » ولا يعمل فيه المصدر الذي هو { وعد الله } لأنه قد وصف فإذن ذلك بتمامه وقطع عمله{[6011]} ، وقرأ ابن أبي عبلة «حقٌّ » بالرفع فهو ابتداء وخبره «أنه » وقوله { يبدأ الخلق } يريد النشأة الأولى ، والإعادة هي البعث من القبور ، وقرأ طلحة «يُبدِىء الخلق » بضم الياء وكسر الدال ، وقوله { ليجزي } هي لام كي والمعنى أن الإعادة إنما هي ليقع الجزاء على الأعمال ، وقوله { بالقسط } أي بالعدل في رحمتهم وحسن جزائهم ، وقوله { والذين كفروا } ابتداء و «الحميم » الحار المسخن وهو فعيل بمعنى مفعول ومنه الحمام والحمة ومنه قول المرقش :

في كل يوم لها مقطرة *** وكباء معدة وحميم{[6012]}

وحميم النار فيما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه سلم إذا أدناه الكافر من فيه تساقطت فروة رأسه{[6013]} ، وهو كما وصفه تعالى { يشوي الوجوه }{[6014]} .


[6011]:- فلا يصح أن يوصف قبل تمامه.
[6012]:- البيت للمرقّش الأصغر، واسمه ربيعة بن سفيان بن سعد، وهو ابن أخ المرقش الأكبر، وعمّ لطرفة بن العبد، وهو أشهر المرقشين، ويعد واحدا من فرسان العرب وشجعانهم، والبيت من قصيدة يتغزل فيها في محبوبته ابنة عجلان، والرواية هنا ناقصة، وفيها اختلاف عن الديوان، واللفظ كما في الديوان: في كل مسمى لها مقطرة فيها كباء معدّة وحميم. ورواية اللسان: "كل عشاء- ومعدّ". وجميع الروايات تحتاج إلى مناقشة في الوزن الشعري، والمقطرة: المحجرة، والكباء بكسر الكاف: العود، والحميم: ماء حار تحمّ به، ويصفها بالنظافة فيقول: إنها تعد كل مساء ماء ساخنا لتغتسل به، وهذا المعنى مأثور ومتكرر في الشعر الغزلي عند الجاهليين، إذ ينسبون إلى الحبيبات كل نعيم للتدليل على الترف.
[6013]:- رواه الترمذي، والإمام أحمد (5/265) ولفظه كما جاء فيه: عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (ويُسقى من ماء صديد يتجرعه) قال: يقرب إليه فيتكرهه فإذا دنا منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه...الخ الحديث.
[6014]:- من الآية (29) من سورة (الكهف).