قوله تعالى : { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً } الآية .
لمَّا ذكر الدَّلائل الدَّالة على إثبات المبدأ ، أردفه بما يدلُّ على صحَّة القول بالمعاد فقوله " إليه مرجعكم " الرجع بمعنى الرجوع و " جميعها " نصب على الحال أي ذلك الرجوع يحصل حال الاجتماع وهذا يدل على أن المراد بالرجوع القيامة لا الموت .
وقوله : " وعْدَ اللهِ " منصوبٌ على المصدر المؤكَّدِ ؛ لأنَّ معنى " إلَيْهِ مرْجِعكُمْ " : وعدكم بذلك .
وقوله : " حَقّاً " مصدرٌ آخرُ مؤكِّدٌ لمعنى هذا الوعد ، وناصبه مضمر ، أي : أحَق ذلك حقّاً .
وقيل : انتصب " حَقّاً " ب " وَعْدَ " على تقدير " في " ، أي : وَعْدَ الله في حق ، يعني على التَّشْبيه بالظرف . وقال الأخفش الصغير : التقدير : وقت حق ؛ وأنشد : [ الطويل ]
أحَقّاً عِبَادَ الله أنْ لَسْتُ ذَاهِباً *** وَلاَ وَالِجاً إِلاَّ عليَّ رَقيبُ{[18306]}
" إنَّهُ يَبْدَؤا " الجمهور على كسر الهمزة للاستئناف ، وقرأ عبد الله ، وابن{[18307]}{[18308]} القعقاع ، والأعمش ، وسهيل بن شعيب بفتحها ، وفيها تأويلاتٌ :
أحدها : أن تكون فاعلاً بما نصب " حَقّاً " أي : حقَّ بدءُ الخَلْقِ ، ثُمَّ إعادته ؛ كقوله : [ الطويل ]
أَحَقّاً عبادَ اللهِ أنْ لَسْتُ جَائِياً *** . . .
وهو مذهبُ الفرَّاء ، فإنَّه قال " والتقدير : يحقُّ أنَّه يبدأ الخَلْق " .
والثاني : أنه منصوبٌ بالفعل الذي نصب " وَعْدَ اللهِ " ، أي : وعد الله تعالى بدء الخلق ثم إعادته ، والمعنى : إعادةُ الخلْقِ بعد بدئه .
الثالث : أنه على حذفِ لام الجرِّ ، أي : لأنَّهُ ذكر هذه الأوجه الثلاثة الزمخشري وغيره .
الرابع : أنَّهُ بدلٌ من " وَعْدَ اللهِ " قالهُ ابن عطية{[18309]} .
الخامس : أنه مرفوعٌ بنفس " حَقّاً " أي : بالمصدر المنون ، وهذا إنَّما يتأتَّى على جَعْل " حَقّاً " غير مؤكدٍ ، لأنَّ المؤكَّدَ لا عمل له إلاَّ إذا نَابَ عن فعله ، وفيه بحث .
السادس : أن يكون " حَقّاً " مشبهاً بالظَّرف خبراً مقدماً ، و " إنَّه " في محلِّ رفع مبتدأ مؤخراً ، كقولهم : أحقاً أنَّك ذاهبُ ، قالوا : تقديره : أفي حقٍّ ذهابك .
وقرأ ابن أبي{[18310]} عبلة " حَقٌّ أنَّه " برفع حق وفتح " أنّ " على الابتداء والخبر ، قال أبو حيَّان : وكون " حق " خبر مبتدأ ، و " أنه " هو المبتدأ هو الوجه في الإعراب ، كما تقول : صحيحٌ أنك مخرج ؛ لأنَّ اسم " أن " معرفة ، والذي تقدَّمها في هذا المثال نكرة ، فظاهرُ هذه العبارة يُشْعر بجواز العكس ، وهذا قد ورد في باب " إنَّ " ؛ كقوله : [ الطويل ]
وإنَّ حراماً أنْ أسُبَّ مُجَاشِعاً *** بآبَائِيَ الشُّمِّ الكِرَامِ الخَضَارِمِ{[18311]}
وإنَّ شفَاءً عبْرَةٌ أنْ سَفَحْتُهَا *** وهَلْ عندَ رسْمٍ دارٍ مِنْ مُعَوَّلِ{[18312]}
على جَعْلِ " أنْ سَفَحْتُهَا " بدلاً من " عَبْرَة " ، وقد أخبر في " كان " عن نكرةٍ بمعرفةٍ ، كقوله : [ الوافر ]
. . . *** ولا يَكُ موقِفٌ مِنْكِ الوَدَاعَا{[18313]}
. . . *** يكُونُ مِزاجَهَا عَسَلٌ ومَاءُ{[18314]}
قال مكِّي{[18315]} : " وأجاز الفرَّاء رفع " وَعْد " ، بجعله خبراً ل " مَرْجِعُكُمْ " . وأجاز رفعَ " وَعْد " و " حَقّ " على الابتداء والخبر ، وهو حسنٌ ، ولم يقرأ به أحد " .
قال شهابُ الدِّين : نعم لم يرفع " وَعْد " ، و " حَقّ " معاً أحد ، وأمَّا رفعُ " حَقٌّ " وحده فقط تقدَّم أن ابن أبي عبلة قرأه ، وتقدَّم توجيهه ، ولا يجوز أن يكون " وعْد الله " عاملاً في " أنَّه " لأنه قد وُصِفَ بقوله " حَقّاً " قاله أبو الفتح ، وقرئ{[18316]} " وعَدَ اللهُ " بلفظ الفعل الماضي ورفع الجلالة فاعلةً ، وعلى هذه يكون " إنَّه يَبْدأ " معمولاً له إنْ كان هذا القارئ يفتح " أنه " ، والجمهُور على يَبْدَأ بفتح الياء من بَدَأ ، وابنُ أبي طلحة{[18317]} " يُبْدِئ " مِنْ أبْدَأ ، وبَدَأ وأبْدَأ بمعنى واحد .
في هذه الآية إضمار ، تقديره : إنَّه يبدأ الخلق ؛ ليأمرهم بالعبادة ، ثم يُميتُهُم ثم يعيدهم ، كقوله في البقرة : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [ البقرة : 28 ] .
إلاَّ أنَّه - تعالى - حذف ذكر الأمر بالعبادة ههنا ؛ لأنَّه - تعالى - قال من قبله { ذلكم الله رَبُّكُمْ فاعبدوه } وحذف ذكر الإماتة ، لأنَّ ذكر الإعادة يدلُّ عليها . وهذه الآية تدلُّ على أنَّه تعالى يعيد جميع المخلوقات ، وإعادتها لا يمكن إلاَّ بعد إعدامها ، وإلا لزم إيجاد الموجود وهو محالٌ ، ونظيره قوله تعالى : { يَوْمَ نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ } [ الأنبياء : 104 ] فحكم بأنَّ الإعادة تكون مثل الابتداء .
قوله : " ليَجْزِي " متعلِّق بقوله " ثُمَّ يُعِيدُهُ " ، و " بالقِسْطِ " متعلقٌ ب " يَجْزِيَ " ويجوز أن يكون حالاً : إمَّا من الفاعل أو المفعول ، أي : يَجْزيهُم مُلْتَبِساً بالقِسْطِ أو ملتبسين به ، والقِسْطُ : العدل .
قال الكعبيُّ : " اللاَّم في قوله " ليَجْزِيَ الذينَ آمَنُوا " تدل على أنَّه تعالى خلق العباد للثواب والرحمة ، وأيضاً فإنَّه أدخل " لام " التعليل على الثواب ، ولم يدخلها على العقاب ، بل قال : { والذين كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ } فدل على أنَّه خلق الخلق للرَّحمةِ لا للعقاب ، وذلك يدلُّ على أنَّه - تعالى - ما أراد منهم الكفر ، ولم يخلق الكفر فيهم " .
والجواب : أنَّ لامَ التعليل في أفعال الله - تعالى - محالٌ ؛ لأنه - تعالى - لو فعل فعلاً لعلَّةٍ لكانت تلك العِلَّة ، إن كانت قديمة لزم قدم الفعل ، وإن كانت حادثة فيلزم التسلسل ، وهو محال .
الأول : أنَّه العدل ، كما تقدم ؛ والعدلُ هو الذي يكون لا زائداً ولا ناقصاً ، وذلك يدلُّ على أنَّه تعالى لا يزيدهُم على ما يستحقونه بأعمالهم ، ولا يتفضَّل عليهم بشيء .
فالجواب : أنَّ الثواب أيضاً محضُ التَّفضُّل ، وأيضاً فبتقدير أن يساعد على حصول الاستحقاق إلا أنَّ لفظ " القِسْطِ " يدلُّ على توفية الأجْرِ ، فأمَّا المنع من الزِّيادة فلفظ " القِسْط " لا يدلُّ عليه ، فإن قيل : لِمَ خصَّ المؤمنين بالقسطِ مع أنَّه - تعالى - يجازي الكافرين أيضاً بالقسطِ ؟
فالجواب : أنَّ تخصيصَ المؤمنين يدلُّ على مزيد العناية في حقِّهم ، وعلى كونهم مخصوصين بمزيد الإحسان .
الوجه الثاني - في تفسير القِسْطِ - : أن المعنى : ليجزي الذين آمنُوا بقسطهم ، وبما أقسطوا وعدلوا ولم يظلموا أنفسهم حين آمنُوا وعملوا الصَّالحات ، لأنَّ الشِّركَ ظلمٌ ، قال تعالى { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] ، والعصاة أيضاً قد ظلموا أنفسهم ، قال تعالى : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } [ فاطر : 32 ] وهذا أقوى ؛ لأنه في مقابلة قوله : { بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } .
قوله : { والذين كَفَرُواْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون مرفوعاً بالابتداءِ ، والجملة بعده خبره .
والثاني : أن يكون منصوباً عطفاً على الموصول قبله ، وتكونُ الجملةُ بعده مُبَيِّنَة لجزائهم . و " شَرابٌ " يجُوزُ أن يكون فاعلاً ، وأن يكون مبتدأ ، والأولُ أولَى .
قوله : " بِمَا كَانُوا " الظَّاهرُ تعلُّقه بالاستقرار المضمر في الجارِّ الواقع خبراً ، والتقدير : استقرَّ لهم شرابٌ من حميم وعذاب أليمٌ بما كانُوا . وجوَّز أبو البقاء فيه وجهين ولم يذكر غيرهما :
الأول : أن يكون صفة أخرى ل " عَذاب " .
والثاني : أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، وهذا لا معنى له ، ولا حاجة إلى العدول عن الأوَّل . قال الواحدي : الحَميمُ : الذي أسخنَ بالنَّار حتى انتهى حرُّه ، يقال : حَمَمْتُ الماءَ ، أي : أسْخَنْتُهُ ، أحْمِيهِ ، فهو حميمٌ ، ومنه الحَمَّام .
دلَّت الآية على أنَّه لا واسطة بين أن يكون المكلَّف مُؤمناً ، وبين أن يكون كافراً ، لأنَّه اقتصر في الآية على ذكر هذين القسمين .
وأجاب القاضي : بأنَّ ذكر هذين القسمين لا ينفي القسم الثالث ؛ لأنَّ قوله تعالى : { والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ }
[ النور : 45 ] ولم يدلَّ على نفي القسم الرابع ، بل ربما ذكر المقصود أو الأكثر ، وترك ما عداه ، إذا كان قد بيِّن في موضع آخر ، وقد بيَّن الله حال القسم الثالث في سائر الآيات .
وجوابه : إنَّما يترك القسمُ الذي يجري مجرى النَّادر ، ومعلوم أنَّ الفسَّاق أكثر من أهل الطَّاعةِ ، فكيف يجُوز ترك ذكرهم في هذا الباب ؟ وأما قوله تعالى { والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ } [ النور : 45 ] فإنَّما ترك ذكر القسم الرابع ، لأنَّ أقسام دواب الأرض كثيرة ، فكان ذكرها بأسرها يوجبُ الإطناب ، بخلاف مسألتنا ، فإنه ليس هنا إلاَّ القسم الثَّالث ، وهو الفاسقُ الذي يزعم الخصمُ أنَّه لا مؤمنٌ ولا كافرٌ ، فظهر الفرق .