الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{إِلَيۡهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِيعٗاۖ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقًّاۚ إِنَّهُۥ يَبۡدَؤُاْ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ لِيَجۡزِيَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ بِٱلۡقِسۡطِۚ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمۡ شَرَابٞ مِّنۡ حَمِيمٖ وَعَذَابٌ أَلِيمُۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡفُرُونَ} (4)

قوله تعالى : { وَعْدَ اللَّهِ } : منصوبٌ على المصدر المؤكِّدِ ، لأنَّ معنى " إليه مَرْجِعُكُمْ " : وَعَدَكم بذلك .

وقوله : { حَقّاً } مصدرٌ آخرُ مؤكِّدٌ لمعنى هذا الوعد ، وناصبُه مضمر ، أي : أَحُقُّ ذلك حقاً . وقيل : انتصب " حقاً " ب " وَعْدَ " على تقدير " في " ، أي : وَعْدَ الله في حق ، يعني على التشبيه بالظرف . وقال الأخفش الصغير : " التقدير : وقتَ حق " وأنشد :

2566 أحقاً عبادَ الله أنْ لَسْتُ ذاهباً *** ولا والِجاً إلا عليَّ رقيبُ

قوله : { إِنَّهُ يَبْدَأُ } الجمهورُ على كسر الهمزة للاستئناف . وقرأ عبد الله وابن القعقاع والأعمش وسهل بن شعيب بفتحها . وفيها تأويلاتٌ ، أحدها : أن تكونَ فاعلاً بما نصب " حقاً " ، أي : حَقَّ حَقَّاً بَدْءُ الخلق ، ثم إعادتُه ، كقوله :

2567 أحقاً عبادَ الله أَنْ لستُ جائِياً *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

البيت . وهو مذهبُ الفراء فإنه قال : " والتقدير : يحقُّ أنه يبدأ الخلق . الثاني : أنه منصوبٌ بالفعل الذي نَصَبَ " وعد الله " أي : وَعَدَ الله تعالى بَدْء الخلق ثم إعادتَه ، والمعنى إعادة الخلق بعد بَدْئه . الثالث : أنه على حَذْف لام الجر أي : لأنه ، ذكر هذا الأوجهَ الثلاثة الزمخشري وغيره . الرابع : أنه بدلٌ من " وَعْدَ الله " قاله ابن عطية . الخامس : أنه مرفوعٌ بنفس " حقاً " أي : بالمصدر المنون ، وهذا إنما يتأتَّى على جَعْل " حقاً " غيرَ مؤكدٍ ؛ لأنَّ المصدر المؤكدَ لا عملَ له إلا إذا ناب عن فعلِه ، وفيه بحثٌ . السادس : أن يكونَ " حقاً " مشبهاً بالظرف خبراً مقدماً و " أنَّه " في محلِّ رفعٍ مبتدأً مؤخراً كقولهم : أحقاً أنك ذاهب قالوا : تقديره : أفي حقٍ ذهابك .

وقرأ ابن أبي عبلة : " حَقٌّ أنه " برفع [ حق ] وفتح " أنَّ " على الابتداء والخبر . قال الشيخ : " وكونُ " حق " خبرَ مبتدأ ، و " أنه " هو المبتدأ هو الوجه في الإِعراب ، كما تقول : " صحيحٌ أنك تخرج " لأن [ اسم ] " أنَّ " عرفة ، والذي تقدَّمها في هذا المثال نكرة " . قلت : فظاهرُ هذه العبارةِ يُشعر بجواز العكس ، وهذا قد ورد في باب " إنَّ " كقوله :

2568 وإن حراماً أن أَسُبَّ مُجاشعاً *** بآبائيَ الشُّمِّ الكرامِ الخَضَارمِ

وقوله :

2569 وإن شفاءً عَبْرَةٌ أَنْ سَفَحْتُها وهل عند رسمٍ دارسٍ مِنْ مُعَوَّل ***

على جَعْل " أنْ سفحتُها " بدلاً من " عبرة " . وقد أخبر في " كان " عن نكرةٍ بمعرفةٍ كقوله :

2570 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** ولا يكُ موقفٌ منكِ الوَدَاعا

وقوله :

2571 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** يكون مزاجَها عَسَلٌ وماءُ

وقال مكي : " وأجاز الفراء رفع " وعد " ، يجعله خبراً ل " مرجعكم " .

وأجاز رفعَ " وعد " و " حق " على الابتداء والخبر ، وهو حسنٌ ، ولم يقرأ به أحد " . قلت : نعم لم يرفع وعد وحق معاً أحد ، وأمَّا رفعُ " حق " وحده فقد تقدم أن ابن أبي عبلة قرأه ، وتقدَّم توجيهُه . ولا يجوز أن يكون " وعدَ الله " عاملاً في " أنه " لأنه قد وُصِف بقوله " حقاً " قاله أبو الفتح .

وقرىء " وَعَدَ اللَّهُ " بلفظ الفعل الماضي ورفعِ الجلالة فاعلةً ، وعلى هذه يكون " أنه يَبْدَأ " معمولاً له إنْ كان هذا القارىءُ يفتح " أنه " .

والجمهور على " يَبْدأُ " بفتح الياء مِنْ بدأ ، وابن أبي طلحة " يُبْدِىء " مِنْ أَبْدأ ، وبَدَأ وأبدأ بمعنى .

قوله : { لِيَجْزِيَ } متعلق بقوله " ثم يُعيده " ، و " بالقسطِ " متعلقٌ ب " يَجْزي " . ويجوز أن يكونَ حالاً : إمَّا من الفاعلِ أو المفعول أي : يَجْزيهم ملتبساً بالقسط أو ملتبسين به . والقِسْط : العدل .

قوله : { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ } يحتمل وجهين ، أحدهما : أن يكون مرفوعاً بالابتداء ، والجملةُ بعده [ خبره ] . الثاني : أن يكون منصوباً عطفاً على الموصول قبلَه ، وتكونُ الجملةُ بعده مبيِّنَةً لجزائهم . و " شراب " [ يجوز أَنْ ] يكونَ فاعلاً ، وأن يكون مبتدأ ، [ والأولُ أَوْلَى ] .

قوله : { بِمَا كَانُواْ } الظاهرُ تعلُّقُه بالاستقرار المضمر في الجارِّ الواقع خبراً ، والتقدير : استقر لهم شراب من جهنم وعذاب أليم بما كانوا . وجَوَّز أبو البقاء فيه وجهين ولم يذكر غيرهما الأول : أن يكونَ صفةً أخرى ل " عذاب " . والثاني : أن يكونَ خبر مبتدأ محذوف ، وهذا لا معنى له ولا حاجةَ إلى العُدول عن الأول .