قوله تعالى : { ولتكن منكم أمة } . أي كونوا أمة و " م " صلة ليست للتبعيض ، كقوله تعالى ( فاجتنبوا الرجس من الأوثان ) . لم يرد اجتناب بعض الأوثان بل أراد فاجتنبوا الأوثان ، واللام في قوله " ولتكن " لام الأمر .
قوله تعالى : { يدعون إلى الخير } . إلى الإسلام .
قوله تعالى : { ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر قال : أنا عبد الغافر بن محمد قال أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، ثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر محمد بن أبي شيبة أخبرنا وكيع عن سفيان عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال : قال أبو سعيد رضي الله عنهما : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقو ل : " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان " .
أخبرنا أبو عبد الله بن الفضل الخرقي قال : أخبرنا أبو الحسن الطيسفوني أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري ، أخبرنا أحمد بن علي الكشمهيني ، أخبرنا علي بن حجر ، أخبرنا إسماعيل بن جعفر ، أنا عمرو بن أبي عمرو عن عبد الله بن عبد الرحمن الأشهلي عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذاباً من عنده ثم لتدعنه فلا يستجاب لكم " .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي ، أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ، أنا علي بن الحسين الدرابجردي ، أخبرنا أبو النعمان ، أخبرنا عبد العزيز بن مسلم المقسميلي ، أنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال : سمعت أبا بكر الصديق رضي الله عنه يقول : يا أيها الناس ، إنكم تقرؤون هذه الآية( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) . وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الناس إذا رأوا منكراً فلم يغيروه يوشك أن يعمهم الله تعالى بعقابه " .
أخبرنا عبد الواحد بن احمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عمرو بن حفص بن غياث ، أخبرنا أبي أنا الأعمش حدثني الشعبي أنه سمع النعمان بن بشير رضي الله عنه يقول : قال النبي صلى الله عليه وسلم " مثل المداهن في حدود الله تعالى والواقع فيها كمثل قوم استهموا سفينة ، فصار بعضهم في أسفلها وصار بعضهم في أعلاها ، فكان الذي في أسفلها يمر بالماء على الذين في أعلاها فتأذوا به ، فأخذ فأساً فجعل ينقر أسفل السفينة ، فأتوه فقالوا :مالك ؟ قال : تأذيتم بي ولابد لي من الماء ؟ فإن أخذوا على يديه أنجوه وأنجوا أنفسهم ، وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم " .
{ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } من للتبعيض ، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفاية ، ولأنه لا يصلح له كل أحد إذ للمتصدي له شروط لا يشترك فيها جميع الأمة كالعلم بالأحكام ومراتب الاحتساب وكيفية إقامتها والتمكن من القيام بها . خاطب الجميع وطلب فعل بعضهم ليدل على أنه واجب على الكل حتى لو تركوه رأسا أثموا جميعا ولكن يسقط بفعل بعضهم ، وهكذا كل ما هو فرض كفاية . أو للتبيين بمعنى وكونوا أمة يدعون كقوله تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف } . والدعاء إلى الخير يعم الدعاء إلى ما فيه صلاح ديني أو دنيوي ، وعطف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليه عطف الخاص على العام للإيذان بفضله . { وأولئك هم المفلحون } المخصوصون بكمال الفلاح وروي أنه صلى الله عليه وسلم سئل من خير الناس فقال : " آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله وأوصلهم للرحم " . والأمر بالمعروف يكون واجبا ومندوبا على حسب ما يؤمر به . والنهي عن المنكر واجب كله لأن جميع ما أنكره الشرع حرام . والأظهر أن العاصي يجب عليه أن ينهى عما يرتكبه لأنه يجب عليه تركه وإنكاره فلا يسقط بترك أحدهما وجوب الآخر .
قرأ الحسن والزهري وأبو عبد الرحمن وعيسى بن عمر وأبو حيوة : «ولِتكن » بكسر اللام على الأصل ، إذ أصلها الكسر ، وكذلك قرؤوا لام الأمر في جميع القرآن ، قال الضحاك والطبري وغيرهما : أمر المؤمنون أن تكون منهم جماعة بهذه الصفة ، فهم خاصة أصحاب الرسول ، وهم خاصة الرواة .
قال القاضي : فعلى هذا القول «من » للتبعيض ، وأمر الله الأمة بأن يكون منها علماء يفعلون هذه الأفاعيل على وجوهها ويحفظون قوانينها على الكمال ، ويكون سائر الأمة متبعين لأولئك ، إذ هذه الأفعال لا تكون إلا بعلم واسع ، وقد علم تعالى أن الكل لا يكون عالماً ، وذهب الزجّاج وغير واحد من المفسرين ، إلى أن المعنى : ولتكونوا كلكم أمة يدعون ، «ومن » لبيان الجنس قال : ومثله من كتاب الله ، { فاجتنبوا الرجس من الأوثان }{[3395]} ومثله من الشعر قول القائل : [ البسيط ]
أَخُوا رَغَائِبَ يُعْطِيها وَيسْأَلُها . . . يأبى الظُّلامةَ مِنْهُ النُّوفَل الزّفرُ{[3396]}
قال القاضي : وهذه الآية على هذا التأويل إنما هي عندي بمنزلة قولك : ليكن منك رجل صالح ، ففيها المعنى الذي يسميه النحويون ، التجريد ، وانظر أن المعنى الذي هو ابتداء الغاية يدخلها ، وكذلك يدخل قوله تعالى : { من الأوثان } ذاتها ولا تجده يدخل قول الشاعر : منه النوفل الزفر ، ولا تجده يدخل في «من » التي هي صريح بيان الجنس ، كقولك ثوب من خز ، وخاتم من فضة ، بل هذه يعارضها معنى التبعيض ، ومعنى الآية على هذا التأويل : أمر الأمة بأن يكونوا يدعون جميع العالم إلى الخير ، الكفار إلى الإسلام ، والعصاة إلى الطاعة ، ويكون كل واحد من هذه الأمور على منزلته من العلم والقدرة ، قال أهل العلم : وفرض الله بهذه الآية ، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو من فروض الكفاية إذا قام به قائم سقط عن الغير ، وللزوم الأمر بالمعروف شروط ، منها أن يكون بمعروف لا بتخرق{[3397]} ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : ( من كان آمراً بمعروف ، فليكن أمره ذلك بمعروف ) {[3398]} ، ومنها أن لا يخاف الآمر أذى يصيبه ، فإن فعل مع ذلك فهو أعظم لأجره ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان »{[3399]} .
قال القاضي : والناس في تغيير المنكر والأمر بالمعروف على مراتب ، ففرض العلماء فيه تنبيه الحكام والولاة ، وحملهم على جادة العلم ، وفرض الولاة تغييره بقوتهم وسلطانهم ، ولهم هي اليد{[3400]} ، وفرض سائر الناس رفعه إلى الحكام والولاة بعد النهي عنه قولاً ، وهذا في المنكر الذي له دوام ، وأما إن رأى أحد نازلة بديهة من المنكر ، كالسلب والزنى ونحوه ، فيغيرها بنفسه بحسب الحال والقدرة ، ويحسن لكل مؤمن أن يحتمل في تغيير المنكر ، وإن ناله بعض الأذى ، ويؤيد هذا المنزع أن في قراءة عثمان بن عفان وابن مسعود وابن الزبير «يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ويستعينون بالله على ما أصابهم »{[3401]} ، فهذا وإن كان لم يثبت في المصحف ، ففيه إشارة إلى التعرض لما يصيب عقب الأمر والنهي ، كما هي في قوله تعالى :
{ وأمر بالمعروف وانه عن المنكر ، واصبر على ما أصابك }{[3402]} وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ، لا يضركم من ضل إذا اهتديتم }{[3403]} معناه إذا لم يقبل منكم ولم تقدروا على تغيير منكره ، وقال بعض العلماء : «المعروف » التوحيد ، و { المنكر } الكفر ، والآية نزلت في الجهاد .
قال الفقيه القاضي : ولا محالة أن التوحيد والكفر هما رأس الأمرين ، ولكن ما نزل عن قدر التوحيد والكفر ، يدخل في الآية ولا بد ، { المفلحون } الظافرون ببغيتهم ، وهذا وعد كريم .
هذا مفرّع عن الكلام السَّابق : لأنَّه لمّا أظهر لهم نعمة نقلهم من حالتي شقاء وشناعة إلى حالتي نعيم وكَمال ، وكانوا قد ذاقوا بين الحالتين الأمَرّيْن ثُمّ الأَحْلَوَيْن ، فحلبوا الدّهر أشطريه ، كانوا أحرياء بأن يَسعوا بكل عزمهم إلى انتشال غيرهم من سُوء ما هو فيه إلى حُسنى ما هُم عليه حتَّى يكون النَّاس أمَّة واحدة خيِّرة . وفي غريزة البشر حبّ المشاركة في الخير لذلك تجد الصّبي إذا رأى شيئاً أعجبه نادى من هو حوله ليراه معه .
ولذلك كان هذا الكلام حرياً بأن يعطف بالفاء ، ولو عطف بها لكان أسلوباً عربياً إلاّ أنّه عُدل عن العطف بالفاء تنبيهاً على أن مضمون هذا الكلام مقصود لذاته بحيث لو لم يسبقه الكلام السابق لكان هو حريّاً بأن يؤمر به ، فلا يكونُ مذكوراً لأجل التفرّع عن غيره والتبع .
وفيه من حسن المقابلة في التَّقسيم ضرب من ضروب الخطابة : وذلك أنَّه أنكر على أهل الكتاب كفرهم وصدّهم النَّاس عن الإيمان ، فقال : { قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله } [ آل عمران : 98 ، 99 ] الآية .
وقابل ذلك بأن أمر المؤمنين بالإيمان والدعاء إليه إذ قال : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته } [ آل عمران : 102 ] وقوله : { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير } الآية .
وصيغة { ولتكن منكم أمَّة } صيغة وجوب لأنَّها أصرح في الأمر من صيغة افعلوا لأنَّها أصلها . فإذا كان الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر غير معلوم بينهم من قبل نزولِ هذه الآية ، فالأمرُ لتشريع الوجوب ، وإذا كان ذلك حاصلاً بينهم من قبل كما يدلّ عليه قوله : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } [ آل عمران : 110 ] فالأمر لتأكيد ما كانوا يفعلونه ووجوبه ، وفيه زيادة الأمر بالدّعوة إلى الخير وقد كان الوجوب مقرّراً من قبل بآيات أخرى مثل : { وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } [ العصر : 3 ] ، أو بأوامر نبويَّة . فالأمر لتأكيد الوجوب أيضا للدلالة على الدّوام والثبات عليه ، مثل { يأيها الذين آمنوا آمنوا باللَّه } [ النساء : 136 ] .
والأمَّة الجماعة والطائفة كقوله تعالى : { كلما دخلت أمة لعنت أختها } [ الأعراف : 38 ] .
وأصل الأمَّة في كلام العرب الطَّائفة من النَّاس الَّتي تؤمّ قصداً واحداً : من نسب أو موطن أو دين ، أو مجموع ذلك ، ويتعيّن ما يجمعها بالإضافة أو الوصف كقولهم : أمَّة العرب وأمّة غسان وأمّة النصارى .
والمخاطب بضمير ( منكم ) إن كان هم أصحابَ رسول الله كما هو ظاهر الخطابات السابقة آنِفاً جاز أن تكون ( مِن ) بَيانيَّة وَقُدّم البيانُ على المبيَّن ويكون ما صْدق الأمّة نفس الصّحابة ، وهم أهل العصر الأول من المسلمين فيكون المعنى : ولتكونوا أمَّة يدعون إلى الخير فهذه الأمَّة أصحاب هذا الوصف قد أمروا بأن يكوِّنوا من مجموعهم الأمَّة الموصوفة بأنهم يدعون إلى الخير ، والمقصود تكوين هذا الوصف ، لأنّ الواجب عليهم هو التَّخلق بهذا الخلق فإذا تخلّقوا به تكوّنت الأمَّة المطلوبة .
وهي أفضل الأمم . وهي أهل المدينة الفاضلة المنشود للحكماء من قبل ، فجَاءت الآية بهذا الأمر على هذا الأسلوب البليغ الموجز .
وفي هذا محسِّن التجريد : جُرّدت من المخاطبين أمَّة أخرى للمبالغة في هذا الحكم كما يقال : لِفلان من بنيه أنصار . والمقصود : ولتكونوا آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر حتَّى تكونوا أمَّة هذه صفتها ، وهذا هو الأظهر فيكون جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خوطبوا بأن يكونوا دعاة إلى الخير ، ولا جرم فهم الَّذين تلقوا الشَّريعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة ، فهم أولى النَّاس بتبليغها . وأعلم بمشَاهِدها وأحوالها ، ويشهد لهذا قوله صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة : « ليبلغ الشاهد الغائب أَلاَ هل بلّغت » وإلى هذا المحمل مال الزجاج وغير واحد من المفسّرين ، كما قاله ابن عطية .
ويجوز أيضاً على اعتبار الضّمير خطابا لأصحاب محمَّد صلى الله عليه وسلم أن تكون ( من ) للتبعيض ، والمراد من الأمّة الجماعة والفريق ، أي : وليكن بعضكم فريقاً يدعون إلى الخير فيكون الوجوب على جماعة من الصّحابة فقد قال ابن عطية : قال الضّحاك ، والطبري : أمر المؤمنين أن تكون منهم جماعة بهذه الصّفة . فهم خاصّة أصحاب الرسول وهم خاصّة الرواة .
وأقول : على هذا يثبت حكم الوجوب على كلّ جيل بعدهم بطريق القياس لئلا يتعطّل الهدى . ومن النَّاس من لا يستطيع الدّعوة إلى الخير ، والأمر بالمعروف ، والنَّهي عن المنكر قال تعالى : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم } [ التوبة : 122 ] الآية .
وإن كان الخطاب بالضّمير لجميع المؤمنين تبعاً لكون المخاطب بيَأيها الّذين آمنوا إيَّاهم أيضاً ، كانت ( مِنْ ) للتبعيض لا محالة ، وكان المراد بالأمّة الطائفة إذ لا يكون المؤمنون كُلّهم مأمورين بالدعاء إلى الخير ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، بل يكون الواجب على الكفاية وإلى هذا المعنى ذهب ابن عطية ، والطبري ، ومن تبعهم ، وعلى هذا فيكون المأمور جماعة غير معيّنة وإنما المقصود حصول هذا الفعل الَّذى فُرض على الأمَّة وقُوعُه .
على أنّ هذا الاعتبار لا يمنع من أن تكون ( مِن ) بيانية بمعنى أن يكونوا هم الأمّة ويكون المراد بكونهم يدعون إلى الخير ، ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، إقامة ذلك فيهم وأن لا يخلُوا عن ذلك على حسب الحاجة ومقدار الكفاءة للقيام بذلك ، ويكون هذا جارياً على المعتاد عند العرب من وصف القبيلة بالصّفات الشائعة فيها الغالبة على أفرادها كقولهم : بَاهِلَة لِئَام ، وعُذْرةُ عُشَّاق .