فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{وَلۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةٞ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَيۡرِ وَيَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۚ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (104)

100

{ أمة } طائفة .

{ المعروف } ما عرف حسنة مما جاء به الشرع أو شهد به العقل .

{ المنكر } ما تنكره الشرائع المنزلة وتأباه العقول السليمة .

{ المفلحون } المدركون ما طلبوا الناجون مما منه هربوا .

{ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } أمر الله جل علاه أن تكون منا طائفة تدعوا إلى الله وما فيه صلاح عباده وتأمر بفعل ما حسنه الشرع وتنهاهم عن إتيان المنكر والشر ومن يفعل ذلك الذي وصانا الله به فهو الرابح الفائز المدرك لما طلب الناجي مما منه هرب- { . . إلى الخير . . } وهو جنس تحته نوعان الترغيب في فعل ما ينبغي من واجبات الشرع ومندوباته ، والكف عما لا ينبغي من محرماته ومكروهاته ، فلا جرم أتبعه النوعين بزيادة في البيان فقال : { ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } واختلفوا في أن كلمة من في قوله { منكم } للتبيين أو التبعيض-{[1089]} .

وبالجملة : الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق فلينظر الداعي إلى الخير في حال كل مكلف وغير مكلف حتى الصبيان ليتمرنوا والمجانين كيلا يضروا ، ويدعوه إلى ما يليق به متدرجا من السهل إلى الأصعب في الأمر والإنكار ، كل ذلك إيمانا واحتسابا لا سمعة ورياء ولا لغرض من الأغراض النفسانية والجسمانية وذلك أن هذه الدعوة منصب النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين بعده-{[1090]} .


[1089]:ذهب طائفة إلى أنها للتبيين لأنه ما من مكلف إلا وجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إما بيده أو بلسانه أو بقلبه وكيف وقد وصفهم الله تعالى بذلك في قوله {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}.. ثم قالوا إن ذلك وإن كان واجبا على الكل إلا أنه إذا قام به بعض سقط عن الباقين كسائر فروض الكفايات، وقال آخرون إنها للتبعيض إما لأن في القوم من لا يقدر على الدعوة وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالنساء والمرضى العاجزين وإما لأن هذا التكليف مختص بالعلماء الذين يعرفون الخير ما هو، والمعروف والمنكر ما هما ويعلمون كيف يترتب الأمر في إقامتها وكيف يباشر فإن الجاهل ربما نهى عن معروف وأمر بمنكر.. وقد يغلظ في موضع اللين ويلين في الغلظة، وينكر على من لا يزيده إنكاره إلا تماديا.. واعلم أن الأمر بالمعروف على ثلاثة أضرب: أحدها ما يتعلق بحقوق الله تعالى وهو نوعان أحدهما ما يؤمر به الجمع دون الإفراد كإقامة الجمعة حيث تجتمع شرائطها فإن كانوا عدوا يرون الفقاد الجمعة بهم والمحتسب لا يراه فلا يأمرهم بما لا يجوز ولا ينهاهم عما يرونه فرضا عليهم.. والثاني- ما يؤمر به الأفراد كما إذا أخر بعض الناس الصلاة عن الوقت فإن قال نسيتها حثه على المراقبة، ولا يعترض على من أخرها والوقت باق، وثانيهما ما يتعلق بحقوق الآدميين وينقسم إلى عام كالبلد إذا تعطل شربه، أو انهدم سوره أو طرقه أبناء السبيل المحتاجون وتركوا معونتهم فإن كان في بيت المال مال لم يؤمر الناس بذلك وإن لم يكن أمر ذوو المكنة برعايتها وإلى خاص كمطل المديون الموسر بالدين فالمحتسب يأمره بالخروج عنه إذا استعاده رب الدين وليس له الحبس، وثالثها الحقوق المشتركة كأمر الأولياء بنكاح الأكفاء وإلزام النساء أحكام العدة وأخذ السادة بحقوق الأرقاء وأرباب البهائم بتعهدها وأن لا يستعملوها فيما لا تطيق ومن يغير هيئات العبادات كالجهر في الصلاة السرية والعكس أو يزيد في الأذان يمنعه وينكر عليه ومن يتصدى للتدريس والوعظ وهو ليس من أهله ولم يؤمن اغترار الناس به التأويل أو تحريف، فينكر المحتسب عليه ويظهر أمره لئلا يغتر به وإذا رأى رجلا واقفا مع امرأة في شارع يطرقه الناس لم ينكر عليه وإن كان في طريق خال فهو موضوع ريبة فينكر ويقول إن كانت ذات محرم فصنها عن مواضع الريب وإن كانت أجنبية فخف الله عنها في الخلوة ولا ينظر في حقوق الآدميين كتعدي الجار في جدار إلا باستعداد صاحب الحق وينكر على من يطيل الصلاة من أئمة المساجد المطروقة وعلى القضاة إذا حجبوا الخصوم وقصروا في النظر في الخصومات والسوقي المختص بمعاملة النساء يختبر أمانته فإن ظهرت منه خيانته منع من معاملتهن.
[1090]:من تفسير القرآن العظيم وقد فهم البعض من قوله تعالى {.. وأولئك هم المفلحون} أن القاموس ليس له أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لأنه ليس من أهل الفلاح.