التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{وَلۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةٞ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَيۡرِ وَيَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۚ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (104)

هذا مفرّع عن الكلام السَّابق : لأنَّه لمّا أظهر لهم نعمة نقلهم من حالتي شقاء وشناعة إلى حالتي نعيم وكَمال ، وكانوا قد ذاقوا بين الحالتين الأمَرّيْن ثُمّ الأَحْلَوَيْن ، فحلبوا الدّهر أشطريه ، كانوا أحرياء بأن يَسعوا بكل عزمهم إلى انتشال غيرهم من سُوء ما هو فيه إلى حُسنى ما هُم عليه حتَّى يكون النَّاس أمَّة واحدة خيِّرة . وفي غريزة البشر حبّ المشاركة في الخير لذلك تجد الصّبي إذا رأى شيئاً أعجبه نادى من هو حوله ليراه معه .

ولذلك كان هذا الكلام حرياً بأن يعطف بالفاء ، ولو عطف بها لكان أسلوباً عربياً إلاّ أنّه عُدل عن العطف بالفاء تنبيهاً على أن مضمون هذا الكلام مقصود لذاته بحيث لو لم يسبقه الكلام السابق لكان هو حريّاً بأن يؤمر به ، فلا يكونُ مذكوراً لأجل التفرّع عن غيره والتبع .

وفيه من حسن المقابلة في التَّقسيم ضرب من ضروب الخطابة : وذلك أنَّه أنكر على أهل الكتاب كفرهم وصدّهم النَّاس عن الإيمان ، فقال : { قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله } [ آل عمران : 98 ، 99 ] الآية .

وقابل ذلك بأن أمر المؤمنين بالإيمان والدعاء إليه إذ قال : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته } [ آل عمران : 102 ] وقوله : { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير } الآية .

وصيغة { ولتكن منكم أمَّة } صيغة وجوب لأنَّها أصرح في الأمر من صيغة افعلوا لأنَّها أصلها . فإذا كان الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر غير معلوم بينهم من قبل نزولِ هذه الآية ، فالأمرُ لتشريع الوجوب ، وإذا كان ذلك حاصلاً بينهم من قبل كما يدلّ عليه قوله : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } [ آل عمران : 110 ] فالأمر لتأكيد ما كانوا يفعلونه ووجوبه ، وفيه زيادة الأمر بالدّعوة إلى الخير وقد كان الوجوب مقرّراً من قبل بآيات أخرى مثل : { وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } [ العصر : 3 ] ، أو بأوامر نبويَّة . فالأمر لتأكيد الوجوب أيضا للدلالة على الدّوام والثبات عليه ، مثل { يأيها الذين آمنوا آمنوا باللَّه } [ النساء : 136 ] .

والأمَّة الجماعة والطائفة كقوله تعالى : { كلما دخلت أمة لعنت أختها } [ الأعراف : 38 ] .

وأصل الأمَّة في كلام العرب الطَّائفة من النَّاس الَّتي تؤمّ قصداً واحداً : من نسب أو موطن أو دين ، أو مجموع ذلك ، ويتعيّن ما يجمعها بالإضافة أو الوصف كقولهم : أمَّة العرب وأمّة غسان وأمّة النصارى .

والمخاطب بضمير ( منكم ) إن كان هم أصحابَ رسول الله كما هو ظاهر الخطابات السابقة آنِفاً جاز أن تكون ( مِن ) بَيانيَّة وَقُدّم البيانُ على المبيَّن ويكون ما صْدق الأمّة نفس الصّحابة ، وهم أهل العصر الأول من المسلمين فيكون المعنى : ولتكونوا أمَّة يدعون إلى الخير فهذه الأمَّة أصحاب هذا الوصف قد أمروا بأن يكوِّنوا من مجموعهم الأمَّة الموصوفة بأنهم يدعون إلى الخير ، والمقصود تكوين هذا الوصف ، لأنّ الواجب عليهم هو التَّخلق بهذا الخلق فإذا تخلّقوا به تكوّنت الأمَّة المطلوبة .

وهي أفضل الأمم . وهي أهل المدينة الفاضلة المنشود للحكماء من قبل ، فجَاءت الآية بهذا الأمر على هذا الأسلوب البليغ الموجز .

وفي هذا محسِّن التجريد : جُرّدت من المخاطبين أمَّة أخرى للمبالغة في هذا الحكم كما يقال : لِفلان من بنيه أنصار . والمقصود : ولتكونوا آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر حتَّى تكونوا أمَّة هذه صفتها ، وهذا هو الأظهر فيكون جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خوطبوا بأن يكونوا دعاة إلى الخير ، ولا جرم فهم الَّذين تلقوا الشَّريعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة ، فهم أولى النَّاس بتبليغها . وأعلم بمشَاهِدها وأحوالها ، ويشهد لهذا قوله صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة : « ليبلغ الشاهد الغائب أَلاَ هل بلّغت » وإلى هذا المحمل مال الزجاج وغير واحد من المفسّرين ، كما قاله ابن عطية .

ويجوز أيضاً على اعتبار الضّمير خطابا لأصحاب محمَّد صلى الله عليه وسلم أن تكون ( من ) للتبعيض ، والمراد من الأمّة الجماعة والفريق ، أي : وليكن بعضكم فريقاً يدعون إلى الخير فيكون الوجوب على جماعة من الصّحابة فقد قال ابن عطية : قال الضّحاك ، والطبري : أمر المؤمنين أن تكون منهم جماعة بهذه الصّفة . فهم خاصّة أصحاب الرسول وهم خاصّة الرواة .

وأقول : على هذا يثبت حكم الوجوب على كلّ جيل بعدهم بطريق القياس لئلا يتعطّل الهدى . ومن النَّاس من لا يستطيع الدّعوة إلى الخير ، والأمر بالمعروف ، والنَّهي عن المنكر قال تعالى : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم } [ التوبة : 122 ] الآية .

وإن كان الخطاب بالضّمير لجميع المؤمنين تبعاً لكون المخاطب بيَأيها الّذين آمنوا إيَّاهم أيضاً ، كانت ( مِنْ ) للتبعيض لا محالة ، وكان المراد بالأمّة الطائفة إذ لا يكون المؤمنون كُلّهم مأمورين بالدعاء إلى الخير ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، بل يكون الواجب على الكفاية وإلى هذا المعنى ذهب ابن عطية ، والطبري ، ومن تبعهم ، وعلى هذا فيكون المأمور جماعة غير معيّنة وإنما المقصود حصول هذا الفعل الَّذى فُرض على الأمَّة وقُوعُه .

على أنّ هذا الاعتبار لا يمنع من أن تكون ( مِن ) بيانية بمعنى أن يكونوا هم الأمّة ويكون المراد بكونهم يدعون إلى الخير ، ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، إقامة ذلك فيهم وأن لا يخلُوا عن ذلك على حسب الحاجة ومقدار الكفاءة للقيام بذلك ، ويكون هذا جارياً على المعتاد عند العرب من وصف القبيلة بالصّفات الشائعة فيها الغالبة على أفرادها كقولهم : بَاهِلَة لِئَام ، وعُذْرةُ عُشَّاق .