التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{وَلۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةٞ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَيۡرِ وَيَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۚ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (104)

قوله تعالى : ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ) الحرف من في قوله : ( منكم ) موضع خلاف في معناه وذلك على عدة أقوال :

أولها : أن " من " هنا للتبيين . وذلك كقوله : ( فاجتنبوا الرجس من الأوثان ) فيكون تقدير الكلام : كونوا أمة دعاة إلى الخير آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر . والأصل في المسألة هنا أن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل الأمة . فإنه ما من مكلف إلا ومنوط به أن يأمر بالمعروف وأن ينهى عن المنكر ؛ وذلك للخبر " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه . وذلك أضعف الإيمان " وفي رواية " وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل " {[558]} ثم قالوا : إن ذلك وإن كان واجبا على الكل إلا أنه متى قام به قوم سقط التكليف عن الباقين . وذلك كقوله تعالى : ( انفروا خفافا وثقالا ) فالأمر عام ، لكنه إذا قامت به طائفة وقعت الكفاية وزوال التكليف عن الباقين .

القول الثاني : إن " هنا " للتبعيض . وبذلك فإن المراد بالأمة في الآية جماعة من أمة المسلمين وهم العلماء ، فالتكليف مختص بهم ، فيكون التقدير : أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذه الوجيبة العظيمة ، وهي وجيبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهؤلاء هم جماعة العلماء ؛ لما يتجلى فيهم من مزية القدرة على فهم المعاني الدينية ووعيها . ومزية التبليغ للناس بما يثير فيهم الحماسة الدينية ويدعوهم إلى سبيل الرشاد ، ولا يتسنى مثل هذه الوجيبة لغير الفئة الواعية العالمة من الأمة . الفئة التي أوتيت حظا من المعرفة بكتاب الله الحكيم . وعلى هذا فالواجب هنا على سبيل الكفاية بمعنى أنه متى قام به البعض سقط عن الباقين . وذلك شديد بالقول السابق الثاني .

القول الثالث : المراد من هذه الآية هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم : لأنهم كانوا يتعلمون من الرسول عليه الصلاة والسلام ويعلمون الناس .

والصواب في تقديري كما قاله ابن كثير في هذا الصدد : والمقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن ، وإن كان ذلك واجبا على كل فرد من الأمة بحسبه . جاء في الخبر مما رواه أحمد أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : " والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده لم لتدعنه فلا يستجيب لكم " {[559]} .

قوله : ( يدعون إلى الخير ) يراد بالخير الإسلام وشرائعه ، بكل ما في هذه العبارة من عظيم المعاني . فالدعوة إلى الخير تتناول كل جوانب هذا الدين الشاسع الرحيب بما فيه من إثبات لذات الله وصفاته وتقديسه جل جلاله عما لا يليق بكماله . إلى غير ذلك من أصول وقواعد وأحكام ودروس ومواعظ مما حواه هذا الدين المتين .

وقوله : ( ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) عطف بالأمر المعروف والنهي عن المنكر على الدعوة إلى الخير . وذلك عطف للخاص على العام إيذانا بفضلهما وعظيم أهميتهما . ولا غرو فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل المسلمين جميعا لنشر الحق والفضيلة ، وتبديد الباطل والرذيلة ، بل إنهما سبيل لنشر الإسلام وعقيدة التوحيد بين الناس وفي الآفاق ، ولإذهاب كل ظواهر الفسق والفساد والباطل من بين العباد ، لا جرم أن البشرية برمتها مستديمة الحاجة اللحاحة لما يقرع آذانها من دعوات الخير الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر . فالإنسان بطبيعته خلق ضعيفا ، وهو بذلك يخالطه الضعف في اصطباره واقتداره واحتماله للواجبات ليجنح في الغالب للزلل والنسيان والتقصير . ويعبر النبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك خير تعبير ؛ إذ يقول : " كل بني آدم خطّاء وخير الخطائين التوابون " {[560]} .

من أجل ذلك لا يستغني الإنسان عن تذكيره ومعاودة أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر .

قوله : ( وأولئك هم المفلحون ) الفلاح معناه الفوز والنجاة والبقاء{[561]} . واسم الإشارة يعود على الداعين إلى الخير ، الآمرين بالمعروف ، الناهين عن المنكر ، فإن أولئك جميعا الناجون من كل ما يمس الناس من مكروه ، والفائزون بالنعيم المقيم لا ينقطع .


[558]:- تفسير ابن كثير جـ 1 ص 390.
[559]:- تفسير ابن كثير جـ 1 ص 390 وتفسير الرازي جـ 8 ص 182.
[560]:- رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم عن أنس . انظر الحامع الصغير للسيوطي جـ 2 ص 278.
[561]:- مختار الصحاح ص 510.