السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَلۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةٞ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَيۡرِ وَيَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۚ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (104)

{ ولتكن منكم أمة } أي : طائفة { يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } فمن للتبعيض ؛ لأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات ولأنه لا يصلح له إلا من علم المعروف والمنكر وعلم كيف يرتب الأمر في إقامته وكيف يباشره ، فإنّ الجاهل ربما نهى عن معروف وأمر بمنكر وقد يغلظ في موضع اللين ويلين في موضع الغلظة وعلى هذا فالمخاطب به الكل على الأصح ويسقط بفعل البعض الحرج عن الباقين وهكذا كل ما هو فرض كفاية ، فإن تركوه أصلاً أثموا جميعاً وقيل : من زائدة وقيل : للتبيين بمعنى وكونوا أمة تأمرون بالمعروف كقوله تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف } { وأولئك } أي : الداعون الآمرون الناهون { هم المفلحون } أي : الفائزون بكمال الفلاح .

روى الإمام أحمد وغيره ( أنه صلى الله عليه وسلم سئل وهو على المنبر : من خير الناس ؟ قال : ( آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله وأوصلهم للرحم ) .

وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه ) .

وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) .

وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذاباً من عنده ثم لتدعنه فلا يستجاب لكم ) .

وروي أن أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه قال : أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } ( المائدة ، 105 ) وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إنّ الناس إذا رأوا منكراً فلم يغيروه يوشك أن يعمهم الله تعالى بعذابه ) .

وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( مثل المداهن في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا سفينة فصار بعضهم في أسفلها وصار بعضهم في أعلاها فكان الذي في أسفلها يمرّ بالماء على الذي في أعلاها فتأذوا به فأخذ فأساً فجعل ينقر أسفل السفينة فأتوه فقالوا : ما لك فقال : تأذيتم بي ولا بد لي من الماء ، فإن أخذوا على يديه أنجوه وأنجوا أنفسهم ، وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم ) وعن حذيفة : يأتي على الناس زمان يكون فيهم جيفة الحمار أحب إليهم من مؤمن يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر . وعن سفيان الثوري : إذا كان الرجل محبباً في جيرانه محموداً عند إخوانه فاعلم أنه مداهن . والأمر بالمعروف تابع للمأمور به إن كان واجباً فواجب ، وإن كان مندوباً فمندوب ، وأمّا النهي عن المنكر أي : الحرام فواجب كله لأنّ جميع المنكر تركه واجب لاتصافه بالقبح والأظهر أن العاصي يجب عليه أن ينهى عما يرتكبه ؛ لأنه يجب عليه تركه وإنكاره فلا يسقط بترك أحدهما وجوب الآخر . وعن السلف مروا بالخير وإن لم تفعلوا وإنما يجب الأمر والنهي على المكلف إذا لم يخش ضرراً ويجب أن يدفع بالأخف فالأخف كدفع الصائل .

فإن قيل : الدعاء للخير عام في التكاليف من الأفعال والتروك فهو شامل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فما فائدة ذكر ذلك ؟ أجيب : بأنه من عطف الخاص على العام إيذاناً بفضله كقوله تعالى : { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } ( البقرة ، 238 ) .