قوله : { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ } اعلم أنه - تعالى - لما عاب على أهل الكتاب كفرهم وسعيهم في تكفير الغير خاطب المؤمنين بتقوى الله والإيمان به ، فقال : { اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ } ثم أمرهم بالسعي في إلقاء الغير في الإيمان والطاعة ، فقال : { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ } يجوز أن تكون التامة ، أي : ولتوجد منكم أمة ، فتكون " أمَّةٌ " : فاعلاً ، و " يَدْعُونَ " : جملة في محل رفع صفة ل " أمة " ، و " مِنْكُمْ " متعلق ب " تكن " على أنها تبعيضية .
ويجوز أن يكون : " مِنْكُمْ " متعلِّقاً بمحذوف على أنه حال من " أمَّةٌ " إذْ كان يجوز جعله صفةً لها لو تأخر عنها . ويجوز أن تكون " مِنْ " للبيان ؛ لأن المبيَّن - وإن تأخر لفظاً - فهو متقدم رتبة .
ويجوز أن تكون الناقصة ، ف " أمةٌ " اسمها ، و " يَدْعُونَ " خبرها ، و " مِنْكُمْ " متعلق إمَّا بالكون ، وإمَّا بمحذوف على الحال من " أمةٌ " .
ويجوز أن يكون " مِنْكُمْ " هو الخبر ، و " يَدْعُونَ " صفة ل " أمة " ، وفيه بُعد .
وقرأ العامة : " وَلْتَكُنْ " بسكون اللام .
وقرأ الحسن والزهريّ والسلميّ بكسرها{[5771]} ، وهو الأصل .
وقوله : { وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } من باب ذكر الخاص بعد العام ؛ اعتناء به - كقوله : { وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] - ؛ لأن اسم " الْخَيْر " يقع عليهما ، بل هما أعظم الخيور .
قال بعض العلماء : " مِنْ " - هنا - ليست للتبعيض ، لوجهين :
الأول : أنه أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كُل الأمة .
الثاني : أنه يجب على كل مكلَّف الأمر بالمعروف والنَّهْي عن المنكر - إما بيده ، أو لسانه ، أو بقلبه - فيكون معنى الآية : كونوا أمةً دُعاةً إلى الخير ، آمرين بالمعروف ، ناهين عن المنكر .
وكلمة : " مِنْ " : إنما هي للتبيين ، كقوله : { فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ } [ الحج : 30 ] ويقال : لفلان من أولاده جند ، وللأمير من غِلْمانه عَسْكَر ، والمراد : جميع الأولاد والغلمان لا بعضهم - فكذا هنا . ثم إذا قلنا بأنه يجب على الكُلِّ ، فيسقط بفعل البعض ، كقوله تعالى : { انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً } [ التوبة : 41 ] ، وقوله : { إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ التوبة : 39 ] فالأمر عامٌّ ، ثم إذا قام به مَنْ يكفي ، سقط التكليف عن الباقين والقائلون بالتبعيض اختلفوا على قولين :
أحدهما : أن في القوم مَنْ لا يقدر على الدعوة ، والأمر بالمعروف ، والنَّهْي عن المنكر - كالمرضى والعاجزين .
الثاني : أن هذا التكليف مختصّ بالعلماء ؛ لأن الدعوة إلى الخير ، والأمر بالمعروف ، والنَّهي عن المنكر مشروطة بالعلم بهم ، ونظيره قوله تعالى : { الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُواْ الصَّلاَةَ } [ الحج : 41 ] وليس كل الناس يُمَكنون .
وقوله : { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ } [ التوبة : 122 ] ، وأيضاً الإجماع على أن ذلك واجب على الكفاية ، وإذا كان كذلك كان المعنى : ليقُمْ بذلك بعضُكم .
وقال الضَّحَّاك : المراد بهذه الآية : أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم كاوا يتعلمون من الرسول صلى الله عليه وسلم ويعلّمون الناس .
قال القُرْطُبِيُّ : " وقرأ ابنُ الزبير : ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون بالله على ما أصابهم " .
قال ابن الأنباري : " هذه الزيادة تفسير من ابن الزبير ، وكلام من كلامه ، غلط فيه بعض الناقلين ، فألحقه بألفاظ القرآن ، يدل على ذلك أن عثمان بن عفان قرأ{[5772]} : ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون بالله على ما أصابهم .
فما يشك عاقل في أن عثمان لا يعتد هذه الزيادة من القرآن ؛ إذْ لم يكتبها في مصحفه الذي هو إمام المسلمين " .
قال المفسرون : الدعوة إلى الخير - أي : إلا الإسلام - والأمر بالمعروف ، وهو الترغيب في فعل ما ينبغي ، والنهي عن المنكر هو الترغيب في تَرْك ما لا ينبغي ، { وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي : العاملون بهذه الأعمال هم المفلحون الفائزون ، وقد تقدم تفسيره .
قال - عليه السلام - : " مَنْ أمَرَ بالْمَعْرُوفِ ، وَنَهَى عَنِ المُنْكَرِ ، كَانَ خَلِيفَةَ اللهِ ، وَخلِيفَةَ رَسُولِهِ ، وَخَلِيْفَةَ كِتَابِهِ{[5773]} " وقال - أيضاً - : " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَتَأمُرنَّ بِالْمَعْرُوفِ ، ولتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ ، أوْ لَيُوشِكَنَّ اللهُ أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ عِنْدِهِ ثُمَّ لَتدْعُنَّهُ فَلاَ يُسْتَجَابَ لَكُمْ " . {[5774]}
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.