اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةٞ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَيۡرِ وَيَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۚ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (104)

قوله : { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ } اعلم أنه - تعالى - لما عاب على أهل الكتاب كفرهم وسعيهم في تكفير الغير خاطب المؤمنين بتقوى الله والإيمان به ، فقال : { اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ } ثم أمرهم بالسعي في إلقاء الغير في الإيمان والطاعة ، فقال : { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ } يجوز أن تكون التامة ، أي : ولتوجد منكم أمة ، فتكون " أمَّةٌ " : فاعلاً ، و " يَدْعُونَ " : جملة في محل رفع صفة ل " أمة " ، و " مِنْكُمْ " متعلق ب " تكن " على أنها تبعيضية .

ويجوز أن يكون : " مِنْكُمْ " متعلِّقاً بمحذوف على أنه حال من " أمَّةٌ " إذْ كان يجوز جعله صفةً لها لو تأخر عنها . ويجوز أن تكون " مِنْ " للبيان ؛ لأن المبيَّن - وإن تأخر لفظاً - فهو متقدم رتبة .

ويجوز أن تكون الناقصة ، ف " أمةٌ " اسمها ، و " يَدْعُونَ " خبرها ، و " مِنْكُمْ " متعلق إمَّا بالكون ، وإمَّا بمحذوف على الحال من " أمةٌ " .

ويجوز أن يكون " مِنْكُمْ " هو الخبر ، و " يَدْعُونَ " صفة ل " أمة " ، وفيه بُعد .

وقرأ العامة : " وَلْتَكُنْ " بسكون اللام .

وقرأ الحسن والزهريّ والسلميّ بكسرها{[5771]} ، وهو الأصل .

وقوله : { وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } من باب ذكر الخاص بعد العام ؛ اعتناء به - كقوله : { وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] - ؛ لأن اسم " الْخَيْر " يقع عليهما ، بل هما أعظم الخيور .

فصل

قال بعض العلماء : " مِنْ " - هنا - ليست للتبعيض ، لوجهين :

الأول : أنه أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كُل الأمة .

الثاني : أنه يجب على كل مكلَّف الأمر بالمعروف والنَّهْي عن المنكر - إما بيده ، أو لسانه ، أو بقلبه - فيكون معنى الآية : كونوا أمةً دُعاةً إلى الخير ، آمرين بالمعروف ، ناهين عن المنكر .

وكلمة : " مِنْ " : إنما هي للتبيين ، كقوله : { فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ } [ الحج : 30 ] ويقال : لفلان من أولاده جند ، وللأمير من غِلْمانه عَسْكَر ، والمراد : جميع الأولاد والغلمان لا بعضهم - فكذا هنا . ثم إذا قلنا بأنه يجب على الكُلِّ ، فيسقط بفعل البعض ، كقوله تعالى : { انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً } [ التوبة : 41 ] ، وقوله : { إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ التوبة : 39 ] فالأمر عامٌّ ، ثم إذا قام به مَنْ يكفي ، سقط التكليف عن الباقين والقائلون بالتبعيض اختلفوا على قولين :

أحدهما : أن في القوم مَنْ لا يقدر على الدعوة ، والأمر بالمعروف ، والنَّهْي عن المنكر - كالمرضى والعاجزين .

الثاني : أن هذا التكليف مختصّ بالعلماء ؛ لأن الدعوة إلى الخير ، والأمر بالمعروف ، والنَّهي عن المنكر مشروطة بالعلم بهم ، ونظيره قوله تعالى : { الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُواْ الصَّلاَةَ } [ الحج : 41 ] وليس كل الناس يُمَكنون .

وقوله : { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ } [ التوبة : 122 ] ، وأيضاً الإجماع على أن ذلك واجب على الكفاية ، وإذا كان كذلك كان المعنى : ليقُمْ بذلك بعضُكم .

وقال الضَّحَّاك : المراد بهذه الآية : أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم كاوا يتعلمون من الرسول صلى الله عليه وسلم ويعلّمون الناس .

قال القُرْطُبِيُّ : " وقرأ ابنُ الزبير : ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون بالله على ما أصابهم " .

قال ابن الأنباري : " هذه الزيادة تفسير من ابن الزبير ، وكلام من كلامه ، غلط فيه بعض الناقلين ، فألحقه بألفاظ القرآن ، يدل على ذلك أن عثمان بن عفان قرأ{[5772]} : ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون بالله على ما أصابهم .

فما يشك عاقل في أن عثمان لا يعتد هذه الزيادة من القرآن ؛ إذْ لم يكتبها في مصحفه الذي هو إمام المسلمين " .

فصل

قال المفسرون : الدعوة إلى الخير - أي : إلا الإسلام - والأمر بالمعروف ، وهو الترغيب في فعل ما ينبغي ، والنهي عن المنكر هو الترغيب في تَرْك ما لا ينبغي ، { وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي : العاملون بهذه الأعمال هم المفلحون الفائزون ، وقد تقدم تفسيره .

قال - عليه السلام - : " مَنْ أمَرَ بالْمَعْرُوفِ ، وَنَهَى عَنِ المُنْكَرِ ، كَانَ خَلِيفَةَ اللهِ ، وَخلِيفَةَ رَسُولِهِ ، وَخَلِيْفَةَ كِتَابِهِ{[5773]} " وقال - أيضاً - : " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَتَأمُرنَّ بِالْمَعْرُوفِ ، ولتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ ، أوْ لَيُوشِكَنَّ اللهُ أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ عِنْدِهِ ثُمَّ لَتدْعُنَّهُ فَلاَ يُسْتَجَابَ لَكُمْ " . {[5774]}


[5771]:وبها قرأ أبو حيوة وعيسى بن عمر. انظر: المحرر الوجيز 1/485، والبحر المحيط 3/23 والدر المصون 2/181.
[5772]:نسبها ابن عطية (1/486) إلى عثمان بن عفان وابن مسعود وابن الزبير، ثم قال: "فهذا وإن كان لم يثبته في المصحف ففيه إشارة إلى التعرض لما يصيب عقب الأمر والنهي..." وانظر: البحر المحيط 3/24.
[5773]:أخرجه ابن عدي في "الكامل" (6/2104) والدليمي في "مسند الفردوس" كما في كنز العمال" (3/75) رقم (5564) عن ثوبان رضي الله عنه مرفوعا.
[5774]:أخرجه أحمد (5/391) والبيهقي (10/93) والطحاوي في مشكل الآثار" (2/62) والبغوي في "تفسيره" (1/399- 2/78) عن حذيفة بن اليمان مرفوعا. وله شاهد من حديث عبد الله بن مسعود، أخرجه أبو داود (2/524) كتاب الملاحم ب 17 رقم (4336) والخطيب في "تاريخ بغداد" (8/299- 13/92) وله شاهد آخر عن أبي هريرة أخرجه البزار (3307) والطبراني في "الأوسط" كما في "مجمع الزوائد" (7/266). وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط والبزار وفيه حبان بن علي وهو متروك وقد وثقه ابن معين في رواية وضعفه في غيرها.