ثم أشار إلى أنه كما أنقذكم من النار والضلال بإرسال الرسل وإنزال الآيات ، فليكن فيكم من ينقذ إخوانه ، فقال :
( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون104 ) .
( ولتكن منكم أمة ) أي جماعة ، سميت بذلك لأنها يؤمها فرق الناس ، أي يقصدونها ويقتدون بها ( يدعون إلى الخير ) وهو ما فيه صلاح ديني ودنيوي ( ويأمرون بالمعروف ) أي بكل معروف ، من واجب ومندوب يقربهم إلى الجنة ويبعدهم عن النار ( وينهون عن المنكر ) أي عن كل منكر ، من حرام ومكروه يقربهم إلى النار ويبعدهم من الجنة ( وأولئك ) الداعون الآمرون الناهون ( هم المفلحون ) الفائزون بأجور أعمالهم وأعمال من تبعهم .
قال بعضهم : الفلاح هو الظفر وإدراك البغية . فالدنيوي هو إدراك السعادة التي تطيب بها الحياة ، والأخروي أربعة أشياء : بقاء بلا فناء ، وعز بلا ذل ، وغنى بلا فقر ، وعلم بلا جهل .
قيل : عطف : ( ويأمرون ) على ما قبله ، من عطف الخاص العام –كذا قاله الزمخشري ، وناقشه في ( الانتصاف ) . وعبارته : عطف الخاص على العام يؤذن بمزيد اعتناء بالخاص لا محالة إذا اقتصر على بعض متناولات العام ، كقوله : ( من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال ) . وكقوله : ( فيهما فاكهة ونخل ورمان ) . وكقوله : ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ) . وشبه ذلك . لأن الاقتصار على تخصيص ما يفرد بالذكر / يفيده تمييزا عن غيره من بقية المتناولات . وأما هذه الآية فقد ذكر ، بعد العام فيها ، جميع ما يتناوله ، إذ الخير المدعو إليه إما فعل مأمور ، أو ترك منهي ، لا يعدو واحدا من هذين حتى يكون تخصيصها يميزها عن بقية المتناولات ، فالأولى في ذلك أن يقال : فائدة هذا التخصيص ذكر الدعاء إلى الخير عاما ثم منفصلا . وفي تنبيه أن الذكر على وجهين ما لا يخفى من العناية – والله أعلم_ إلا أن يثبت عرف يخص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ببعض أنواع الخير ، فإذ ذاك يتم مراد الزمخشري ، وما لأرى هذا العرف ثابتا –والله أعلم- انتهى .
في الآية دليل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ووجوبه ثابت بالكتاب والسنة ، وهو من أعظم واجبات الشريعة المطهرة ، وأصل عظيم من أصولها ، وركن مشيد من أركانها ، وبه يكمل نظامها ويرتفع سنامها –كذا في ( فتح البيان ) -
قال الغزالي رضي الله عنه : في هذه الآية بيان الإيجاب . فان قوله تعالى : ( ولتكن ) أمر . وظاهر الأمر الإيجاب ، وفيها بيان أن الفلاح منوط به ، إذ حصر وقال : ( وأولئك هم المفلحون ) . وفيها بيان أنه فرض كفاية لا فرض عين ، وأنه إذا قام به أمة سقط الفرض عن الآخرين . إذ لم يقل : كونوا كلكم آمرين بالمعروف . بل قال : ( ولتكن منكم أمة ) . فإذا ، مهما قام به واحد أو جماعة سقط الحرج كافة القادرين عليه لا محالة . انتهى .
فان قلت : فمن يباشره ؟ فالجواب : كل مسلم تمكن منه ولم يغلب على ظنه أنه إن أنكر لحقته مضرة عظيمة ، أو إن نهيه لا يؤثر ، لأنه عبث ، إلا أنه يستحب لإظهار شعار الإسلام ، وتذكير الناس بأمر الدين . فان قلت : فمن يؤمن وينهى ؟ قلت : كل مكلف ، وغير المكلف إذا هم بضرر غيره منع ، كالصبيان والمجانين ، وينهى الصبيان عن المحرمات حتى لا يتعودوها ، كما يؤاخذون بالصلاة ليمرنوا عليها –ذكره الزمخشري- .
/ وتفصيل هذا البحث في ( الإحياء ) للغزالي قدس سره ، وقد قال ، قدس سره ، في طليعة ذلك البحث ما نصه : إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، هو القطب الأعظم في الدين ، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين ، ولو طوى بساطه وأهمل عمله لتعطلت النبوة ، واضمحلت الديانة ، وعمت الفترة ، وفشت الضلالة ، وشاعت الجهالة ، واستشرى الفساد ، واتسع الخرق ، وخربت البلاد ، وهلك العباد ، وان لم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد ، وقد كان الذي خفنا أن يكون ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، إذ قد اندرس من هذا القطب عمله وعلمه ، وانمخى بالكلية حقيقته ورسمه ، واستولت على القلوب مداهنة الخلق ، وانمحت عنها مراقبة الخالق ، واسترسل الناس في إتباع الهوى والشهوات استرسال البهائم ، وعز على بساط الأرض مؤمن صادق لا تأخذه في الله لومة لائم ، فمن سعى في تلافي هذه الفترة ، وسد هذه الثلمة ، اما متكفلا بعملها ، أو متقلدا لتنفيذها ، مجددا لهذه السنة الدائرة ، ناهضا بأعبائها ، ومتشمرا في إحيائها ، كان مستأثرا من بين الخلق بإحياء سنة أفضى الزمان إلى إماتتها ، ومستبدا بقربه تتضاءل درجات القرب دون ذروتها –انتهى-
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.