غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَلۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةٞ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَيۡرِ وَيَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۚ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (104)

102

ثم رغب المؤمنين الكاملين في تكميل غيرهم فقال : { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير } وهو جنس تحته نوعان : الترغيب في فعل ما ينبغي من واجبات الشرع ومندوباته والكف عما لا ينبغي من محرماته ومكروهاته ، فلا جرم أتبعه النوعين زيادة في البيان فقال : { ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } واختلفوا في أن كلمة " من " في قوله : { منكم } للتبيين أو للتبعيض .

فذهب طائفة إلى أنها للتبيين لأنه ما من مكلف إلا ويجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إما بيده أو بلسانه أو بقلبه ، وكيف لا وقد وصفهم الله تعالى بذلك في قوله : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } فهذا كقولك : لفلان من أولاده جند وللأمير من غلمانه عسكر . وتريد جميع الأولاد والغلمان لا بعضهم . ثم قالوا : إن ذلك وإن كان واجباً على الكل إلا أنه متى قام به بعض سقط عن الباقين كسائر فروض الكفايات . وقال آخرون : إنها للتبعيض إما لأن في القوم من لا يقدر على الدعوة وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالنساء والمرضى والعاجزين ، وإما لأن هذا التكليف مختص بالعلماء الذين يعرفون الخير ما هو والمعروف والمنكر ما هما ، ويعلمون كيف يرتب الأمر في إقامتهما ، وكيف يباشر فإن الجاهل ربما نهى عن معروف وأمر بمنكر ، وربما عرف الحكم في مذهبه وجهله في مذهب صاحبه فنهاه عن غير منكر ، وقد يغلظ في موضع اللين ويلين في موضع الغلظة ، وينكر على من لا يزيده إنكاره إلا تمادياً . وأيضاً قد أجمعنا على أن ذلك واجب على الكفاية ، فكان هذا بالحقيقة إيجاباً على البعض الذي يقوم به . ثم إن نصب لذلك رجل تعين عليه بحكم الولاية وهو المحتسب .

واعلم أن الأمر بالمعروف على ثلاثة أضرب : أحدها ما يتعلق بحقوق الله تعالى وهو نوعان : أحدهما ما يؤمر به الجمع دون الأفراد كإقامة الجمعة حيث تجتمع شرائطها ، فإن كانوا عدداً يرون انعقاد الجمعة بهم والمحتسب لا يراه فلا يأمرهم بما لا يجوّزه ولا ينهاهم عما يرونه فرضاً عليهم ويأمرهم بصلاة العيد . والثاني ما يؤمر به الأفراد كما إذا أخر بعض الناس الصلاة عن الوقت . فإن قال : نسيتها . حثه على المراقبة . ولا يعترض على من أخرها والوقت باق . وثانيها ما يتعلق بحقوق الآدميين وينقسم إلى عام كالبلد إذا تعطل شربه أو انهدم سوره أو طرقه أبناء السبيل المحتاجون وتركوا معونتهم . فإن كان في بيت المال مال لم يؤمر الناس بذلك ، وإن لم يكن أمر ذوو المكنة برعايتها والي خاص كمطل المديون الموسر بالدين . فالمحتسب يأمره بالخروج عنه إذا استعداه رب الدين وليس له الحبس . وثالثها الحقوق المشتركة كأمر الأولياء بإنكاح الأكفاء ، وإلزام النساء أحكام العدد ، وأخذ السادة بحقوق الأرقاء ، وأرباب البهائم بتعهدها وأن لا يستعملوها فيما لا تطيق ، ومن يغير هيئات العبادات كالجهر في الصلاة السرية وبالعكس ، أو يزيد في الأذان يمنعه وينكر عليه ، من تصدى للتدريس والوعظ وهو ليس من أهله ولم يؤمن اغترار الناس به في تأويل أو تحريف ، فينكر المحتسب عليه ويظهر أمره لئلا يغتر به .

وإذا رأى رجلاً واقفاً مع امرأة في شارع يطرقه الناس لم ينكر عليه ، وإن كان في طريق خال فهو موضع ريبة فينكر ويقول : إن كانت ذات محرم فصنها عن مواضع الريب ، وإن كانت أجنبية فخف الله معها في الخلوة . ولا ينكر في حقوق الآدميين كتعدي الجار في جدار الجار إلا باستعداء صاحب الحق ، وينكر على من يطيل الصلاة من أئمة المساجد المطروقة ، وعلى القضاة إذا حجبوا الخصوم وقصروا في النظر في الخصومات . والسوقي المختص بمعاملة النساء يختبر أمانته فإن ظهرت منه خيانة منع من معاملتهن . وبالجملة : " الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " فلينظر الداعي إلى الخير في حال كل مكلف وغير مكلف حتى الصبيان ، ليتمرنوا والمجانين كيلا يضروا ويدعوه إلى ما يليق به متدرجاً من الأسهل إلى الأصعب في الأمر والإنكار كل ذلك إيماناً واحتساباً لا سمعة ورياء ، ولا لغرض من الأغراض النفسانية والجسمانية . وذلك أنّ هذه الدعوة منصب النبي وخلفائه الراشدين بعده ، ومن ههنا ذهب الضحاك إلى أن المراد من المذكورين في هذه الآية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يتعلمون من الرسول ويعلمون الناس . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم " من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسول الله وخليفة كتابه " وعن علي : أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومن شنأ الفاسقين وغضب لله غضب الله له وكفى بقوله تعالى : { وأولئك هم المفلحون } أي الأخصاء بالفلاح مدحاً لهم . وقد يتمسك بهذا في أن الفاسق ليس له أن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر لأنه ليس من أهل الفلاح . وأجيب بأن هذا ورد على سبيل الغالب ، فإن الظاهر أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لا يشرع فيه إلا بعد إصلاح أحوال نفسه ، لأن العاقل يقدم مهم نفسه على مهم الغير وقلما يتفق ممن يزني بامرأة أن يأمرها بالمعروف في أنها لم كشفت عن وجهها . قال بعض العلماء : إن ترك ارتكاب المنهي عنه والنهي عن ارتكاب المنهي واجبان على الفاسق ، فبتركه أحد الواجبين لا يسقط عنه الواجب الآخر . وعن بعض السلف : مروا بالخير وإن لم تفعلوا . وعن الحسن أنه سمع مطرف بن عبد الله يقول : لا أقول ما لا أفعل فقال : وأينا يفعل ما يقول ؟ ود الشيطان لو ظفر بهذه منكم فلا يأمر أحد بمعروف ولا ينهي عن منكر . والحق في هذه القضية ما قيل :

وغير تقيّ يأمر الناس بالتقى *** طبيب يداوي الناس وهو مريض

والقرآن ينعي عليه بقوله :{ لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون }[ الصف :2 ، 3 ]{ أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم }

[ البقرة : 44 ] وقد سلف تقريره في البقرة . وعن داود الطائي أنه سمع صوتاً من قبر : ألم أزكِ ألم أصلِ ألم أصم ألم أفعل كذا وكذا ؟ أجيب بلى يا عدو الله ولكن إنك إذا خلوت بارزته بالمعاصي ولم تراقبه .

/خ111