191- وشأن أولي الألباب أنهم يستحضرون في نفوسهم عظمة الله وجلاله في كل مكان ، قائمين وقاعدين وعلى جنوبهم ، ويتدبرون في خلق السماوات والأرض وما فيهما من عجائب قائلين : ربنا ما خلقت هذا إلا لحكمة قدَّرتها وأنت منزه عن النقص ، بل خلقته دليلاً على قدرتك ، وعنواناً لبالغ حكمتك ، فاحفظنا من عذاب النار بتوفيقك لنا إلى طاعتك .
قوله تعالى : { الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم } . قال علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم والنخعي وقتادة : هذا في الصلاة يصلي قائماً فإن لم يستطع فقاعداً فإن لم يستطع فعلى جنب .
أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي ، أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي ، أنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي ، أخبرنا أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي ، أنا هناد ، أنا وكيع عن إبراهيم بن طهمان عن حسين المعلم عن عبد الله بن بريدة عن عمران بن حصين قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة المريض ، فقال : " صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً ، فإن لم تستطع فعلى جنب " . وقال سائر المفسرين : أراد به المداومة على الذكر في عموم الأحوال لأن الإنسان قلما يخلو من إحدى هذه الحالات الثلاث ، نظيره في سورة النساء ( فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم ) .
قوله تعالى : { ويتفكرون في خلق السماوات والأرض } . وما أبدع فيهما ليدلهم ذلك على قدرة الله ويعرفوا أن لها صانعاً قادراً مدبراً حكيماً ، قال ابن عنوان : الفكرة تذهب الغفلة ، وتحدث للقلب الخشية كما يحدث الماء للزرع النماء ، وما جليت القلوب بمثل الأحزان ، ولا استنارت بمثل الفكرة .
قوله تعالى : { ربنا } . أي ويقولون ربنا .
قوله تعالى : { ما خلقت هذا } . رده إلى الخلق فلذلك لم يقل هذه .
قوله تعالى : { باطلاً } . أي عبثاً وهزلاً بل خلقته لأمر عظيم ، وانتصب " باطلا " بنزع الخافض أي بالباطل .
{ الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم } أي يذكرونه دائما على الحالات كلها قائمين وقاعدين ومضطجعين ، وعنه عليه الصلاة والسلام " من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله " . وقيل معناه يصلون على الهيئات الثلاث حسب طاقتهم لقوله عليه الصلاة والسلام لعمران بن حصين : " صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب تومئ إيماء " فهو حجة للشافعي رضي الله عنه في أن المريض يصلي مضطجعا على جنبه الأيمن مستقبلا بمقاديم بدنه . { ويتفكرون في خلق السماوات والأرض } استدلالا واعتبارا ، وهو أفضل العبادات كما قال عليه الصلاة والسلام " لا عبادة كالتفكر " . لأنه المخصوص بالقلب والمقصود من الخلق ، وعنه عليه الصلاة والسلام : " بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى السماء والنجوم فقال : أشهد أن لك ربا وخالقا : اللهم اغفر لي فنظر الله إليه فغفر له " . وهذا دليل واضح على شرف علم الأصول وفضل أهله . { ربنا ما خلقت هذا باطلا } على إرادة القول أي يتفكرون قائلين ذلك ، وهذا إشارة إلى المتفكر فيه ، أي الخلق على أنه أريد به المخلوق من السماوات والأرض ، أو إليهما لأنهما في معنى المخلوق ، والمعنى ما خلقته عبثا ضائعا من غير حكمه بل خلقته لحكم عظيمة من جملتها أن يكون مبدأ لوجود الإنسان وسببا لمعاشه ودليلا يدله على معرفتك ويحثه على طاعتك لينال الحياة الأبدية والسعادة السرمدية في جوارك . { سبحانك } تنزيها لك من العبث وخلق الباطل وهو اعتراض . { فقنا عذاب النار } للإخلال بالنظر فيه ، والقيام بما يقتضيه . وفائدة الفاء هي الدلالة على أن علمهم بما لأجله خلقت السماوات والأرض حملهم على الاستعاذة .
{ الذين } في موضع خفض صفة { لأولي الألباب } [ آل عمران : 190 ] ، وهذا وصف ظاهره استعمال التحميد والتهليل والتكبير ونحوه من ذكر الله ، وأن يحصر القلب اللسان ، وذلك من أعظم وجوه العبادات ، والأحاديث في ذلك كثيرة{[3783]} ، وابن آدم منتقل في هذه الثلاث الهيئات لا يخلو في غالب أمره منها فكأنها تحصر زمنه ، وكذلك جرت عائشة رضي الله عنها إلى حصر الزمن في قولها ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه{[3784]} ، فدخل في ذلك كونه على الخلاء وغير ذلك ، وذهبت جماعة من المفسرين إلى أن قوله : { الذين يذكرون الله } ، إنما هو عبارة عن الصلاة ، أي لا يضيعونها ففي حال العذر يصلونها قعوداً وعلى جنوبهم ، قال بعضهم وهي كقوله تعالى : { فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله }{[3785]} ، هذا تأويل من تأول هنالك< قضيتم> بمعنى أديتم ، لأن بعض الناس يقول< قضيتم> هنالك بمعنى فرغتم منها ، فإذا كانت هذه الآية في الصلاة ففقهها أن الإنسان يصلي قائماً ، فإن لم يستطع فقاعداً ، ظاهر المدونة متربعاً ، وروي عن مالك وبعض أصحابه أنه يصلي كما يجلس بين السجدتين ، فإن لم يستطع القعود صلى على جنبه أو ظهره على التخيير ، هذا مذهب المدونة ، وحكى ابن حبيب عن ابن القاسم يصلي على ظهره ، فإن لم يستطع فعلى جنبه الأيمن ، ثم على الأيسر ، وفي كتاب ابن المواز ، يصلي على جنبه الأيمن ، وإلا فعلى الأيسر ، وإلا فعلى الظهر ، وقال سحنون يصلي على الأيمن كما يجعل في لحده ، وإلا فعلى ظهره ، وإلا فعلى الأيسر ، وحسن عطف قوله { وعلى جنوبهم } ، على قوله : { قياماً وقعوداً } لأنه في معنى مضطجعين ، ثم عطف على هذه العبادة التي ذكر الله باللسان أو الصلاة فرضها ومندوبها بعبادة أخرى عظيمة ، وهي الفكرة في قدرة الله تعالى ومخلوقاته ، والعبر التي بث : [ المتقارب ]
وفي كل شيءٍ له آيةٌ . . . تَدُلُّ على أنَّهُ واحدُ{[3786]}
ومر النبي صلى الله عليه وسلم على قوم يتفكرون في الله فقال :< تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق ، فإنكم لا تقدرون قدره>{[3787]} ، وهذا هو قصد الآية : { ويتفكرون في خلق السموات والأرض } ، وقال بعض العلماء : المتفكر في ذات الله تعالى كالناظر في عين الشمس ، لأنه تعالى ليس كمثله شيء ، وإنما التفكير وانبساط الذهن في المخلوقات ، وفي مخاوف الآخرة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا عبادة كتفكر »{[3788]} ، وقال الحسن بن أبي الحسن : الفكرة مرآة المؤمن ، ينظر فيها إلى حسناته وسيئاته ، وقال ابن عباس وأبو الدرداء : فكرة ساعة خير من قيام ليلة{[3789]} ، وقال سري السقطي{[3790]} : فكرة ساعة خير من عبادة سنة{[3791]} ، ما هو إلا أن تحل أطناب خيمتك فتجعلها في الآخرة ، وأخذ أبو سليمان الداراني{[3792]} قدح الماء ليتوضأ لصلاة الليل وعنده ضيف ، فرآه لما أدخل أصبعه في أذن القدح أقام كذلك مفكراً حتى طلع الفجر ، فقال له ما هذا يا أبا سليمان ؟ فقال : إني لما طرحت أصبعي في أذن القدح تذكرت قول الله جل وتعالى :
{ إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل }{[3793]} ، ففكرت في حالي ، وكيف أتلقى الغل إن طرح في عنقي يوم القيامة ، فما زلت في ذلك حتى أصبحت .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : فهذه نهاية الخوف ، وخير الأمور أوسطها{[3794]} ، وليس علماء الأمة الذين هم الحجة على هذا المنهاج ، وقراءة علم كتاب الله ومعاني سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن يفهم ويرجى نفعه أفضل من هذا ، لكنه يحسن أن لا تخلو البلاد من مثل هذا ، وحدثني أبي رضي الله عنه عن بعض علماء المشرق قال : كنت بائتاً في مسجد الأقدام بمصر ، فصليت العشاء فرأيت رجلاً قد اضطجع في كساء له مسجى بكسائه حتى أصبح ، وصلينا نحن تلك الليلة وسهرنا ، فلما أقيمت صلاة الصبح قام ذلك الرجل فاستقبل القبلة فصلى مع الناس ، فاستعظمت جرأته في الصلاة بغير وضوء ، فلما فرغت الصلاة خرج فتبعته لأعظه فلما دونت منه سمعته ينشد : [ المنسرح ]
مُنْسَحِقُ الجسْمِ غائِبٌ حاضِرْ . . . مُنْتَبِهُ الْقَلْبِ صَامِتٌ ذَاكِرْ
مُنْقَبِضٌ في الغُيوبِ مُنْبَسِطٌ . . . كذاكَ مَنْ كَانَ عارفاً ذَاكِرا
يَبيتُ في لَيْلهِ أَخَا فِكَرٍ . . . فهوَ مَدَى اللَّيلِ نَائِمٌ سَاهِرْ
{ يذكرون الله } إمّا من الذِّكر اللساني وإمّا من الذُّكر القلبي وهو التفكّر ، وأراد بقوله : { قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم } عموم الأحوال كقولهم : ضَربه الظهرَ والبطْن ، وقولهم : اشتهر كذا عند أهل الشرق والغرب ، على أنّ هذه الأحوال هي متعارَف أحوال البشر في السلامة ، أي أحوال الشغل والراحة وقصد النوم . وقيل : أراد أحوال المصلّين : من قادر ، وعاجز ، وشديد العجز . وسياق الآية بعيد عن هذا المعنى .
وقوله : { ويتفكرون في خلق السموات والأرض } عطف مرادف إن كان المراد بالذكر فيما سبق التفكّر ، وإعادتُه لأجل اختلاف المتفكَّر فيه ، أو هو عطف مغاير إذا كان المراد من قوله : { يذكرون } ذِكر اللسان . والتفكّر عبادة عظيمة . روى ابن القاسم عن مالك رحمه الله في جامع العتبية قال : قيل لأمّ الدرداء : ما كان شأن أبي الدرداء ؟ قالت : كان أكثر شأنه التفكّر ، قيل له : أترى التفكّر عَمَلاً من الأعمال ؟ قال : نعم ، هو اليقين .
{ والخلق } بمعنى كيفية أثر الخلق ، أو المخلوقات التي في السماء والأرض ، فالإضافة إمّا على معنى اللام ، وإمّا على معنى ( في ) .