27- فقلنا له عن طريق الوحي : اصنع السفينة وعنايتنا ترعاك ، فتدفع عنك شرهم ونرشدك في عملك ، فإذا حل ميعاد عذابهم ، ورأيت التنور يفور ماء بأمرنا ، فأدخل في السفينة من كل نوع من الكائنات الحية ذكراً وأنثى ، وأدخل أهلك أيضاً إلا من تقرر تعذيبهم لعدم إيمانهم ، ولا تسألني نجاة الذين ظلموا أنفسهم وغيرهم بالكفر والطغيان ، فإني حكمت بإغراقهم لظلمهم بالإشراك والعصيان{[143]} .
يقول تعالى مخبرًا عن نوح ، عليه السلام ، أنه دعا ربه يستنصره على قومه ، كما قال تعالى مخبرا [ عنه ]{[20537]} في الآية الأخرى : { فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ } [ القمر : 10 ] ، وقال هاهنا : { [ قَالَ ]{[20538]} رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ } فعند ذلك أمره الله تعالى بصنعة السفينة وإحكامها وإتقانها ، وأن يحمل فيها من كل زوجين اثنين ، أي : ذكرًا وأنثى من كل صنف من الحيوانات والنباتات والثمار ، وغير ذلك ، وأن يحمل فيها أهله { إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ } أي : سبق فيه القول من الله بالهلاك ، وهم الذين لم يؤمنوا به من أهله ، كابنه وزوجته ، والله أعلم .
وقوله : { وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ } أي : عند معاينة إنزال المطر العظيم ، لا تأخذنك رأفة بقومك ، وشفقة عليهم ، وطَمَع في تأخيرهم لعلهم يؤمنون ، فإني قد قضيت أنهم مغرقون على ما هم عليه من الكفر والطغيان . وقد تقدمت القصة مبسوطة في سورة " هود " {[20539]} بما يغني عن إعادة ذلك هاهنا .
{ فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا } بحفظنا نحفظه أن تخطىء فيه أو يفسده عليك مفسد . { ووحينا } وأمرنا وتعليمنا كيف تصنع . { فإذا جاء أمرنا } بالركوب أو نزول العذاب . { وفار التنور } .
روي أنه قيل لنوح إذا فار الماء من التنور اركب أنت ومن معك ، فلما نبع الماء منه أخبرته امرأته فركب ومحله في مسجد الكوفة عن يمين الداخل مما يلي باب كندة . وقيل عين وردة من الشام وفيه وجوه أخر ذكرتها في " هود " { فاسلك فيها } فادخل فيها يقال سلك فيه وسلك غيره قال تعالى { ما سلككم في سقر } . { من كل زوجين اثنين } من كل أمتي الذكر والأنثى واحدين مزدوجين ، وقرأ حفص " من كل " بالتنوين أي من كل نوع زوجين واثنين تأكيد . { وأهلك } وأهل بيتك أو من آمن معك . { إلا من سبق عليه القول منهم } أي القول من الله تعالى بإهلاكه لكفره ، وإنما جيء بعلى لأن السابق ضار كما جيء باللام حيث كان نافعا في قوله تعالى : { إن الذين سبقت لهممنا الحسنى } { ولا تخاطبني في الذين ظلموا } بالدعاء لهم بالإنجاء . { إنهم مغرقون } لا محالة لظلمهم بالإشراك والمعاصي ، ومن هذا شأنه لا يشفع له ولا يشفع فيه كيف وقد أمره بالحمد على النجاة منهم بهلاكهم بقوله : { فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين } كقوله تعالى { فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين } .
جملة { أن اصنع } جملة مفسره لِجملة { أوحينا } لأن فعل { أوحينا } فيه معنى القول دون حروفه ، وتقدم نظير جملة { واصنع الفلك بأعيننا ووحينا } في سورة هود ( 37 ) .
وفرع على الأمر بصنع الفلك تفصيل ما يفعله عند الحاجة إلى استعمال الفلك فوُقِّت له استعماله بوقت الاضطرار إلى إنجاء المؤمنين والحيوان .
وتقدم الكلام على معنى { فار التنور } ومعنى { زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول } في سورة هود ( 40 ) .
والزوج : اسم لكل شيء له شيء آخر متصل به بحيث يجعله شَفعا في حالة مَّا . وتقدم في سورة هود .
وإنما عبر هنالِك بقوله : { قلنا احمل فيها } [ هود : 40 ] وهنَا بقوله : { فاسلُك فيها } لأن آية سورة هود حكت ما خاطبه الله به عند حدوث الطوفان وذلك وقت ضيق فأُمرّ بأن يحمل في السفينة من أراد الله إبقاءهم ، فأسند الحمل إلى نوح تمثيلاً للإسراع بإركاب ما عُيِّن له في السفينة حتَّى كأنّ حاله في إدخاله إيَّاهم حالُ من يحمل شيئاً ليضعه في موضع ، وآية هذه السورة حكت ما خاطبه الله به من قبل حدوث الطوفان إنباء بما يفعله عند حدوث الطوفان فأمَره بأنه حينئذ يدخل في السفينة من عَيَّن الله إدخالهم ، مع ما في ذلك من التفنن في حكاية القصة .
ومعنى { اسلك } أدخِل ، وفعل ( سلك ) يكون قاصراً بمعنى دخل ومتعدياً بمعنى أدخل ومنه قوله تعالى : { ما سَلَكَكُم في سَقَر } [ المدثر : 42 ] . وقول الأعشى :
كما سلَك السَّكِّيَّ في الباب فَيْتَقُ
وتقدم الكلام على مثل قوله : { ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون } في سورة هود ( 37 ) .
وقرأ الجمهور { من كل زوجين } بإضافة { كل } إلى { زوجين } . وقرأه حفص بالتنوين { كلَ } على أن يكون { زوجين } مفعولَ { فاسلك } ، وتنوين { كل } تنوين عوض يُشعرُ بمحذوف أضيف إليه { كل } . وتقديره : من كل ما أمرتك أن تحمله في السفينة .