قوله تعالى : { والذين إذا فعلوا فاحشة } . قال ابن مسعود : قال المؤمنون :يا رسول الله كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منا ، كان أحدهم إذا أذنب أصبح وكفارة ذنبه مكتوبة في عتبة بابه ، اجدع أنفك أو أذنك ، افعل كذا وكذا ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . وقال عطاء : نزلت في تيهان التمار ، وكنيته أبو معبد ، أتته امرأة حسناء ، تبتاع منه تمراً فقال لها ، إن هذا التمر ليس بجيد وفي البيت أجود منه ، فذهب بها إلى بيته فضمها إلى نفسه وقبلها ، فقالت له : اتق الله ، فتركها وندم على ذلك ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر ذلك له ، فنزلت هذه الآية . وقال مقاتل والكلبي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين رجلين أحدهما من الأنصار والآخر من ثقيف فخرج الثقفي في غزاة فاستخلف الأنصاري على أهله فاشترى لهم اللحم ذات يوم ، فلما أرادت المرأة أن تأخذه منه دخل على أثرها وقبل يدها ، ثم ندم وانصرف ووضع التراب على رأسه وهام على وجهه ، فلما رجع الثقفي لم يستقبله الأنصاري فسأل امرأته عن حالة ، فقالت : لا أكثر الله في الإخوان مثله ووصفت له الحال ، والأنصاري يسيح في الجبال تائباً مستغفراً ، فطلبه الثقفي حتى وجده فأتى به أبا بكر رجاء أن يجد عنده راحة وفرجاً . فقال الأنصاري : هلكت وذكر القصة ، فقال أبو بكر : ويحك ! أما علمت أن الله تعالى يغار للغازي مالا يغار للمقيم ، ثم أتيا عمر رضي الله عنه فقال مثل ذلك ، فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال له مثل مقالتهما ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ( والذين إذا فعلوا فاحشة ) . يعني قبيحة خارجة عما أذن الله تعالى فيه ، وأصل الفحش القبح والخروج عن الحد ، قال جابر : الفاحشة الزنا .
قوله تعالى : { أو ظلموا أنفسهم } . مادون الزنا من القبلة والمعانقة ، والنظر واللمس . وقال مقاتل والكلبي : الفاحشة ما دون الزنا من قبلة أو لمسة أو نظرة فيما لا يحل ( أو ظلموا أنفسهم ) بالمعصية . وقيل : فعلوا فاحشة الكبائر أو ظلموا أنفسهم بالصغائر . وقيل : فعلوا فاحشة فعلاً أو ظلموا أنفسهم قولاً .
قوله تعالى : { ذكروا الله } . أي : ذكروا وعيد الله وأن الله سائلهم ، وقال مقاتل بن حيان : ذكروا الله باللسان عند الذنوب .
قوله تعالى : { فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله } . أي وهل يغفر الذنوب إلا الله .
قوله تعالى : { ولم يصروا على ما فعلوا } . أي لم يقيموا ولم يثبتوا عليه ولكن تابوا وأنابوا واستغفروا ، وأصل الإصرار الثبات على الشيء . قال الحسن : إتيان العبد ذنباً عمداً إصرار حتى يتوب . وقال السدي : الإصرار السكوت وترك الاستغفار .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا أبو منصور السمعاني ، أخبرنا أبو جعفر الزياتي ، أخبرنا حميد بن زنجويه ، أنا يحيى بن يحيى ، أنا عبد الحميد بن عبد الرحمن ، عن عثمان بن واقد العمري ، عن أبي نصيرة قال : لقيت مولى لأبي بكر رضي الله عنه فقلت له : أسمعت من أبي بكر شيئاً ؟ قال : نعم . سمعته يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما أصر من استغفر ، وإن عاد في اليوم سبعين مرة " . قوله تعالى : { وهم يعلمون } . قال ابن عباس والحسن ومقاتل والكلبي : وهم يعلمون أنها معصية ، وقيل : وهم يعلمون أن الإصرار ضار ، وقال الضحاك : وهم يعلمون أن الله يملك مغفرة الذنوب ، وقال الحسين بن الفضل : إن له رباً يغفر الذنوب ، وقيل : وهم يعلمون أن الله لا يتعاظمه العفو عن الذنوب وإن كثرت ، وقيل : وهم يعلمون أنهم إن استغفروا غفر لهم .
وقوله تعالى : { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } أي : إذا صدر منهم ذنب أتبعوه بالتوبة والاستغفار .
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا هَمّام بن يحيى ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن عبد الرحمن بن أبي عَمْرة ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن رجلا أذنب ذَنْبًا ، فقال : رب{[5733]} إني أذنبت ذنبا فاغفره . فقال الله [ عز وجل ]{[5734]} عبدي عمل ذنبا ، فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به ، قد غفرت لعبدي ، ثم عمل ذنبا آخر فقال : رب ، إني عملت ذنبا فاغفره . فقال تبارك وتعالى : علم عبدي أن له رَبا يغفر الذنب وَيَأْخُذُ بِهِ ، قَدْ غَفَرَتْ لِعَبْدِي . ثُمَّ عَمِلَ ذَنْبًا آخَرَ فَقَالَ : رَبِّ ، إنِّي عَمِلْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْهُ لي . فَقَالَ عَزَّ وجَلَّ : عَلِمَ عَبْدَي أنَّ لَهُ رَبا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيأْخُذُ بِهِ ، قَدْ غَفَرَتُ لِعَبْدِي ثُمَّ عَمِلَ ذَنَبًا آخَرَ فَقَالَ : رَبِّ ، إنِّي عَمِلَتُ ذَنَبًا فَاغْفِرْهُ{[5735]} فَقَالَ عَزَّ وجَلَّ : عَبْدِي عَلِمَ{[5736]} أنَّ لَهُ رَبا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ ، أُشْهِدُكُمْ أنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ، فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ " .
أخرجه{[5737]} في الصحيح من حديث إسحاق{[5738]} بن أبي طلحة ، بنحوه{[5739]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر وأبو عامر قالا حدثنا زهير ، حدثنا سعد الطائي ، حدثنا أبو الْمُدِلَّة - مولى أم المؤمنين - سمع أبا هريرة ، قلنا : يا رسول الله ، إذا رأيناك رقَّت قلوبُنا ، وكنا من أهل الآخرة ، وإذا فارقناك أعجبتنا الدنيا وشَمِمْنا النساء والأولاد ، فقال{[5740]} لَوْ أَنَّكُمْ تَكُونُونَ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، عَلَى الْحَالِ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا عِنْدِي ، لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلائِكَةُ بِأَكُفِّهِمْ ، وَلَزَارَتْكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ ، وَلَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَجَاءَ اللَّهُ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ كَيْ يُغْفَرَ لَهُمْ " . قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، حَدِّثْنَا عَنْ الْجَنَّةِ مَا بِنَاؤُهَا ؟ قَالَ : " لَبِنَةُ ذَهَبٍ ، وَلَبِنَةُ فِضَّةٍ ، وَمِلاطُهَا الْمِسْكُ الأذْفَرُ ، وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ ، وَتُرَابُهَا الزَّعْفَرَانُ ، مَنْ يَدْخُلُهَا يَنْعَمُ وَلا يَبْأَسُ ، وَيَخْلُدُ وَلا يَمُوتُ ، لا تَبْلَى ثِيَابُهُ ، وَلا يَفْنَى شَبَابُهُ ، ثَلاثَةٌ لا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ : الإمَامُ الْعَادِلُ ، وَالصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ وَتُفْتَح{[5741]} لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ ، وَيَقُولُ الرَّبُّ : وَعِزَّتِي لأنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ " .
ورواه الترمذي ، وابن ماجة ، من وجه آخر من سعد ، به{[5742]} .
ويتأكد الوضوء وصلاة ركعتين عند التوبة ، لما رواه الإمام أحمد بن حنبل :
حدثنا وَكِيع ، حدثنا مِسْعَر ، وسفيان - هو الثوري - عن عثمان بن المغيرة الثقفي ، عن علي بن ربيعة ، عن أسماء بن{[5743]} الحكم الفزاري ، عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، قال : كنت إذا
سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا{[5744]} نفعني الله بما شاء منه ، وإذا حدثني عنه [ غيري استَحْلفْتُه ، فإذا حلف لي صَدقته ، وإن أبا بكر رضي الله عنه حَدثني ]{[5745]} وصدَق أبو بكر - أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مَا مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا فَيَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ - الوُضُوءَ - قال مِسْعر : فَيُصَلّي . وقال سفيان : ثم يُصلِّي ركعتين - فَيَسْتَغْفِرُ اللهَ عز وجَلَّ إلا غَفَرَ لَهُ " .
كذا{[5746]} رواه علي بن المَديني ، والحُمَيْدي وأبو بكر بن أبي شيبة ، وأهل السنن ، وابن حِبَّان في صحيحه والبزار والدارقُطْني ، من طرق ، عن عثمان بن المغيرة ، به . وقال الترمذي : هو حديث حسن{[5747]} وقد ذكرنا طُرقه والكلام عليه مستقصى في مسند أبي بكر الصديق ، [ رضي الله عنه ]{[5748]} وبالجملة فهو حديث حسن ، وهو من رواية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب [ رضي الله عنه ]{[5749]} عن خليفة النبي [ صلى الله عليه وسلم ]{[5750]} أبي بكر الصديق ، رضي الله عنهما{[5751]} ومما يشهد لصحة هذا الحديث ما رواه مسلم في صحيحه ، عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيَبْلُغَ - أو : فَيُسْبِغَ - الوُضُوءَ ، ثُمَّ يَقُولُ : أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيْكَ لَهُ ، وأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، إلا فُتِحَتْ لَهُ أبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ ، يَدْخُلُ مِنْ أيّهَا شَاءَ " {[5752]} .
وفي الصحيحين عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، أنه توضأ لهم وُضُوء النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " مَنْ تَوضَّأَ نَحْوَ وُضُوئي هَذَا ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لا يُحَدِّثُ فِيْهِمَا نَفْسَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " {[5753]} .
فقد ثبت هذا الحديث من رواية الأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين ، عن سيد الأولين والآخرين ورسول رب العالمين ، كما دل عليه الكتاب المبين من أن الاستغفار من الذنب ينفع العاصين .
وقد قال عبد الرزاق : أخبرنا جعفر بن سليمان ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك قال : بلغني أن إبليس حين نزلت : { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } الآية ، بَكَى{[5754]} .
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا مُحْرِز بن عَون ، حدثنا عثمان بن مطر ، حدثنا عبد الغفور ، عن أبي نُضَيْرة عن أبي رجاء ، عن أبي بكر ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " عَلَيْكُمْ بِلا إلَهَ إلا اللهُ والاسْتِغْفَار ، فأكْثرُوا مِنْهُمَا ، فإنَّ إبْليسَ قَالَ : أهْلَكْتُ النَّاسَ بالذُّنُوبِ ، وأهْلَكُونِي بِلا إلَهَ إلا اللهُ والاسْتِغْفَار ، فَلَمَّا رَأيْتُ ذَلِكَ أهْلَكْتُهُمْ بِالأهْوَاءِ ، فَهُمْ يَحْسَبُونَ أنَّهُم مُهْتَدُونَ " .
عثمان بن مطر وشيخه ضعيفان{[5755]} .
وروى الإمام أحمد في مسنده ، من طريق عَمْرو بن أبي عمرو وأبي الهيثم العُتْوَارِيّ ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قَالَ إبْلِيسُ : يَا رَبِّ ، وَعِزَّتكَ لا أزَالُ أغْوي [ عِبَاَدكَ ] {[5756]} ما دامت أرْوَاحُهُمْ فِي أجْسَادِهِمْ . فَقَالَ اللهُ : وَعِزَّتِي وَجَلالِي ولا أزَالُ أغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي " {[5757]} .
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن المثني ، حدثنا عُمر بن أبي خليفة ، سمعت أبا بَدْر يحدث عن ثابت ، عن أنس قال : جاء رجل فقال : يا رسول الله{[5758]} ، أَذْنَبْتُ ذَنْبًا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذَا أَذْنَبْتَ فَاسْتَغْفِرْ رَبَّكَ " . [ قال : فإني أستغفر ، ثم أعود فأُذْنِب . قال{[5759]} فَإذا{[5760]} أَذْنَبْتَ فَعُدْ فَاسْتَغْفِرْ رَبَّكَ ]{[5761]} " فقالها في الرابعة فقال : " اسْتَغْفِرْ رَبَّكَ حَتَّى يَكُونَ الشَّيْطَانُ هُوَ المحسُورُ " {[5762]} .
وهذا حديث غريب من هذا الوجه{[5763]} .
وقوله : { وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ } أي : لا يغفرها أحد سواه ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا محمد بن مُصْعَب ، حدثنا سلام بن مسكين ، والمبارك ، عن الحسن ، عن الأسود بن سَرِيع ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بأسير فقال : اللهمُ إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " عَرَفَ الْحقَّ لأهْلِهِ " {[5764]} .
وقوله : { وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أي : تابوا من ذنوبهم ، ورجعوا إلى الله عن قريب ، ولم يستمروا على المعصية ويصروا عليها غير مقْلِعِين عنها ، ولو تكرر منهم الذنب تابوا عنه ، كما قال الحافظ أبو يعلى الموصلي ، رحمه اللهُ ، في مسنده :
حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل وغيره قالوا : حدثنا أبو يحيى عبد الحميد الحِمَّانيّ ، عن عثمان بن واقد عن أبي نُصَيْرَةَ ، عن مولى لأبي بكر ، عن أبي بكر ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَا أصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وَإنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً " .
ورواه أبو داود ، والترمذي ، والْبَزَّار في مسنده ، من حديث عثمان بن واقد - وقد وثقه يحيى بن معين - به وشيخه أبو نصيرة {[5765]} الواسطي واسمه مسلم بن عبيد ، وثقه الإمام أحمد وابن حبان وقول علي بن المديني والترمذي : ليس إسناد هذا الحديث بذاك ، فالظاهر إنما [ هو ]{[5766]} لأجل جهالة مولى أبي بكر ، ولكن جهالة مثله لا تضر ؛ لأنه تابعي كبير ، ويكفيه نسبته إلى [ أبي بكر ]{[5767]} الصديق ، فهو حديث حسن{[5768]} والله أعلم .
وقوله : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } قال مجاهد وعبد الله بن عبيد بن عُمَير : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أن من تاب تاب الله عليه .
وهذا كقوله تعالى : { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } [ التوبة : 104 ] وكقوله{[5769]} { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } [ النساء : 110 ] ونظائر هذا كثيرة جدا .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد أخبرنا جرير ، حدثنا حبان - هو ابن زيد الشَّرْعَبيّ - عن عبد الله بن عَمْرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال - وهو على المنبر - : " ارْحَمُوا تُرْحَمُوا ، واغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ ، وَيْلٌ لأقْمَاعِ الْقَوْلِ ، وَيْلٌ للْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصرونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ " .
تفرد به أحمد ، رحمه الله{[5770]} .
{ والذين إذا فعلوا فاحشة } : فعلة بالغة في القبح كالزنى . { أو ظلموا أنفسهم } : بأن أذنبوا أي ذنب كان وقيل الفاحشة الكبيرة وظلم النفس الصغيرة ، ولعل الفاحشة ما يتعدى وظلم النفس ما ليس كذلك . { ذكروا الله } تذكروا وعيده أو حكمه أو حقه العظيم . { فاستغفروا لذنوبهم } : بالندم والتوبة . { ومن يغفر الذنوب إلا الله } : استفهام بمعنى النفي معترض بين المعطوفين ، والمراد به وصفه تعالى بسعة الرحمة وعموم المغفرة والحث على الاستغفار والوعد بقبول التوبة ، { ولم يصروا على ما فعلوا } : ولم يقيموا على ذنوبهم غير مستغفرين لقوله صلى الله عليه وسلم " ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة " . { وهم يعلمون } : حال من يصروا أي ولم يصروا على قبيح فعلهم عالمين به .
إن كان عطفَ فريقٍ آخر ، فهم غيرُ المتّقين الكاملين ، بل هم فريق من المتّقين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيّئاً ، وإن كان عطفَ صفات ، فهو تفضيل آخر لحال المتَّقين بأن ذُكر أوّلاً حال كمالهم ، وذكر بعده حال تداركهم نقائصهم .
والفاحشة الفَعلة المتجاوزة الحدّ في الفساد ، ولذلك جمعت في قوله تعالى : { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش } [ النجم : 32 ] واشتقاقها من فَحُش بمعنى قال قولاً ذميماً ، كما في قول عائشة : « لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحّشاً » ، أو فعلَ فعلاً ذميماً ، ومنه { قل إن الله لا يأمر بالفحشاء } [ الأعراف : 28 ] .
ولا شك أنّ التَّعريف هنا تعريف الجنس ، أي فعلوا الفواحش ، وظلمُ النفس هو الذنوب الكبائر ، وعطفها هنا على الفواحش كعطف الفواحش عليها في قوله : { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش } [ النجم : 32 ] . فقيل : الفاحشة المعصية الكبيرة ، وظلم النَّفس الكبيرة مطلقاً ، وقيل : الفاحشة هي الكبيرة المتعدية إلى الغير ، وظلم النَّفس الكبيرة القاصرة على النَّفس ، وقيل : الفاحشة الزنا ، وهذا تفسير على معنى المثال .
والذكر في قوله : { ذكروا الله } ذكر القلب وهو ذِكر ما يجب لله على عبده ، وما أوصاه به ، وهو الَّذي يتفرّع عنه طلب المغفرة ؛ وأمّا ذكر اللّسان فلا يترتّب عليه ذلك . ومعنى ذكر الله هنا ذكر أمره ونهيه ووعده ووعيده .
والاستغفار : طلب الغَفْر أي الستر للذنوب ، وهو مجاز في عدم المؤاخذة على الذنب ، ولذلك صار يعدّي إلى الذنب باللام الدالة على التَّعليل كما هنا ، وقوله تعالى : { واستغفر لذنبك } [ غافر : 55 ] . ولمَّا كان طلب الصفح عن المؤاخذة بالذنب لا يصدر إلا عن ندامة ، ونية إقلاع عن الذنب ، وعدم العودة إليه ، كان الاستغفار في لسان الشارع بمعنى التوبة ، إذ كيف يطلب العفو عن الذنب من هو مستمرّ عليه ، أو عازم على معاودته ، ولو طلب ذلك في تلك الحالة لكان أكثر إساءة من الذنب ، فلذلك عدّ الاستغفار هنا رتبة من مراتب التَّقوى . وليس الاستغفار مجرّد قول ( أستغفر الله ) باللّسان والقائلُ ملتبس بالذنوب . وعن رابعة العدوية أنَّها قالت : « استغفارنا يحتاج إلى الاستغفار » وفي كلامها مبالغة فإنّ الاستغفار بالقول مأمور به في الدّين لأنَّه وسيلة لتذكّر الذنب والحيلة للإقلاع عنه .
وجملة { ومن يغفر الذنوب إلاّ الله } معترضة بين جملة { فاستغفروا } وجملة { ولم يُصِرُّوا على ما فعلوا } .
والاستفهام مستعمل في معنى النَّفي ، بقرينة الاستثناء منه ، والمقصود تسديد مبادرتهم إلى استغفار الله عقب الذنب ، والتعريض بالمشركين الَّذين اتّخذوا أصنامهم شفعاء لهم عند الله ، وبالنَّصارى في زعمهم أنّ عيسى رفع الخطايا عن بني آدم ببلية صَلبه .
وقوله : { ولم يصروا } إتمام لركْني التَّوبة لأنّ قوله : { فاستغفروا لذنوبهم } يشير إلى الندم ، وقوله : { ولم يصروا } تصريح بنفي الإصرار ، وهذان ركنا التَّوبة .
وفي الحديث : " النَّدم توبة " ، وأما تدارك ما فرّط فيه بسبب الذنب فإنَّما يكون مع الإمكان ، وفيه تفصيل إذا تعذّر أو تعسّر ، وكيف يؤخذ بأقصى ما يمكن من التدارك .
وقوله : { ولم يصروا على ما فعلوا } حال من الضّمير المرفوع في « ذكروا » أي : ذكروا الله في حال عدم الإصرار . والإصرار : المُقام على الذنب ، ونفيُه هو معنى الإقلاع . وقوله : { وهم يعلمون } حال ثانية ، وحذف مفعول يعلمون لظهوره من المقام أي يعلمون سوء فعلهم ، وعظم غضب الربّ ، ووجوبَ التوبة إليه ، وأنَّه تفضّل بقبول التَّوبة فمحا بها الذنوب الواقعة .
وقد انتظم من قوله : { ذكروا الله فاستغفروا } وقوله : { ولم يصروا } وقوله : { وهم يعلمون } الأركان الثلاثة الَّتي ينتظم منها معنى التَّوبة في كلام أبي حامد الغزالي في كتاب التَّوبة من « إحياء علوم الدّين » إذ قال : « وهي عِلْم ، وحال ، وفعل . فالعلم هو معرفة ضرّ الذنوب ، وكونها حجاباً بين العبد وبين ربِّه ، فإذا علم ذلك بيقين ثار من هذه المعرفة تألّم للقلب بسبب فوات ما يحبّه من القرب من ربِّه ، ورضاه عنه ، وذلك الألم يسمّى ندماً ، فإذا غلب هذا الألم على القلب انبعثت منه في القلب حالة تسمّى إرادة وقصداً إلى فعل له تعلّق بالحال والماضي والمستقبل ، فتعلّقه بالحال هو ترك الذنب ( الإقلاع ) ، وتعلّقه بالمستقبل هو العزم على ترك الذنب في المستقبل ( نفي الإصرار ) ، وتعلّقه بالماضي بتلافي ما فات » .
فقوله تعالى : { ذكروا الله } إشارة إلى انفعال القلب .
وقوله : { ولم يصروا } إشارة إلى الفعل وهو الإقلاع ونفي العزم على العودة .
وقوله : { وهم يعلمون } إشارة إلى العلم المثير للانفعال النفساني . وقد رتّبت هاته الأركان في الآية بحسب شدّة تعلّقها بالمقصود : لأنّ ذكر الله يحصل بعد الذنب ، فيبعث على التَّوبة ، ولذلك رتّب الاستغفار عليه بالفاء ، وأمَّا العلم بأنَّه ذنب ، فهو حاصل من قبل حصول المعصية ، ولولا حصوله لما كانت الفعلة معصية . فلذلك جيء به بعد الذكر ونفي الإصرار ، على أنّ جملة الحال لا تدلّ على ترتيب حصول مضمونها بعد حصول مضمون ما جيء به قبلَها في الأخبار والصّفات .
ثُمّ إن كان الإصرار ، وهو الاستمرار على الذنب ، كما فُسِّر به كان نفيه بمعنى الإقلاع لأجل خَشية الله تعالى ، فلم يدلّ على أنَّه عازم على عدم العود إليه ، ولكنَّه بحسب الظاهر لا يرجع إلى ذنب ندِمَ على فعله ، وإن أريد بالإصرار اعتقاد العود إلى الذنب فنفيه هو التَّوبة الخالصة ، وهو يستلزم حصول الإقلاع معه إذ التلبّس بالذنب لا يجتمع مع العزم على عدم العود إليه ، فإنَّه متلبّس به من الآن .