قوله تعالى :{ لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج } قرأ أبو عمرو ويعقوب : لا تحل بالتاء ، وقرأ الآخرون بالياء ، من بعد : يعني من بعد هؤلاء التسع اللاتي خيرتهن فاخترنك ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خيرهن فاخترن الله ورسوله شكر الله لهن وحرم عليه النساء سواهن ونهاه عن تطليقهن وعن الاستبدال بهن ، هذا قول ابن عباس وقتادة . واختلفوا في أنه هل أبيح له النساء من بعد ؟ قالت عائشة : ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له النساء سواهن . وقال أنس : مات على التحريم . وقال عكرمة ، والضحاك : معنى الآية لا يحل لك النساء إلا اللاتي أحللنا لك وهو قوله : { إنا أحللنا لك أزواجك } الآية ، ثم قال : { لا يحل لك النساء من بعد } إلا التي أحللنا لك بالصفة التي تقدم ذكرها . وقيل لأبي بن كعب : لو مات نساء النبي صلى الله عليه وسلم أكان يحل له أن يتزوج ؟ قال : وما يمنعه من ذلك ؟ قيل : قوله عز وجل : { لا يحل لك النساء من بعد } قال : إنما أحل الله له ضرباً من النساء ، فقال : { يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك } ثم قال : { لا يحل لك النساء من بعد } . قال أبو صالح : أمر أن لا يتزوج أعرابية ولا عربية ، ويتزوج من نساء قومه من بنات العم والعمة والخالة إن شاء ثلاثمائة : وقال مجاهد : معناه لا يحل لك اليهوديات ولا النصرانيات بعد المسلمات ولا أن تبدل بهن ، يقول : ولا أن تبدل بالمسلمات غيرهن من اليهود والنصارى ، يقول لا تكون أم المؤمنين يهودية ولا نصرانية ، إلا ما ملكت يمينك ، أحل له ما ملكت يمينه من الكتابيات أن يتسرى بهن . وروي عن الضحاك : يعني ولا أن تبدل بهن ولا أن تبدل بأزواجك اللاتي هن في حبالك أزواجاً غيرهن بأن تطلقهن فتنكح غيرهن ، فحرم عليه طلاق النساء اللواتي كن عنده إذ جعلهن أمهات المؤمنين ، وحرمهن على غيره حين اخترنه ، فأما نكاح غيرهن فلم يمنع عنه . وقال ابن زيد في قوله : { ولا أن تبدل بهن من أزواج } كانت العرب في الجاهلية يتبادلون بأزواجهم ، يقول الرجل للرجل : بادلني بامرأتك ، وأبادلك بامرأتي ، تنزل لي عن امرأتك ، وأنزل لك عن امرأتي ، فأنزل الله : { ولا أن تبدل بهن من أزواج } يعني لا تبادل بأزواجك غيرك بأن تعطيه زوجك وتأخذ زوجته ، إلا ما ملكت يمينك لا بأس أن تبدل بجاريتك ما شئت ، فأما الحرائر فلا . وروي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال : " دخل عيينة بن حصن على النبي صلى الله عليه وسلم بغير إذن ، وعنده عائشة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " يا عيينة فأين الاستئذان ؟ قال : يا رسول الله ما استأذنت على رجل من مضر منذ أدركت ، ثم قال : من هذه الحميراء إلى جنبك ؟ فقال : هذه عائشة أم المؤمنين ، فقال عيينة : أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق وتنزل لي عن هذه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله قد حرم ذلك ، فلما خرج قالت عائشة : من هذا يا رسول الله ؟ فقال : هذا أحمق مطاع وإنه على ما ترين لسيد قومه " . قوله تعالى : { ولو أعجبك حسنهن } يعني : ليس لك أن تطلق أحداً من نسائك وتنكح بدلها أخرى ولو أعجبك جمالها . قال ابن عباس : يعني أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبي طالب ، فلما استشهد جعفر أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخطبها فنهى عن ذلك { إلا ما ملكت يمينك } قال ابن عباس رضي الله عنهما : ملك بعد هؤلاء مارية { وكان الله على كل شيء رقيباً } حافظاً . وفي الآية دليل على جواز النظر إلى من يريد نكاحها من النساء . روي عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل "
أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني ، أنبأنا أبو محمد بن محمد بن علي بن شريك الشافعي ، أنبأنا عبد الله بن محمد بن مسلم الجوربذي ، قال : أنبأنا أحمد بن حرب ، أنبأنا أبو معاوية ، عن عاصم هو ابن سليمان ، عن بكر بن عبد الله ، عن المغيرة بن شعبة قال : " خطبت امرأةً فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم : هل نظرت إليها ؟ قلت : لا ، قال : فانظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما " .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنبأنا عبد الله بن حامد ، أنبأنا حامد بن محمد ، أنبأنا بشر بن موسى ، أنبأنا الحميدي ، أنبأنا سعيد ، أنبأنا يزيد بن كيسان ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة : " أن رجلاً أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : انظر إليها فإن في أعين نساء الأنصار شيئاً " قال الحميدي : يعني الصغر .
ذكر غير واحد من العلماء - كابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، وابن زيد ، وابن جرير ، وغيرهم - أن هذه الآية نزلت مجازاة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ورضًا عنهن ، على حسن صنيعهن في اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة ، لما خيرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما تقدم في الآية . فلما اخترن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان جزاؤهن أن [ الله ]{[23694]} قَصَره عليهن ، وحرم عليه أن يتزوج بغيرهن ، أو يستبدل بهن أزواجا غيرهن ، ولو أعجبه حسنهن إلا الإماء والسراري فلا حجر عليه فيهن . ثم إنه تعالى رفع عنه الحجر{[23695]} في ذلك ونسخ حكم هذه الآية ، وأباح له التزوج{[23696]} ، ولكن لم يقع منه بعد ذلك تَزَوّج لتكون المنة للرسول{[23697]} صلى الله عليه وسلم عليهن .
قال{[23698]} الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له النساء{[23699]} .
ورواه أيضا من حديث ابن جُرَيْج ، عن عَطاء ، عن عبيد بن عمير{[23700]} ، عن عائشة . ورواه الترمذي والنسائي في سننيهما{[23701]} .
وقال{[23702]} ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الملك بن شيبة ، حدثني عمر بن أبي بكر ، حدثني المغيرة بن عبد الرحمن الحزامي{[23703]} ، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله{[23704]} ، عن عبد الله بن وهب بن زَمْعَة ، عن أم سلمة أنها قالت : لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحلَّ الله له أن يتزوج من النساء ما شاء ، إلا ذات محرم ، وذلك قول الله ، عز وجل : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ } .
فجعلت هذه ناسخة للتي بعدها في التلاوة ، كآيتي عدة الوفاة في البقرة ، الأولى ناسخة للتي بعدها ، والله{[23705]} أعلم .
وقال آخرون : بل معنى الآية : { لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ } أي : من بعد ما ذكرنا لك من صفة النساء اللاتي أحللنا لك من نسائك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك ، وبنات العم والعمات{[23706]} والخال والخالات{[23707]} والواهبة وما سوى ذلك من أصناف النساء فلا يحل لك . هذا مرويّ عن أبي بن كعب ، ومجاهد ، وعِكْرِمة ، والضحاك - في رواية - وأبي رَزِين - في رواية عنه - وأبي صالح ، والحسن ، وقتادة - في رواية - والسدي ، وغيرهم .
قال ابن جرير : حدثنا يعقوب ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، عن داود بن أبي هند ، حدثني محمد بن أبي موسى ، عن زياد - رجل من الأنصار{[23708]} - قال : قلت لأبي بن كعب : أرأيت لو أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تُوُفين ، أما كان له أن يتزوج ؟ فقال : وما يمنعه من ذلك ؟ قال : قلت : قوله : { لا يَحِلُّ {[23709]} لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ } . فقال : إنما أحل الله له ضربا من النساء ، فقال : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ } إلى قوله : { إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } ثم قيل له : { لا يَحِلُّ{[23710]} لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ } .
ورواه عبد الله بن أحمد من طرق ، عن داود ، به{[23711]} . وروى الترمذي ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصناف النساء ، إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات بقوله : { لا يَحِلُّ {[23712]} لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } ، فأحل الله فتياتكم المؤمنات { وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } ، وحرم كل ذات دين غير الإسلام ، ثم قال : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } و قال { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ }{[23713]} إلى قوله : { خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } ، وحرم ما سوى ذلك من أصناف النساء{[23714]} .
وقال مجاهد : { لا يَحِلُّ {[23715]} لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ } أي : من بعد ما سمى لك ، لا{[23716]} مسلمة ولا يهودية ولا نصرانية ولا كافرة .
وقال أبو صالح : { لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ }{[23717]} : أمر ألا يتزوج أعرابية ولا غربية{[23718]} ، ويتزوج بعد من نساء تهامة ، وما شاء من بنات العم والعمة ، والخال والخالة ، إن شاء ثلاثمائة .
وقال عكرمة : { لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ }{[23719]} أي : التي سمى الله .
واختار ابن جرير ، رحمه الله ، أن الآية عامة فيمن ذكر من أصناف النساء ، وفي النساء اللواتي في عصمته وكن تسعا . وهذا الذي قاله جيد ، ولعله مراد كثير ممن حكينا عنه من السلف ؛ فإن كثيرا منهم روي عنه هذا وهذا ، ولا منافاة ، والله أعلم .
ثم أورد ابن جرير على نفسه ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها ، وعزم على فراق سودة حتى وهبته يومها لعائشة ، ثم أجاب بأن هذا كان قبل نزول قوله : { لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ } ، وهذا الذي قاله من أن هذا كان قبل نزول الآية صحيح ، ولكن لا يحتاج إلى ذلك ؛ فإن الآية إنما دلت على أنه لا يتزوج بمن عدا اللواتي في عصمته ، وأنه لا يستبدل بهن غيرهن ، ولا يدل ذلك على أنه لا يطلق واحدة منهن من غير استبدال ، والله أعلم .
فأما قَضية سَوْدَة ففي الصحيح عن عائشة ، رضي الله عنها ، وهي سبب نزول قوله تعالى : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا [ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ {[23720]} ] } الآية [ النساء : 128 ] {[23721]} .
وأما قضية{[23722]} حفصة فروى أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه ، من طرق عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، عن صالح بن صالح بن حي{[23723]} عن سلمة أن بن كُهَيْل ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن عمر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها . وهذا إسناد{[23724]} قوي{[23725]} .
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا يونس بن بُكَيْر ، عن الأعمش ، عن أبي صالح {[23726]} ، عن ابن عمر قال : دخل عمر على حفصة وهي تبكي ، فقال : ما يبكيك ؟ لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم طلقك ؟ إنه قد كان طلقك مرة ثم راجعك من أجلي ؛ والله لئن كان طلقك مرة أخرى لا أكلمك أبدا . ورجاله على شرط الصحيحين{[23727]} .
وقوله : { وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ } ، فنهاه عن الزيادة عليهن ، أو طلاق واحدة منهن واستبدال غيرها بها إلا ما ملكت يمينه{[23728]} .
وقد روى الحافظ أبو بكر البزار حديثا مناسبا ذكَرُه هاهنا ، فقال :
حدثنا إبراهيم بن نصر ، حدثنا مالك بن إسماعيل ، حدثنا عبد السلام بن حرب ، عن إسحاق بن عبد الله{[23729]} القرَشي ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يَسَار{[23730]} عن أبي هُرَيرة ، رضي الله عنه ، قال : كان البَدلُ في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل : بادلني امرأتك وأبادلُك بامرأتي : أي : تنزل لي عن امرأتك ، وأنزل لك عن امرأتي . فأنزل الله : { وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ } قال : فدخل عيينة بن حصن{[23731]} على النبي صلى الله عليه وسلم ، وعنده عائشة ، فدخل بغير إذن ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فأين الاستئذان ؟ " فقال يا رسول الله ، ما استأذنت على رجل من مُضَر منذ أدركت . ثم قال : من هذه الحُمَيْراء إلى جنبك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذه عائشة أم المؤمنين " . قال : أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق{[23732]} ؟ قال : " يا عيينة إن الله قد حرم ذلك " . فلما أن خرج قالت عائشة : مَنْ هذا ؟ قال : هذا أحمق مطاع ، وإنه على ما ترين لسيد قومه " .
ثم قال البزار إسحاق{[23733]} بن عبد الله : لين الحديث جدا ، وإنما ذكرناه لأنا لم نحفظه إلا من هذا الوجه ، وبينا العلة فيه{[23734]} .
هذه آية الحجاب ، وفيها أحكام وآداب شرعية ، وهي مما وافق تنزيلها قول{[23735]} عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، كما ثبت ذلك في الصحيحين عنه أنه قال : وافقت ربي في ثلاث ، فقلت : يا رسول الله ، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ؟ فأنزل الله : { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } [ البقرة : 125 ] . وقلت : يا رسول الله ، إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر ، فلو حجبتهن ؟ فأنزل الله آية الحجاب . وقلت لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم لما تمالأن عليه في الغيرة : { عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ } [ التحريم : 5 ] ، فنزلت كذلك{[23736]} .
وفي رواية لمسلم ذكر أسارى بدر ، وهي قضية رابعة .
وقد قال{[23737]} البخاري : حدثنا مُسَدَّد ، عن يحيى ، عن حُمَيْد ، أن أنس بن مالك قال : قال عمر بن الخطاب : يا رسول الله ، يدخل عليك البر والفاجر ، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب ؟ فأنزل الله آية الحجاب{[23738]} .
وكان وقت نزولها في صبيحة عرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش ، التي تولى الله تعالى تزويجها بنفسه ، وكان ذلك في ذي القعدة من السنة الخامسة ، في قول قتادة والواقدي وغيرهما .
وزعم أبو عُبَيدة معمر بن المثنى ، وخليفة بن خياط : أن ذلك كان في سنة ثلاث ، فالله أعلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { لاّ يَحِلّ لَكَ النّسَآءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدّلَ بِهِنّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنّ إِلاّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ رّقِيباً } .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله تعالى : لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ مِنْ بَعْدُ فقال بعضهم : معنى ذلك : لا يحلّ لك النساء من بعد نسائك اللاتي خيرتهنّ ، فاخترن الله ورسوله والدار الاَخرة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ مِنْ بَعْدُ . . . الاَية إلى رَقيبا قال : نُهيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوّج بعد نسائه الأُوَل شيئا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ مِنْ بَعْدُ . . . إلى قوله : إلاّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ قال : لما خيرهنّ ، فاخترن الله ورسوله والدار الاَخرة قصره عليهنّ ، فقال : لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلاَ أنْ تَبَدّلَ بِهِنّ مِنْ أزْوَاجٍ وهنّ التسع التي اخترن الله ورسوله .
وقال آخرون : إنما معنى ذلك : لا يحلّ لك النساء بعد التي أحللنا لك بقولنا يا أيهَا النبّيّ إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْوَاجَكَ . . . إلى قوله اللاّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرأةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَها للنّبِيّ . وكأنّ قائلي هذه المقالة وجهوا الكلام إلى أن معناه : لا يحلّ لك من النساء إلا التي أحللناها لك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن محمد بن أبي موسى ، عن زياد ، قالا لأبيّ بن كعب : هل كان للنبيّ صلى الله عليه وسلم لو مات أزواجه أن يتزوّج ؟ قال : ما كان يحرم عليه ذلك فقرأت عليه هذه الاَية : يا أيّها النّبِيّ إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْوَاجَكَ قال : فقال : أحلّ له ضربا من النساء ، وحرّم عليه ما سواهنّ أحلّ له كل امرأة آتى أجرها ، وما ملكت يمينه مما أفاء الله عليه ، وبنات عمه وبنات عماته ، وبنات خاله وبنات خالاته ، وكل امرأة وهبت نفسها له إن أراد أن يستنكحها خالصة له من دون المؤمنين .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن محمد بن أبي موسى ، عن زياد الأنصاريّ قال : قلت لأُبيّ بن كعب : أرأيت لو مات نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم ، أكان يحلّ له أن يتزوّج ؟ قال : وما يحرّم ذلك عليه ، قال : قلت قوله : لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ مِنْ بَعْدُ قال : إنما أحلّ الله له ضربا من النساء .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن داود بن أبي هند ، قال : ثني محمد بن أبي موسى ، عن زياد ، رجل من الأنصار ، قال : قلت لأبيّ بن كعب : أرأيت لو أن أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم توفّينَ ، أما كان له أن يتزوّج ؟ فقال : وما يمنعه من ذلك ؟ وربما قال داود : وما يحرّم عليه ذلك ؟ قلت : قوله : لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ مِنْ بَعْدُ فقال : إنما أحلّ الله له ضربا من النساء ، فقال : يا أيها النّبي إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْوَاجَكَ . . . إلى قوله : إنْ وَهَبَتْ نَفْسَها للنّبيّ ثم قيل له : لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ مِنْ بَعْدُ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام بن سلم ، عن عنبسة ، عمن ذكره ، عن أبي صالح لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ مِنْ بَعْدُ قال : أمر أن لا يتزوّج أعرابية ولا غريبة ، ويتزوّج بعد من نساء تهامة ، ومن شاء من بنات العمّ والعمة ، والخال والخالة إن شاء ثلاث مئة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن عكرمة لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ مِنْ بَعْدُ هؤلاء التي سمى الله إلا بَنات عَمّكَ . . . الاَية .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ مِنْ بَعْدُ يعني : من بعد التسمية ، يقول : لا يحلّ لك امرأة إلا ابنة عمّ أو ابنة عمة ، أو ابنة خال أو ابنة خالة ، أو امرأة وهبت نفسها لك ، من كان منهنّ هاجر مع نبيّ الله صلى الله عليه وسلم . وفي حرف ابن مسعود : «وَاللاّتي هاجَرْنَ مَعَكَ » يعني بذلك : كل شيء هاجر معه ليس من بنات العم والعمة ، ولا من بنات الخال والخالة .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : لا يحلّ لك النساء من غير المسلمات فأما اليهوديات والنصرانيات والمشركات فحرام عليك . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ مِنْ بَعْدُ لا يهودية ، ولا نصرانية ، ولا كافرة .
وأولى الأقوال عندي بالصحة قول من قال : معنى ذلك : لا يحلّ لك النساء من بعد بعد اللواتي أحللتهن لك بقولي : إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْوَاجَكَ اللاّتي آتَيْتَ أُجُورَهُنّ . . . . إلى قوله : وَامْرأةً مُؤْمنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَها للنّبيّ .
وإنما قلت ذلك أولى بتأويل الاَية ، لأن قوله : لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ عَقيب قوله : إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْوَاجَكَ وغير جائز أن يقول : قد أحللت لك هؤلاء ، ولا يحللن لك إلا بنسخ أحدهما صاحبه ، وعلى أن يكون وقت فرض إحدى الاَيتين ، فَعَلَ الأخرى منهما . فإذ كان ذلك كذلك ولا برهان ولا دلالة على نسخ حكم إحدى الاَيتين حكم الأخرى ، ولا تقدّم تنزيل إحداهما قبل صاحبتها ، وكان غير مستحيل مخرجهما على الصحة ، لم يجز أن يقال : إحداهما ناسخة الأخرى . وإذا كان ذلك كذلك ، ولم يكن لقول من قال : معنى ذلك : لا يحلّ من بعد المسلمات يهودية ولا نصرانية ولا كافرة ، معنى مفهوم ، إذ كان قوله مِنْ بَعْدُ إنما معناه : من بعد المسميات المتقدم ذكرهنّ في الاَية قبل هذه الاَية ، ولم يكن في الاَية المتقدم فيها ذكر المسميات بالتحليل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر إباحة المسلمات كلهنّ ، بل كان فيها ذكر أزواجه وملك يمينه الذي يفيء الله عليه ، وبنات عمه وبنات عماته ، وبنات خاله وبنات خالاته ، اللاتي هاجرن معه ، وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبيّ ، فتكون الكوافر مخصوصات بالتحريم ، صحّ ما قلنا في ذلك ، دون قول من خالف قولنا فيه .
واختلفت القراء في قراءة قوله لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والكوفة يحِلّ بالياء ، بمعنى : لا يحلّ لك شيء من النساء بعد . وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل البصرة : «لا تَحِلّ لَكَ النّساءُ » بالتاء ، توجيها منه إلى أنه فعل للنساء ، والنساء جمع للكثير منهن .
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأه بالياء للعلة التي ذكرت لهم ، ولإجماع الحجة من القرّاء على القراءة بها ، وشذوذ من خالفهم في ذلك .
وقوله : وَلا أنْ تَبَدّلَ بِهِنّ مِنْ أزْوَاجٍ وَلَوْ أعْجَبَكَ حُسْنُهُنّ اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : لا يحلّ لك النساء من بعد المسلمات ، لا يهودية ولا نصرانية ولا كافرة ، ولا أن تبدّل بالمسلمات غيرهنّ من الكوافر . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَلا أنْ تَبَدّلَ بِهِنّ مِنْ أزْوَاجٍ ولا أن تبدّل بالمسلمات غيرهنّ من النصارى واليهود والمشركين وَلَوْ أعْجَبَكَ حُسْنُهُنّ إلاّ ما مَلَكَتْ يَمينُكَ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن أبي رزين ، في قوله : لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أنْ تَبَدّلَ بِهِنّ مِنْ أزْوَاجٍ وَلَوْ أعْجَبَكَ حُسْنُهُنّ إلاّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ قال : لا يحلّ لك أن تتزوّج من المشركات إلا من سبيت فملكته يمينك منهنّ .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ولا أن تبدّل بأزواجك اللواتي هنّ في حبالك أزواجا غيرهنّ ، بأن تطلقهنّ ، وتنكح غيرهنّ . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَلا أنْ تَبَدّلَ بِهِنّ مِنْ أزْوَاجٍ وَلَوْ أعْجَبَكَ حُسْنُهُنّ يقول : لا يصلح لك أن تطلق شيئا من أزواجك ليس يعجبك ، فلم يكن يصلح ذلك له .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ولا أن تبادل من أزواجك غيرك ، بأن تعطيه زوجتك وتأخذ زوجته . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلا أنْ تَبَدّلَ بِهِنّ مِنْ أزْوَاجٍ وَلَوْ أعْجَبَكَ حُسْنُهُنّ قال : كانت العرب في الجاهلية يتبادلون بأزواجهم . يعطي هذا امرأته هذا ويأخذ امرأته ، فقال : لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أنْ تَبَدّلَ بِهِنّ مِنْ أزْوَاجٍ وَلَوْ أعْجَبَكَ حُسْنُهُنّ إلاّ ما مَلَكَتْ يَمِينكَ لا بأس أن تبادل بجاريتك ما شئت أن تبادل ، فأما الحرائر فلا قال : وكان ذلك من أعمالهم في الجاهلية .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : معنى ذلك : ولا أن تطلق أزواجك فتستبدل بهنّ غيرهنّ أزواجا .
وأنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لما قد بيننا قبل من أن قول الذي قال معنى قوله : لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ مِنْ بَعْدُ لا يحلّ لك اليهودية أو النصرانية والكافرة ، قول لا وجه له .
فإذ كان ذلك كذلك فكذلك قوله : وَلا أنْ تَبَدّلَ بِهِنّ كافرة لا معنى له ، إذ كان من المسلمات من قد حرم عليه بقوله لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ مِنْ بَعْدُ الذي دللنا عليه قبل . وأما الذي قاله ابن زيد في ذلك أيضا ، فقول لا معنى له ، لأنه لو كان بمعنى المبادلة ، لكانت القراءة والتنزيل : ولا أن تبادل بهنّ من أزواج ، أو : ولا أن تُبدّل بهنّ بضمّ التاء ولكن القراءة المجمع عليها . ولا أن تبدّل بهنّ ، بفتح التاء ، بمعنى : ولا أن تستبدل بهنّ ، مع أنّ الذي ذكر ابن زيد من فعل الجاهلية غير معروف في أمة نعلمه من الأمم : أن يُبادل الرجل آخر بامرأته الحرّة ، فيقال : كان ذلك من فعلهم ، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فعل مثله .
فإن قال قائل : أفلم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوّج امرأة على نسائه اللواتي كنّ عنده ، فيكون موجها تأويل قوله : وَلا أنْ تَبَدّلَ بِهِنّ مِنْ أزْوَاجٍ إلى ما تأوّلت ، أو قال : وأين ذكر أزواجه اللواتي كنّ عنده في هذا الموضع ، فتكون الهاء من قوله : وَلا أنْ تَبَدّلَ بِهِنّ من ذكرهن وتوهم أن الهاء في ذلك عائدة على النساء ، في قوله : لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ مِنْ بَعْدُ ؟ قيل : قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوّج من شاء من النساء اللواتي كان الله أحلهنّ له على نسائه اللاتي كن عنده يوم نزلت هذه الاَية ، وإنما نُهي صلى الله عليه وسلم بهذه الاَية أن يفارق من كان عنده بطلاق أراد به استبدال غيرها بها ، لإعجاب حسن المستبدلة له بها إياه إذ كان الله قد جعلهنّ أمّهات المؤمنين وخيرهن بين الحياة الدنيا والدار الاَخرة ، والرضا بالله ورسوله ، فاخترن الله ورسوله والدار الاَخرة ، فحرمن على غيره بذلك ، ومنع من فراقهنّ بطلاق فأما نكاح غيرهنّ فلم يمنع منه ، بل أحلّ الله له ذلك على ما بين في كتابه . وقد رُوي عن عائشة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقبض حتى أحلّ الله له نساء أهل الأرض .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء ، عن عائشة قالت : ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحلّ له النساء تعني أهل الأرض .
حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري ، قال : حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن عائشة ، قالت : ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحلّ له النساء .
حدثنا العباس بن أبي طالب ، قال : حدثنا معلى ، قال : حدثنا وهيب ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن عبيد بن عمير الليثي ، عن عائشة قالت : ما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحلّ له أن يتزوّج من النساء ما شاء .
حدثني أبو زيد عمر بن شبة ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء ، قال : أحسب عبيد بن عمير ، حدثني ، قال أبو زيد ، وقال أبو عاصم مرّة ، عن عائشة ، قالت : ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحلّ الله له النساء . قال : وقال أبو الزبير : شهدت رجلاً يحدّثه عطاء .
حدثنا أحمد بن منصور ، قال : حدثنا موسى بن إسماعيل قال : حدثنا همام ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء عن عبيد بن عمير ، عن عائشة ، قالت : ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحلّ له النساء .
فإن قال قائل : فإن كان الأمر على ما وصفت من أن الله حرّم على نبيه بهذه الاَية طلاق نسائه اللواتي خيرهنّ فاخترنه ، فما وجه الخبر الذي رُوي عنه أنه طلق حفصة ثم راجعها ، وأنه أراد طلاق سودة حتى صالحته على ترك طلاقه إياها ، ووهبت يومها لعائشة ؟ قيل : كان ذلك قبل نزول هذه الاَية .
والدليل على صحة ما قلنا ، من أن ذلك كان قبل تحريم الله على نبيه طلاقهن ، الرواية الواردة أن عمر دخل على حفصة معاقبَها حين اعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، كان من قيله لها : قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم طلقك ، فكلمته فراجعك ، فوالله لئن طلّقك ، أو لو كان طلّقك لا كلّمته فيك وذلك لا شك قبل نزول آية التخيير ، لأن آية التخيير إنما نزلت حين انقضى وقت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم على اعتزالهنّ .
وأما أمر الدلالة على أن أمر سَوْدة كان قبل نزول هذه الاَية ، أن الله إنما أمر نبيه بتخيير نسائه بين فراقه والمُقام معه على الرضا بأن لا قَسْم لهن ، وأنه يُرْجِي من يشاء منهنّ ، ويُؤْوي منهنّ من يشاء ، ويُؤْثر من شاء منهنّ على من شاء ، ولذلك قال له تعالى ذكره : وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلكَ أدْنَى أنْ تَقَرّ أعْيُنُهُنّ وَلا يَحْزَنّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنّ كُلّهُنّ ، ومن المحال أن يكون الصلح بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم جرى على تركها يومها لعائشة في حالِ لا يومَ لها منه .
وغير جائز أن يكون كان ذلك منها إلا في حالِ كان لها منه يومٌ هوَ لها حقّ كان واجبا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أداؤه إليها ، ولم يكن ذلك لهنّ بعد التخيير لما قد وصفت قبل فيما مضى من كتابنا هذا .
فتأويل الكلام : لا يحلّ لك يا محمد النساء من بعد اللواتي أحللتهنّ لك في الاَية قبلُ ، ولا أن تُطَلق نساءك اللواتي اخترن الله ورسوله والدار الاَخرة ، فتبدّل بهنّ من أزواج ولو أعجبك حسن من أردت أن تبدّل به منهنّ ، إلا ما ملكت يمينك . وأن في قوله أنْ تَبَدّلَ بِهِنّ رفع ، لأن معناها : لا يحلّ لك النساء من بعد ، ولا الاستبدال بأزواجك ، وإلا في قوله : إلاّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ استثناء من النساء . ومعنى ذلك : لا يحلّ لك النساء من بعد اللواتي أحللتهنّ لك ، إلا ما ملكت يمينك من الإماء ، فإن لك أن تَمْلك من أيّ أجناس الناس شئت من الإماء .
وقوله : وكان اللّهُ على كُلّ شَيْءٍ رَقِيبا يقول : وكان الله على كل شيء ما أحلّ لك ، وحرّم عليك ، وغير ذلك من الأشياء كلها ، حفيظا لا يعزُب عنه علم شيء من ذلك ، ولا يؤوده حفظ ذلك كله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وكانَ اللّهُ على كُلّ شَيْءٍ رَقِيبا : أي حفيظا ، في قول الحسن وقَتادة .
وقوله تعالى : { لا يحل لك النساء من بعد } قيل كما قدمنا إنها خطرت عليه النساء إلا التسع اللواتي كنَّ عنده ، فكأن الآية ليست متصلة بما قبلها ، قال ابن عباس وقتادة لما هجرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً ، وآلى منهن ثم خرج وخيرهن فاخترن الله ورسوله ، جازاهن الله بأن حظر عليه النساء غيرهن وقنعه بهن وحظر عليه تبديلهن ، ونسخ بذلك ما أباحه له قبل من التوسعة في جميع النساء ، وقال أبيّ بن كعب وعكرمة قوله { لا يحل لك النساء من بعد } أي من بعد الأصناف التي سميت ، ومن قال إن الإباحة كانت له مطلقة قال هنا { لا يحل لك النساء } معناه لا يحل لك اليهوديات ولا النصرانيات .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا تأويل فيه بعد ، وإن كان روي عن مجاهد ، وكذلك روي أن تبدل اليهوديات والنصرانيات بالمسلمات ، وهذا قول أبي رزين وسعيد بن جبير ، وقال أبيّ بن كعب { من بعد } يعني لا يحل لك العمات والخالات ونحو ذلك ، وأمر مع ذلك بأن لا يتبدل بأزواجه التسع منه من أن يطلق منهن ويتزوج غيرهن قاله الضحاك ، وقيل بمن تزوج وحصل في عصمته أي لا يبدلها بأن يأخذ زوجة إنسان ويعطيه هو زوجته قال ابن زيد وهذا شيء كانت العرب تفعله .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا قول ضعيف أنكره الطبري وغيره في معنى الآية ، وما فعلت العرب قط هذا ، وما روي من حديث عيينة بن حصن أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة فقال من هذه الحميراء ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذه عائشة ، فقال عيينة : يا رسول الله إن شئت نزلت لك عن سيدة العرب جمالاً ونسباً فليس بتبديل ولا أراد ذلك وإنما احتقر عائشة لأنها كانت صبية فقال هذا القول{[9551]} ، وقرأ أبو عمرو بخلاف «لا تحل » بالتاء على معنى جماعة النساء ، وقرأ الباقون «لا يحل » بالياء من تحت على معنى جميع النساء وهما حسنان لأن تأنيث لفظ النساء ليس بحقيقي ، وقوله تعالى : { ولو أعجبك حسنهن } ، قال ابن عباس نزل ذلك بسبب أسماء بنت عميس أعجبت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات عنها جعفر بن أبي طالب وفي هذه اللفظة { أعجبك حسنهن } دليل على جواز أن ينظر الرجل إلى من يريد زواجها ، وقد أراد المغيرة بن شعبة زواج امرأة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «انظر إليها فإنه أجدر أن يؤدم بينكما »{[9552]} وقال عليه السلام لآخر : «انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً »{[9553]} ، قال الحميدي يعني «صغراً » ، وقال سهل بن أبي حثمة رأيت محمد بن مسلمة يطارد بثينة بنت الضحاك على أجار من أجاجير{[9554]} المدينة فقلت له أتفعل هذا ؟ فقال نعم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا ألقى الله في قلب أحدكم خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها »{[9555]} ، وقوله تعالى : { إلا ما ملكت يمينك } { ما } في موضع رفع بدل من { النساء } ، ويجوز أن تكون في موضع نصب على الاستثناء ، وفي النصب ضعف ، ويجوز أن تكون { ما } مصدرية والتقدير إلا ملك يمينك وملك بمعنى مملوك ، وهو في موضع نصب لأنه استثناء من غير الجنس الأول{[9556]} ، و «الرقيب » فعيل بمعنى فاعل أي راقب{[9557]} .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لا يحل لك النساء من بعد} أزواجك التسع اللاتي عندك لا يحل لك أن تزداد عليهن.
{ولا أن تبدل بهن} يعني نساءه التسع {من أزواج ولو أعجبك حسنهن}..
{إلا ما ملكت يمينك} الولاية...
{وكان الله على كل شيء} من العمل {رقيبا}: حفيظا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله تعالى:"لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ مِنْ بَعْدُ"؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: لا يحلّ لك النساء من بعد نسائك اللاتي خيرتهنّ، فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة... عن ابن عباس، قوله: "لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ مِنْ بَعْدُ "إلى "رَقيبا" قال: نُهيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوّج بعد نسائه الأُوَل شيئا...
وقال آخرون: إنما معنى ذلك: لا يحلّ لك النساء بعد التي أحللنا لك بقولنا "يا أيهَا النبّيّ إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْوَاجَكَ" إلى قوله "اللاّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرأةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَها للنّبِيّ". وكأنّ قائلي هذه المقالة وجهوا الكلام إلى أن معناه: لا يحلّ لك من النساء إلا التي أحللناها لك...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا يحلّ لك النساء من غير المسلمات فأما اليهوديات والنصرانيات والمشركات فحرام عليك...
وأولى الأقوال عندي بالصحة قول من قال: معنى ذلك: لا يحلّ لك النساء من بعد بعد اللواتي أحللتهن لك بقولي: "إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْوَاجَكَ اللاّتي آتَيْتَ أُجُورَهُنّ" إلى قوله: "وَامْرأةً مُؤْمنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَها للنّبيّ".
وإنما قلت ذلك أولى بتأويل الآية، لأن قوله: "لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ" عَقيب قوله: "إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْوَاجَكَ" وغير جائز أن يقول: قد أحللت لك هؤلاء، ولا يحللن لك إلا بنسخ أحدهما صاحبه، وعلى أن يكون وقت فرض إحدى الآيتين، فَعَلَ الأخرى منهما. فإذ كان ذلك كذلك ولا برهان ولا دلالة على نسخ حكم إحدى الآيتين حكم الأخرى، ولا تقدّم تنزيل إحداهما قبل صاحبتها، وكان غير مستحيل مخرجهما على الصحة، لم يجز أن يقال: إحداهما ناسخة الأخرى. وإذا كان ذلك كذلك، ولم يكن لقول من قال: معنى ذلك: لا يحلّ من بعد المسلمات يهودية ولا نصرانية ولا كافرة، معنى مفهوم، إذ كان قوله "مِنْ بَعْدُ" إنما معناه: من بعد المسميات المتقدم ذكرهنّ في الآية قبل هذه الآية، ولم يكن في الآية المتقدم فيها ذكر المسميات بالتحليل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر إباحة المسلمات كلهنّ، بل كان فيها ذكر أزواجه وملك يمينه الذي يفيء الله عليه، وبنات عمه وبنات عماته، وبنات خاله وبنات خالاته، اللاتي هاجرن معه، وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبيّ، فتكون الكوافر مخصوصات بالتحريم، صحّ ما قلنا في ذلك، دون قول من خالف قولنا فيه...
وقوله: "وَلا أنْ تَبَدّلَ بِهِنّ مِنْ أزْوَاجٍ وَلَوْ أعْجَبَكَ حُسْنُهُنّ"، اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: لا يحلّ لك النساء من بعد المسلمات، لا يهودية ولا نصرانية ولا كافرة، ولا أن تبدّل بالمسلمات غيرهنّ من الكوافر... وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا أن تبدّل بأزواجك اللواتي هنّ في حبالك أزواجا غيرهنّ، بأن تطلقهنّ، وتنكح غيرهنّ...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: معنى ذلك: ولا أن تطلق أزواجك فتستبدل بهنّ غيرهنّ أزواجا.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لما قد بيننا قبل من أن قول الذي قال معنى قوله: "لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ مِنْ بَعْدُ" لا يحلّ لك اليهودية أو النصرانية والكافرة، قول لا وجه له.
فإذ كان ذلك كذلك فكذلك قوله: "وَلا أنْ تَبَدّلَ بِهِنّ" كافرة لا معنى له، إذ كان من المسلمات من قد حرم عليه بقوله "لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ مِنْ بَعْدُ" الذي دللنا عليه قبل...فإن قال قائل: أفلم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوّج امرأة على نسائه اللواتي كنّ عنده، فيكون موجها تأويل قوله: "وَلا أنْ تَبَدّلَ بِهِنّ مِنْ أزْوَاجٍ" إلى ما تأوّلت، أو قال: وأين ذكر أزواجه اللواتي كنّ عنده في هذا الموضع، فتكون الهاء من قوله: "وَلا أنْ تَبَدّلَ بِهِنّ" من ذكرهن وتوهم أن الهاء في ذلك عائدة على النساء، في قوله: "لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ مِنْ بَعْدُ"؟ قيل: قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوّج من شاء من النساء اللواتي كان الله أحلهنّ له على نسائه اللاتي كن عنده يوم نزلت هذه الآية، وإنما نُهي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية أن يفارق من كان عنده بطلاق أراد به استبدال غيرها بها، لإعجاب حسن المستبدلة له بها إياه إذ كان الله قد جعلهنّ أمّهات المؤمنين وخيرهن بين الحياة الدنيا والدار الآخرة، والرضا بالله ورسوله، فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة، فحرمن على غيره بذلك، ومنع من فراقهنّ بطلاق، فأما نكاح غيرهنّ فلم يمنع منه، بل أحلّ الله له ذلك على ما بين في كتابه. وقد رُوي عن عائشة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقبض حتى أحلّ الله له نساء أهل الأرض.
حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن ابن جُرَيج، عن عطاء، عن عائشة قالت: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحلّ له النساء تعني أهل الأرض...
فإن قال قائل: فإن كان الأمر على ما وصفت من أن الله حرّم على نبيه بهذه الآية طلاق نسائه اللواتي خيرهنّ فاخترنه، فما وجه الخبر الذي رُوي عنه أنه طلق حفصة ثم راجعها، وأنه أراد طلاق سودة حتى صالحته على ترك طلاقه إياها، ووهبت يومها لعائشة؟ قيل: كان ذلك قبل نزول هذه الآية.
والدليل على صحة ما قلنا، من أن ذلك كان قبل تحريم الله على نبيه طلاقهن، الرواية الواردة أن عمر دخل على حفصة معاقبَها حين اعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، كان من قيله لها: قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم طلقك، فكلمته فراجعك، فوالله لئن طلّقك، أو لو كان طلّقك لا كلّمته فيك، وذلك لا شك قبل نزول آية التخيير، لأن آية التخيير إنما نزلت حين انقضى وقت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم على اعتزالهنّ.
وأما أمر الدلالة على أن أمر سَوْدة كان قبل نزول هذه الآية، أن الله إنما أمر نبيه بتخيير نسائه بين فراقه والمُقام معه على الرضا بأن لا قَسْم لهن، وأنه يُرْجِي من يشاء منهنّ، ويُؤْوي منهنّ من يشاء، ويُؤْثر من شاء منهنّ على من شاء، ولذلك قال له تعالى ذكره: "وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلكَ أدْنَى أنْ تَقَرّ أعْيُنُهُنّ وَلا يَحْزَنّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنّ كُلّهُنّ"، ومن المحال أن يكون الصلح بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم جرى على تركها يومها لعائشة في حالِ لا يومَ لها منه.
وغير جائز أن يكون كان ذلك منها إلا في حالِ كان لها منه يومٌ هوَ لها حقّ كان واجبا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أداؤه إليها، ولم يكن ذلك لهنّ بعد التخيير لما قد وصفت قبل فيما مضى من كتابنا هذا.
فتأويل الكلام: لا يحلّ لك يا محمد النساء من بعد اللواتي أحللتهنّ لك في الآية قبلُ، ولا أن تُطَلق نساءك اللواتي اخترن الله ورسوله والدار الاَخرة، فتبدّل بهنّ من أزواج ولو أعجبك حسن من أردت أن تبدّل به منهنّ، إلا ما ملكت يمينك. و"أن" في قوله "أنْ تَبَدّلَ بِهِنّ" رفع، لأن معناها: لا يحلّ لك النساء من بعد، ولا الاستبدال بأزواجك، و"إلا" في قوله: "إلاّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ" استثناء من النساء. ومعنى ذلك: لا يحلّ لك النساء من بعد اللواتي أحللتهنّ لك، إلا ما ملكت يمينك من الإماء، فإن لك أن تَمْلك من أيّ أجناس الناس شئت من الإماء.
وقوله: "وكان اللّهُ على كُلّ شَيْءٍ رَقِيبا" يقول: وكان الله على كل شيء ما أحلّ لك، وحرّم عليك، وغير ذلك من الأشياء كلها، حفيظا لا يعزُب عنه علم شيء من ذلك، ولا يؤوده حفظ ذلك كله.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لمَّا اخْتَرْتَهُنَّ أثبت اللَّهُ لهن حُرْمة، فقال: {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ} فكما اخترْنَكَ فلا تَخْتَرْ عليهن امرأةً أخرى تطييباً لقلوبهن، ونوعاً للمعادلة بينه وبينهن، وهذا يدل على كَرَمِه -والحِفَاظ كَرَمٌ ودَيْن.
{وكان الله على كل شيء رقيبا} أي حافظا عالما بكل شيء قادرا عليه، لأن الحفظ لا يحصل إلا بهما.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أمره بما يشق من تغير العوائد في أمر العدة، ثم بما قد يشق عليه صلى الله عليه وسلم من تخصيصه بما ذكر خشية من طعن بعض من لم يرسخ إيمانه، وختم ذلك بما يسر أزواجه، وصل به ما يزيد سرورهن من تحريم غيرهن عليه شكراً لهن على إعراضهن عن الدنيا واختيارهن الله ورسوله فقال: {لا يحل لك النساء} ولما كان تعالى شديد العناية به صلى الله عليه وسلم لوّح له في آية التحريم إلى أنه ينسخه عنه، فأثبت الجار فقال: {من بعد} أي من بعد من معك من هؤلاء التسع -كما قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عنه، شكراً من الله لهن لكونهن لما نزلت آية التخيير اخترن الله ورسوله، فتكون الآية منسوخة بما تقدم عليها في النظم وتأخر عنها في الإنزال من آية {إنا أحللنا لك أزواجك} وفي رواية أخرى عنه من بعد {اللاتي أحللنا لك} بالصفة المتقدمة من بنات العم وما معهن، ويؤيدها ما تقدمت روايته عن أم هانئ رضي الله عنها.
ولما كان ربما فهم أن المراد الحصر في عدد التسع، لا بقيد المعينات، قال: {ولا أن تبدل بهن} أي هؤلاء التسع، وأعرق في النفي بقوله: {من} أي شيئاً من {أزواج} أي بأن تطلق بعض هؤلاء المعينات وتأخذ بدلها من غيرهن بعقد النكاح بحيث لا يزيد العدد على تسع، فعلم بهذا أن الممنوع منه نكاح غيرهن مع طلاق واحدة منهن أولاً، وهو يؤيد الرواية الأولى عن ابن عباس رضي الله عنهما لأن المتبدل بها لا تكون إلا معلومة العين، والجواب عن قول أم هانئ رضي الله عنها أنه فهم منها، لا رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما عند موت واحدة منهن فلا حرج في نكاح واحدة بدلها.
ولما علم من هذا المنع من كل زوجة بأيّ صفة كانت، أكد المعنى وحققه، وصرح به في قوله حالاً من فاعل "تبدل ": {ولو أعجبك حسنهن} أي النساء المغايرات لمن معك، وفي هذا إباحة النظر إلى من يراد نكاحها لأن النظرة الأولى لا تكاد تثبت ما عليه المرئي من حاق الوصف؛ ولما كان لفظ النساء شاملاً للأزواج والإماء، بين أن المراد الأزواج فقط بقوله: {إلا ما ملكت يمينك} أي فيحل لك منهن ما شئت، وقد ملك رسول الله صلى الله عليه وسلم ريحانة رضي الله عنها من سبي بني قريظة، واستمرت في ملكه مدة لا يقربها حتى أسلمت، ثم ملك بعد عام الحديبية مارية رضي الله عنها أم ولده إبراهيم عليه السلام.
ولما تقدم سبحانه في هذه الآيات فأمر ونهى وحد حدوداً، حذر من التهاون بشيء منها ولو بنوع تأويل فقال: {وكان الله} أي الذي لا شيء أعظم منه، وهو المحيط بجميع صفات الكمال {على كل شيء رقيباً} أي يفعل فعل المراعي لما يتوقع منه من خلل على أقرب قرب منه بحيث لا يفوت مع رعايته فائت من أمر المرعى، ولا يكون الرقيب إلا قريباً، ولا أقرب من قرب الحق سبحانه، فلا أرعى من رقبته، وهو من أشد الأسماء وعيداً.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وهذا شكر من اللّه الذي لم يزل شكورًا لزوجات رسوله رضي اللّه عنهن، حيث اخترن اللّه ورسوله والدار الآخرة، أن رحمهن وقصر رسوله عليهن فقال: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} زوجاتك الموجودات.
{وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} أي: ولا تطلق بعضهن فتأخذ بدلها؛ فحصل بهذا، أمنهن من الضرائر، ومن الطلاق، لأن اللّه قضى أنهن زوجاته في الدنيا والآخرة، لا يكون بينه وبينهن فرقة.
{إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} أي: السراري فذلك جائز لك؛ لأن المملوكات في كراهة الزوجات، لسن بمنزلة الزوجات، في الإضرار للزوجات.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
موقع هذه الآية في المصحف عقب التي قبلها يدل على أنها كذلك نزلت وأن الكلام متصل بعضه ببعض ومنتظم هذا النظم البديع، على أن حذف ما أضيفت إليه {بعدُ} ينادي على أنه حذْفُ معلوم دل عليه الكلام السابق فتأخّرها في النزول عن الآيات التي قبلها وكونها متصلة بها وتتمة لها مما لا ينبغي أن يُتردد فيه، فتقدير المضاف إليه المحذوف لا يخلو: إمّا أن يؤخذ من ذكر الأصناف قبله، أي من بعد الأصناف المذكورة بقوله: {إنا أحللنا لك أزواجك} [الأحزاب: 50] الخ. وإمّا أن يكون مما يقتضيه الكلام من الزمان، أي من بعد هذا الوقت، والأول الراجح.
و {بعد} يجوز أن يكون بمعنى (غير) كقوله تعالى: {فمن يهديه من بعد الله} [الجاثية: 23] وهو استعمال كثير في اللغة، وعليه فلا ناسخ لهذه الآية من القرآن ولا هي ناسخة لغيرها، ومما يؤيد هذا المعنى التعبير بلفظ الأزواج في قوله: {ولا أن تبدل بهن من أزواج} أي غيرهن، وعلى هذا المحمل حمل الآية ابن عباس فقد روى الترمذي عنه قال: « نُهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات» فقال: {لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك} فأحل الله المملوكات المؤمنات {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي} [الأحزاب: 50]. ومثل هذا مروي عن أُبَيّ بن كعب وعكرمة والضحاك. ويجوز أن يكون {بعدُ} مراداً به الشيء المتأخر عن غيره وذلك حقيقة معنى البعدية فيَتعينُ تقدير لفظ يدل على شيء سابق.
وبناء {بعدُ} على الضم يقتضي تقدير مضاف إليه محذوفٍ يدل عليه الكلام السابق على ما درج عليه ابن مالك في الخلاصة وحققه ابن هشام في « شرحه على قطر الندى»، فيجوز أن يكون التقدير: من بعدِ مَن ذكرن على الوجهين في معنى البعدية فيقدر: من غير مَن ذكرن، أو يقدر من بعدِ من ذُكرن، فتنشأ احتمالات أن يكون المراد أصناف من ذكرن أو أعداد من ذُكرن (وكن تسعاً)، أو مَن اخترتهن.
ويجوز أن يقدر المضاف إليه وقتاً، أي بعد اليوم أو الساعة، أي الوقت الذي نزلت فيه الآية فيكون نسخاً لقوله: {إنا أحللنا لك أزواجك إلى قوله: خالصة لك} [الأحزاب: 50].
وأما ما رواه الترمذي عن عائشة أنها قالت: « ما مات رسول الله حتى أحل الله له النساء». وقال حديث حسن. (وهو مقتض أن هذه الآية منسوخة) فهو يقتضي أن ناسخها من السنة لا من القرآن لأن قولها: ما مات، يؤذن بأن ذلك كان آخر حياته فلا تكون هذه الآية التي نزلت مع سورتها قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بخمس سنين ناسخة للإِباحة التي عنتها عائشة ولذلك فالإِباحة إباحة تكريم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وروى الطحاوي مثل حديث عائشة عن أمّ سلمة.
و {النساء} إذا أطلق في مثل هذا المقام غلب في معنى الأزواج، أي الحرائر دون الإماء...
أي لا تحل لك الأزواج من بعد مَنْ ذُكِرْن.
وقوله: {ولا أن تبدل بهن} أصله: تتبدل بتاءين حذفت إحداهما تخفيفاً، يقال: بَدَّل وتبدَّل بمعنى واحد، ومادة البدل تقتضي شيئين: يعطي أحدهما عوضاً عن أخذ الآخر، فالتبديل يتعدى إلى الشيء المأخوذ بنفسه وإلى الشيء المعطَى بالباء أو بحرف {مِن}، وتقدم عند قوله تعالى: {ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل} في سورة البقرة (108).
والمعنى: أن من حصلتْ في عصمتك من الأصناف المذكورة لا يحلّ لك أن تطلقها، فكنى بالتبدل عن الطلاق لأنه لازمه في العرف الغالب لأن المرءَ لا يطلق إلا وهو يعتاض عن المطلقة امرأة أخرى، وهذه الكناية متعينة هنا لأنه لو أريد صريح التبدل لخالف آخرُ الآية أولَها وسابقتها، فإن الرسول أحلت له الزيادة على النساء اللاتي عنده إذا كانت المزيدة من الأصناف الثلاثة السابقة وحرم عليه ما عداهن، فإذا كانت المستبدَلَة إحدى نساء من الأصناف الثلاثة لم يستقم أن يحرَّم عليه استبدال واحدة منهن بعينها لأن تحريم ذلك ينافي إباحة الأصناف ولا قائل بالنسخ في الآيتين، وإذا كانت المستبدلة من غير الأصناف الثلاثة كان تحريمها عاماً في سائر الأحوال فلا محصول لتحريمها في خصوص حال إبدالها بغيرها فتمحض أن يكون الاستبدال مكنّى به عن الطلاق وملاحظاً فيه نية الاستبدال. فالمعنى: أن الرسول أبيحت له الزيادة على النساء اللاتي حصلْن في عصمته أو يحصلن من الأصناف الثلاثة ولم يبح له تعويض قديمة بحادثة.
والمعنى: ولا أن تطلق امرأة منهن تريد بطلاقها أن تتبدل بها زوجاً أخرى.
وضمير {بهن} عائد إلى ما أضيف إليه {بعد} المقدَّر وهن الأصناف الثلاثة.
والمعنى: ولا أن تبدل بامرأة حصلت في عصمتك أو ستحصل امرأة غيرها.
و {مِن} مزيدة على المفعول الثاني ل {تبدل} لقصد إفادة العموم. والتقدير: ولا أن تبَدَّل بهن أزواجاً أُخرَ، فاختص هذا الحكم بالأزواج من الأصناف الثلاثة وبقيت السراري خارجة بقوله: {إلا ما ملكت يمينك}. وأما التي تهَب نفسَها فهي إن أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكحها فقد انتظمت في سلك الأزواج، فشملها حكمهن، وإن لم يرد أن ينكحها فقد بقيت أجنبية لا تدخل في تلك الأصناف.
وقرأ الجمهور {لا يحل} بياء تحتية على اعتبار التذكير لأن فاعله جمع غيرُ صحيح فيجوز فيه اعتبار الأصل. وقرأه أبو عمرو ويعقوب بفوقية على اعتبار التأنيث بتأويل الجماعة وهما وجهان في الجمع غير السالم.
وجملة {ولو أعجبك حسنهن} في موضع الحال والواو واوه، وهي حال من ضمير {تبدل}. و {لو} للشرط المقطوع بانتفائه وهي للفرض والتقدير وتسمى وصلية، فتدل على انتفاء ما هو دون المشروط بالأوْلى، وقد تقدم في قوله تعالى: {ولو افتدى به} في آل عمران (91).
والمعنى: لا يحلّ لك النساء من بعدُ بزيادة على نسائك وبتعويض إحداهن بجديدة في كل حالة حتى في حالة إعجاب حسنهن إياك.
وفي هذا إيذان بأن الله لما أباح لرسوله الأصناف الثلاثة أراد اللطف له وأن لا يناكد رغبته إذا أعجبته امرأة لكنه حدّد له أصنافاً معينة وفيهن غناء.
وقد عبرت عن هذا المعنى عائشة رضي الله عنها بعبارة شيقة، إذ قالت للنبيء: ما أرى ربَّك إلا يُسارِع في هواك. وأُكدت هذه المبالغة بالتذييل من قوله: {وكان الله على كل شيء رقيباً} أي عالماً بِجَرْي كللِ شيء على نحو ما حدّده أو على خلافه، فهو يجازي على حسب ذلك. وهذا وعد للنبيء صلى الله عليه وسلم بثواب عظيم على ما حدد له من هذا الحكم.
والاستثناء في قوله: {إلا ما ملكت يمينك} منقطع. والمعنى: لكن ما ملكت يمينك حلالٌ في كل حال. والمقصود من هذا الاستدراك دفع توهم أن يكون المراد من لفظ {النساء} في قوله: {لا يحل لك النساء} ما يرادف لفظ الإِناث دون استعماله العرفي بمعنى الأزواج كما تقدم.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
{وكان الله على كل شيء رقيبا... شعور أزواج الرسول عليه السلام برقابة الله عليه وعليهن ضمانة إضافية لهناء عيشهن، وإحسان بالغ من الله إليهن.
وقوله تعالى في نفس السياق: {ولو أعجبك حسنهن}، توكيد لوصف (البشرية) الذي لا يعد وصمة وإنما يعد كمالا، في حق (الإنسان الكامل) الذي هو الرسول الأعظم، فقد اصطفاه الله لرسالته واختار أن يكون (بشرا رسولا)، وفيه إشارة إلى أن النظر إلى المخطوبة عند خطبتها جائز، وإلى أن حسن المرأة من جملة الدوافع الطبيعية للزواج بها، وإن اعتبار هذا العنصر لا حرج فيه في نظر الإسلام، لكن يجب أن يكون مدعما بعنصر (التدين) الذي هو صمام الأمان، من تقلبات القلوب وطوارئ الزمان.