58- واذكروا - يا بني إسرائيل - حين قلنا لكم : ادخلوا المدينة الكبيرة التي ذكرها لكم موسى نبيكم ، فكلوا مما فيها كما تشاءون ، كثيراً واسعاً ، على أن يكون دخولكم بخشوع وخضوع من الباب الذي سمَّاه لكم نبيكم ، واسألوا الله عند ذلك أن يغفر لكم خطاياكم ، فمن يفعل ذلك بإخلاص نغفر له خطاياه ، ومن كان محسناً مطيعاً زدناه ثواباً وتكريماً فوق العفو والمغفرة .
قوله تعالى : { وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية } . سميت القرية لأنها تجمع أهلها ، ومنه المقرأة للحوض ، لأنها تجمع الماء ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : هي أريحاء ، وهي قرية الجبارين كان فيها قوم من بقية عاد يقال لهم العمالقة ورأسهم عوج بن عنق ، وقيل : بلقاء ، وقال مجاهد : بيت المقدس ، وقال الضحاك : هي الرملة والأردن وفلسطين وتدمر ، وقال مقاتل : إيليا ، وقال ابن كيسان : الشام .
قوله تعالى : { وكلوا منها حيث شئتم رغداً } . موسعاً عليكم .
قوله تعالى : { وادخلوا الباب } . يعني باباً من أبواب القرية وكان لها سبعة أبواب .
قوله تعالى : { سجداً } . أي ركعاً خضعاً منحنين ، وقال وهب : فإذا دخلتموه فاسجدوا شكراً لله تعالى ، قال قتادة : حط عنا خطايانا ، أمروا بالاستغفار ، وقال ابن عباس : لا إله إلا الله ، لأنها تحط الذنوب ، ورفعها على تقدير : قولوا مسألتنا حطة .
قوله تعالى : { نغفر لكم خطاياكم } . من الغفر وهو الستر ، فالمغفرة تستر الذنوب ، وقرأ نافع بالياء وضمها وفتح الفاء ، وقرأها ابن عامر بالتاء وضمها وفتح الفاء ، وفي الأعراف قرأ جميعاً و يعقوب بالتاء وضمها ، وقرأ الآخرون فيهما بنصب النون وكسر الفاء .
يقول تعالى لائمًا لهم على نكولهم عن الجهاد ودخول{[1839]} الأرض المقدسة ، لما قدموا من بلاد مصر صحبة موسى ، عليه السلام ، فأمروا بدخول الأرض المقدسة التي هي ميراث لهم عن أبيهم إسرائيل ، وقتال من فيها من العماليق الكفرة ، فنكلوا عن قتالهم وضعفوا واستحسروا ، فرماهم الله في التيه عقوبة لهم ، كما ذكره تعالى في سورة المائدة ؛ ولهذا كان أصح القولين أن هذه البلدة هي بيت المقدس ، كما نص على ذلك السدي ، والرّبيع بن أنس ، وقتادة ، [ وأبو مسلم الأصفهاني وغير واحد وقد قال الله تعالى : { يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } الآيات ]{[1840]} . [ المائدة : 21 - 24 ]
وقال آخرون : هي أريحا [ ويحكى عن ابن عباس وعبد الرحمن بن زيد ]{[1841]} وهذا بعيد ؛ لأنها ليست على طريقهم ، وهو قاصدون بيت المقدس لا أريحا [ وأبعد من ذلك قول من ذهب أنها مصر ، حكاه فخر الدين في تفسيره ، والصحيح هو الأول ؛ لأنها بيت المقدس ]{[1842]} . وهذا كان لما خرجوا من التيه بعد أربعين سنة مع يوشع بن نون ، عليه السلام ، وفتحها الله عليهم عشية جمعة ، وقد حبست لهم الشمس يومئذ قليلا حتى أمكن الفتح ، وأما أريحا فقرية ليست مقصودة لبني إسرائيل ، ولما فتحوها أمروا أن يدخلوا الباب - باب البلد - { سُجَّدًا } أي : شكرًا لله تعالى على ما أنعم به عليهم من الفتح والنصر ، وردّ بلدهم{[1843]} إليهم وإنقاذهم من التيه والضلال .
قال العوفي في تفسيره ، عن ابن عباس أنه كان يقول في قوله : { وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا } أي ركعا .
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، وعن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : { وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا } قال : ركعا{[1844]} من باب صغير .
رواه الحاكم من حديث سفيان ، به . ورواه ابن أبي حاتم من حديث سفيان ، وهو الثوري ، به{[1845]} . وزاد : فدخلوا من قبل أستاههم .
[ وقال الحسن البصري : أمروا أن يسجدوا على وجوههم حال دخولهم ، واستبعده الرازي ، وحكى عن بعضهم : أن المراد بالسجود هاهنا الخضوع لتعذر حمله على حقيقته ]{[1846]} .
وقال خصيف : قال عكرمة ، قال ابن عباس : كان الباب قبل القبلة .
وقال [ ابن عباس و ]{[1847]} مجاهد ، والسدي ، وقتادة ، والضحاك : هو باب الحطة من باب إيلياء ببيت المقدس ، [ وحكى الرازي عن بعضهم أنه عن باب جهة من جهات القرية ]{[1848]} .
وقال خَصِيف : قال عكرمة : قال ابن عباس : فدخلوا على شق ، وقال السدي ، عن أبي سعيد الأزدي ، عن أبي الكنُود ، عن عبد الله بن مسعود : وقيل لهم ادخلوا الباب سجدا ، فدخلوا مقنعي رؤوسهم ، أي : رافعي رؤوسهم خلاف ما أمروا .
وقوله : { وَقُولُوا حِطَّةٌ } قال الثوري عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَقُولُوا حِطَّةٌ } قال : مغفرة ، استغفروا .
وروي عن عطاء ، والحسن ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، نحوه .
وقال الضحاك عن ابن عباس : { وَقُولُوا حِطَّةٌ } قال : قولوا : هذا الأمر حق ، كما قيل لكم .
وقال عكرمة : قولوا : لا إله إلا الله .
وقال الأوزاعي : كتب ابن عباس إلى رجل قد سماه يسأله عن قوله تعالى : { وَقُولُوا حِطَّةٌ }
وقال الحسن وقتادة : أي احطط عنا خطايانا .
{ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنزيدُ الْمُحْسِنِينَ } هذا جواب الأمر ، أي : إذا فعلتم ما أمرناكم غفرنا لكم الخطيئات وضعفنا لكم الحسنات .
وحاصل الأمر : أنهم أمروا أن يخضعوا لله تعالى عند الفتح بالفعل والقول ، وأن يعترفوا بذنوبهم ويستغفروا منها ، والشكر على النعمة عندها والمبادرة إلى ذلك من المحبوب لله تعالى ، كما قال تعالى : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } [ سورة النصر ] فسره بعض الصحابة بكثرة الذكر والاستغفار عند الفتح والنصر ، وفسره ابن عباس بأنه نُعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أجله فيها ، وأقره على ذلك عمر [ بن الخطاب ]{[1849]} رضي الله عنه . ولا منافاة بين أن يكون قد أمر بذلك عند ذلك ، ونعي إليه روحه الكريمة أيضًا ؛ ولهذا كان عليه السلام يظهر عليه الخضوع جدًا عند النصر ، كما روي أنه كان يوم الفتح - فتح مكة - داخلا إليها من الثنية العليا ، وإنَّه الخاضع لربه حتى إن عُثْنونه ليمس مَوْرِك رحله ، يشكر الله على ذلك . ثم لما دخل البلد اغتسل وصلى ثماني ركعات وذلك ضُحى ، فقال بعضهم : هذه صلاة الضحى ، وقال آخرون : بل هي صلاة الفتح ، فاستحبوا للإمام وللأمير إذا فتح بلدًا أن يصلي فيه ثماني ركعات عند أول دخوله ، كما فعل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما دخل إيوان كسرى صلى فيه ثماني ركعات ، والصحيح أنه يفصل بين كل ركعتين بتسليم ؛ وقيل : يصليها كلها بتسليم واحد ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ } قال البخاري : حدثني محمد ، حدثنا{[1850]} عبد الرحمن بن مَهْدي ، عن ابن المبارك ، عن مَعْمَر ، عن هَمَّام بن مُنَبّه ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قيل لبني إسرائيل : { ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ } فدخلوا يزحفون على أستاههم ، فبدّلوا وقالوا : حطة : حبة في شعرة " {[1851]} .
ورواه النسائي ، عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم ، عن{[1852]} عبد الرحمن بن مهدي به موقوفا{[1853]} وعن محمد بن عبيد بن محمد ، عن ابن المبارك ببعضه مسندًا ، في قوله تعالى : { حِطَّةٌ } قال : فبدلوا . فقالوا : حبة{[1854]} {[1855]} .
وقال عبد الرزاق : أنبأنا معمر ، عن هَمَّام بن مُنَبه أنه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال الله لبني إسرائيل : { وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } فبدلوا ، ودخلوا الباب يزحفون على أستاههم ، فقالوا : حبة في شعرة{[1856]} " .
وهذا حديث صحيح ، رواه البخاري عن إسحاق بن نصر ، ومسلم عن محمد بن رافع . والترمذي عن عبد بن حميد ، كلهم عن عبد الرزاق ، به{[1857]} . وقال الترمذي : حسن صحيح .
وقال محمد بن إسحاق : كان تبديلهم{[1858]} كما حدثني صالح بن كيسان ، عن صالح مولى التوأمة ، عن أبي هريرة ، وعمن لا أتهم ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " دخلوا الباب - الذي أمروا أن يدخلوا فيه سجدًا - يزحفون على أستاههم ، وهم يقولون : حنطة في شعيرة " {[1859]} .
وقال أبو داود : حدثنا أحمد بن صالح ، وحدثنا سليمان بن داود ، حدثنا عبد الله بن وهب ، حدثنا هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " قال الله لبني إسرائيل : { ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } ثم قال أبو داود : حدثنا جعفر بن مسافر ، حدثنا ابن أبي فديك ، عن هشام بن سعد ، مثله{[1860]} {[1861]} .
هكذا رواه منفردًا به في كتاب الحروف مختصرًا .
وقال ابن مردويه : حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا إبراهيم بن مهدي ، حدثنا أحمد بن محمد بن المنذر القَزّاز ، حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك ، عن{[1862]} هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان من آخر الليل ، أجَزْنا في ثنية{[1863]} يقال لها : ذات الحنظل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما مثل هذه الثنية الليلة إلا كمثل الباب الذي قال الله لبني إسرائيل : { ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ }{[1864]} .
وقال سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن البراء : { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ } [ البقرة : 142 ] قال اليهود : قيل لهم : ادخلوا الباب سجدًا ، قال : ركعًا ، وقولوا : حطة : أي مغفرة ، فدخلوا على
أستاههم ، وجعلوا يقولون : حنطة حمراء فيها شعيرة{[1865]} ، فذلك قول الله تعالى : { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ } .
وقال الثوري ، عن السدي ، عن أبي سعد الأزدي ، عن أبي الكَنود ، عن ابن مسعود : { وَقُولُوا حِطَّةٌ } فقالوا : حنطة حبة حمراء فيها شعيرة{[1866]} ، فأنزل الله : { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ }
وقال أسباط ، عن السدي ، عن مرة ، عن ابن مسعود أنه قال : إنهم قالوا : " هُطِّي سمعاتا أزبة مزبا " فهي بالعربية : حبة حنطة حمراء مثقوبة{[1867]} فيها شعرة سوداء ، فذلك قوله : { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ }
وقال الثوري ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد ، عن ابن عباس في قوله : { ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا } ركعًا من باب صغير ، فدخلوا{[1868]} من قبل أستاههم ، وقالوا : حنطة ، فهو قوله تعالى : { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ }
وهكذا روي عن عطاء ، ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، والحسن ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، ويحيى بن رافع .
وحاصل ما ذكره المفسرون وما دل عليه السياق أنهم بدلوا أمر{[1869]} الله لهم من الخضوع بالقول والفعل ، فأمروا أن يدخلوا سجدًا ، فدخلوا يزحفون على أستاههم من قبل أستاههم رافعي رؤوسهم ، وأمروا أن يقولوا : حطة ، أي : احطط عنا ذنوبنا ، فاستهزؤوا فقالوا : حنطة في شعرة{[1870]} . وهذا في غاية ما يكون من المخالفة والمعاندة ؛ ولهذا أنزل الله بهم بأسه وعذابه بفسقهم ، وهو خروجهم عن طاعته ؛ ولهذا قال : { فَأَنزلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ }
وقال الضحاك عن ابن عباس : كل شيء في كتاب الله من " الرِّجْز " يعني به العذاب .
وهكذا روي عن مجاهد ، وأبي مالك ، والسدي ، والحسن ، وقتادة ، أنه العذاب . وقال أبو العالية : الرجز الغضب . وقال الشعبي : الرجز : إما الطاعون ، وإما البرد . وقال سعيد بن جبير : هو الطاعون .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا وَكِيع ، عن{[1871]} سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن إبراهيم بن سعد - يعني ابن أبي وقاص - عن سعد بن مالك ، وأسامة بن زيد ، وخزيمة بن ثابت ، رضي الله عنهم ، قالوا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الطاعون رجْز عذاب عُذِّب{[1872]} به من كان قبلكم " {[1873]} .
وهكذا رواه النسائي من حديث سفيان الثوري به{[1874]} . وأصل الحديث في الصحيحين من حديث حبيب بن أبي ثابت : " إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها " الحديث{[1875]} .
قال{[1876]} ابن جرير : أخبرني يونس بن عبد الأعلى ، عن ابن وهب ، عن يونس ، عن الزهري ، قال : أخبرني عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أسامة بن زيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " إن هذا الوجع والسقم رجْز عُذِّب به بعض الأمم قبلكم " {[1877]} . وهذا الحديث أصله مخرَّج في الصحيحين ، من حديث الزهري ، ومن حديث مالك ، عن محمد بن المُنكَدِر ، وسالم أبي النضر ، عن عامر بن سعد ، بنحوه{[1878]} .
{ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هََذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجّداً وَقُولُواْ حِطّةٌ نّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ }
والقرية التي أمرهم الله جل ثناؤه أن يدخلوها ، فيأكلوا منها رغدا حيث شاءوا فيما ذكر لنا : بيت المقدس . ذكر الرواية بذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أنبأنا عبد الرزاق ، قال : أنبأنا معمر ، عن قتادة في قوله : ادْخُلُوا هَذِهِ القَرْيَةَ قال : بيت المقدس .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثني عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدِي : وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ القَرْيَةَ أما القرية فقرية بيت المقدس .
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ القَرْيَةَ يعني بيت المقدس .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سألته يعني ابن زيد عن قوله : ادْخُلُوا هَذِهِ القَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا قال : هي أريحا ، وهي قريبة من بيت المقدس .
القول في تأويل قوله تعالى : فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدا .
يعني بذلك : فكلوا من هذه القرية حيث شئتم عيشا هنيا واسعا بغير حساب . وقد بينا معنى الرغد فيما مضى من كتابنا ، وذكرنا أقوال أهل التأويل فيه .
القول في تأويل قوله تعالى : وَادْخُلُوا البابَ سُجّدا .
أما الباب الذي أمروا أن يدخلوه ، فإنه قيل : هو باب الحطة من بيت المقدس . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ادْخُلُوا البابَ سُجّدا قال : باب الحطة من باب إيلياء من بيت المقدس .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وادْخُلُوا البابَ سُجّدا أما الباب فباب من أبواب بيت المقدس .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال حدثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : وَادْخُلُوا البابَ سُجّدا أنه أحد أبواب بيت المقدس ، وهو يدعى باب حطة .
وأما قوله : سُجّدا فإن ابن عباس كان يتأوّله بمعنى الركع .
حدثني محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا سفيان عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : ادْخُلُوا البابَ سُجّدا قال : ركعا من باب صغير .
حدثنا الحسن بن الزبرقان النخعي ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد ، عن ابن عباس في قوله : ادْخُلُوا البابَ سُجّدا قال : أمروا أن يدخلوا ركعا . وأصل السجود : الانحناء لمن سجد له معظما بذلك ، فكل منحن لشيء تعظيما له فهو ساجد ، ومنه قول الشاعر :
بِجَمْعٍ تَضِلّ البُلْقُ فِي حَجَرَاتِهِ *** تَرَى الأكْمَ فِيهِ سُجّدا للْحَوَافِرِ
يعني بقوله : سجدا : خاشعة خاضعة . ومن ذلك قول أعشى بني قيس بن ثعلبة :
يُرَاوِحُ مِنْ صَلَوَاتِ المَلِيكِ طَوْرا سُجُودا وَطَوْرا جُؤارَا
فذلك تأويل ابن عباس قوله : سُجّدا ركعا ، لأن الراكع منحن ، وإن كان الساجد أشدّ انحناء منه .
القول في تأويل قوله تعالى : وَقُولُوا حِطّةٌ .
وتأويل قوله : حِطّةٌ : فعلة ، من قول القائل : حطّ الله عنك خطاياك فهو يحطها حطة ، بمنزلة الردة والحدّة والمدة من حددت ومددت .
واختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم بنحو الذي قلنا في ذلك . ذكر من قال ذلك منهم :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال أنبأنا معمر : وَقُولُوا حِطّةٌ قال الحسن وقتادة : أي احطط عنا خطايانا .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : وَقُولُوا حِطّةٌ : يحطّ الله بها عنكم ذنبكم وخطاياكم .
حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس : قُولُوا حِطّةٌ قال : يحطّ عنكم خطاياكم .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قوله : حِطّةٌ : مغفرة .
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : حِطّةٌ قال : يحطّ عنكم خطاياكم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : أخبرني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال لي عطاء في قوله : وَقُولُوا حِطّةٌ قال : سمعنا أنه يحطّ عنهم خطاياهم .
وقال آخرون : معنى ذلك : قولوا لا إلَه إلا الله . كأنهم وجهوا تأويله : قولوا الذي يحطّ عنكم خطاياكم ، وهو قول لا إلَه إلا الله . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى وسعد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري ، قالا : أخبرنا حفص بن عمر ، حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة : وَقُولُوا حِطّةٌ قال : قولوا لا إلَه إلا الله .
وقال آخرون بمثل معنى قول عكرمة ، إلا أنهم جعلوا القول الذي أمروا بقيله الاستغفار . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن الزبرقان النخعي ، حدثنا أبو أسامة ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وَقُولُوا حِطّةٌ قال : أمروا أن يستغفروا .
وقال آخرون نظير قول عكرمة ، إلا أنهم قالوا القول الذي أمروا أن يقولوه هو أن يقولوا هذا الأمر حقّ كما قيل لكم . ذكر من قال ذلك :
حدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : وَقُولُوا حِطّةٌ قال : قولوا هذا الأمر حقّ كما قيل لكم .
واختلف أهل العربية في المعنى الذي من أجله رفعت الحطة ، فقال بعض نحويي البصرة : رفعت الحطة بمعنى «قولوا » ليكن منكم حطة لذنوبنا ، كما تقول للرجل سَمْعُك .
وقال آخرون منهم : هي كلمة أمرهم الله أن يقولوها مرفوعة ، وفرض عليهم قيلها كذلك .
وقال بعض نحويي الكوفيين : رفعت الحطة بضمير «هذه » ، كأنه قال : وقولوا هذه حطة .
وقال آخرون منهم : هي مرفوعة بضمير معناه الخبر ، كأنه قال : قولوا ما هو حطة ، فتكون حطة حينئذٍ خبرا ل«ما » .
والذي هو أقرب عندي في ذلك إلى الصواب وأشبه بظاهر الكتاب ، أن يكون رفع حطة بنية خبر محذوف قد دل عليه ظاهر التلاوة ، وهو دخولنا الباب سجدا حطة ، فكفى من تكريره بهذا اللفظ ما دل عليه الظاهر من التنزيل ، وهو قوله : وَادْخُلُوا البابَ سُجّدا كما قال جل ثناؤه : وَإِذْ قَالَتْ أُمّة مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَابا شَدِيدا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبّكُمْ يعني موعظتنا إياهم معذرة إلى ربكم . فكذلك عندي تأويل قوله : وَقُولُوا حِطّةٌ يعني بذلك : وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ القَرْيَةَ . . . وَادْخُلُوا البابَ سُجّدا وَقُولُوا دخولنا ذلك سجدا حُطّةٌ لذنوبنا ، وهذا القول على نحو تأويل الربيع بن أنس وابن جريج وابن زيد الذي ذكرناه آنفا .
وأما على تأويل قول عكرمة ، فإن الواجب أن تكون القراءة بالنصب في «حطة » ، لأن القوم إن كانوا أمروا أن يقولوا : لا إلَه إلا الله ، أو أن يقولوا : نستغفر الله ، فقد قيل لهم : قولوا هذا القول ، ف«قولوا » واقع حينئذٍ على الحطة ، لأن الحطة على قول عكرمة هي قول لا إلَه إلا الله ، وإذ كانت هي قول لا إلَه إلا الله ، فالقول عليها واقع ، كما لو أمر رجل رجلاً بقول الخير ، فقال له : «قل خيرا » نصبا ، ولم يكن صوابا أن يقول له «قل خير » إلا على استكراه شديد .
وفي إجماع القراء على رفع «الحطة » بيان واضح على خلاف الذي قاله عكرمة من التأويل في قوله : وَقُولُوا حِطّةٌ . وكذلك الواجب على التأويل الذي رويناه عن الحسن وقتادة في قوله : وَقُولُوا حِطّةٌ أن تكون القراءة في «حطة » نصبا ، لأن من شأن العرب إذا وضعوا المصادر مواضع الأفعال وحذفوا الأفعال أن ينصبوا المصادر ، كما قال الشاعر :
أُبِيدوا بأيْدِي عُصْبَةٍ وَسُيُوفُهُمْ *** على أُمّهاتِ الهَامِ ضَرْبا شآمِيَا
وكقول القائل للرجل : سمعا وطاعة ، بمعنى : أسمع سمعا وأطيع طاعة ، وكما قال جل ثناؤه : مَعَاذ الله بمعنى : نعوذ بالله .
القول في تأويل قوله تعالى : نَغْفِرْ لَكُمْ .
يعني بقوله : نَغْفِرْ لَكُمْ نتغمد لكم بالرحمة خطاياكم ونسترها عليكم ، فلا نفضحكم بالعقوبة عليه . وأصل الغفر : التغطية والستر ، فكل ساتر شيئا فهو غافره . ومن ذلك قيل للبيضة من الحديد التي تتخذ جنة للرأس «مِغْفر » ، لأنها تغطي الرأس وتُجِنّه ، ومثله غمد السيف ، وهو ما يغمده فيواريه ولذلك قيل لزئبر الثوب «غفر » ، لتغطيته العورة ، وحَوْلِه بين الناظر والنظر إليها . ومنه قول أوس بن حجر :
فَلا أعْتِبُ ابنَ العَمّ إنْ كانَ جاهِلاً *** وأغْفِرُ عَنْهُ الجَهْلَ إنْ كانَ أَجْهَلاَ
يعني بقوله : وأغفر عنه الجهل : أستر عليه جهله بحلمي عنه .
القول في تأويل قوله تعالى : خَطاياكُمْ والخطايا جمع خطية بغير همز كما المطايا جمع مطية ، والحشايا جمع حشية . وإنما ترك جمع الخطايا بالهمز ، لأن ترك الهمز في خطيئة أكثر من الهمز ، فجمع على خطايا ، على أن واحدتها غير مهموزة . ولو كانت الخطايا مجموعة على خطيئة بالهمز لقيل خطائى على مثل قبيلة وقبائل ، وصحيفة وصحائف . وقد تجمع خطيئة بالتاء فيهمز فيقال خطيئات ، والخطيئة فعلية من خَطِىء الرجل يَخْطَا خِطْأً ، وذلك إذا عدل عن سبيل الحق . ومنه قول الشاعر :
وَإِنْ مُهاجِرَينَ تَكَنّفاهُ *** لَعَمْرُ اللّهِ قَدْ خَطِئا وَخابَا
القول في تأويل قوله تعالى : وَسَنَزِيدُ المُحْسِنِينَ .
وتأويل ذلك ما رُوي لنا عن ابن عباس ، وهو ما :
حدثنا به القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس : وَسَنَزِيدُ المُحْسِنِينَ : من كان منكم محسنا زيد في إحسانه ، ومن كان مخطئا نغفر له خطيئته .
فتأويل الآية : وإذْ قلنا ادخلوا هذه القرية مباحا لكم كل ما فيها من الطيبات ، موسعا عليكم بغير حساب ، وادخلوا الباب سجدا ، وقولوا : سجودنا هذا لله حطة من ربنا لذنوبنا يحطّ به آثامنا ، نتغمد لكم ذنوب المذنب منكم ، فنسترها عليه ، ونحطّ أوزاره عنه ، وسنزيد المحسنين منكم إلى إحساننا السالف عنده إحسانا . ثم أخبر الله جل ثناؤه عن عظيم جهالتهم ، وسوء طاعتهم ربهم وعصيانهم لأنبيائهم واستهزائهم برسله ، مع عظيم آلاء الله عز وجل عندهم ، وعجائب ما أراهم من آياتهم وعبره ، موبخا بذلك أبناءهم الذين خوطبوا بهذه الاَيات ، ومعلمهم أنهم إن تعدّوا في تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم وجحودهم نبوّته مع عظيم إحسان الله بمبعثه فيهم إليهم ، وعجائب ما أظهر على يديه من الحجج بين أظهرهم ، أن يكونوا كأسلافهم الذين وصف صفتهم . وقصّ علينا أنباءهم في هذه الاَيات ، فقال جل ثناؤه : فَبَدّلَ الّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا على الّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزا مِنَ السّماء الآية .
{ وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية } يعني بيت المقدس ، وقيل أريحا أمروا به بعد التيه .
{ فكلوا منها حيث شئتم رغدا } واسعا ، ونصبه على المصدر ، أو الحال من الواو .
{ وادخلوا الباب } أي باب القرية ، أو القبة التي كانوا يصلون إليها ، فإنهم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى عليه الصلاة والسلام .
{ سجدا } متطامنين مخبتين أو ساجدين لله شكرا على إخراجهم من التيه . { وقولوا حطة } أي مسألتنا ، أو أمرك حطة وهي فعلة من الحط كالجلسة ، وقرئ بالنصب على الأصل بمعنى : حط عنا ذنوبنا حطة ، أو على أنه مفعول { قولوا } أي قولوا هذه الكلمة . وقيل معناه أمرنا حطة أي : أن نحط في هذه القرية ونقيم بها .
{ نغفر لكم خطاياكم } بسجودكم ودعائكم . وقرأ نافع بالياء وابن عامر بالتاء على البناء للمفعول . وخطايا أصله خطايئ كخطايع ، فعند سيبويه أنه أبدلت الياء الزائدة همزة لوقوعها بعد الألف ، واجتمعت همزتان فأبدلت الثانية ياء ثم قلبت ألفا ، وكانت الهمزة بين الألفين فأبدلت ياء . وعند الخليل قدمت الهمزة على الياء ثم فعل بهما ما ذكر .
{ وسنزيد المحسنين } ثوابا ، جعل الامتثال توبة للمسيء وسبب زيادة الثواب للمحسن ، وأخرجه عن صورة الجواب إلى الوعد أيهاما بأن المحسن بصدد ذلك وإن لم يفعله ، فكيف إذا فعله ، وأنه تعالى يفعل لا محالة .
هذا تذكير بنعمة أخرى مكنوا منها فما أحسنوا قبولها ولا رعوها حق رعايتها فحرموا منها إلى حين وعوقب الذين كانوا السبب في عدم قبولها . وفي التذكير بهذه النعمة امتنان عليهم ببذل النعمة لهم لأن النعمة نعمة وإن لم يقبلها المنعم عليه ، وإثارة لحسرتهم على ما فات أسلافهم وما لقوه من جراء إعجابهم بآرائهم ، وموعظة لهم أن لا يقعوا فيما وقع فيه الأولون فقد علموا أنهم كلما صدفوا عن قدر حق النعم نالتهم المصائب . قال الشيخ ابن عطاء الله : من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها ، ومن شكرها فقد قيدها بعقالها .
ولعلم المخاطبين بما عنته هذه الآية اختصر فيها الكلام اختصاراً ترك كثيراً من المفسرين فيها حيارى ، فسلكوا طرائق في انتزاع تفصيل المعنى من مجملها فما أتوا على شيء مقنع ، وكنت تجد أقوالهم هنا إذا التأم بعضها بنظم الآية{[130]} لا يلتئم بعضه الآخر ، وربما خالف جميعها ما وقع في أيام أخر .
والذي عندي من القول في تفسير هاته الآية أنها أشارت إلى قصة معلومة تضمنتها كتبهم وهي أن بني إسرائيل لما طوحت بهم الرحلة إلى برية فاران نزلوا بمدينة قادش فأصبحوا على حدود أرض كنعان التي هي الأرض المقدسة التي وعدها الله بني إسرائيل وذلك في أثناء السنة الثانية بعد خروجهم من مصر فأرسل موسى اثني عشر رجلاً ليتجسسوا أرض كنعان من كل سبط رجل وفيهم يوشع بن نون وكالب بن بفنة فصعدوا وأتوا إلى مدينة حبرون فوجدوا الأرض ذات خيرات وقطعوا من عنبها ورمانها وتينها ورجعوا لقومهم بعد أربعين يوماً وأخبروا موسى وهارون وجميع بني إسرائيل وأروهم ثمر الأرض وأخبروهم أنها حقاً تفيض لبناً وعسلاً غير أن أهلها ذوو عزة ومدنها حصينة جداً فأمر موسى كالباً فأنصت إسرائيل إلى موسى وقال إننا نصعد ونمتلكها وكذلك يوشع أما العشرة الآخرون فأشاعوا في بني إسرائيل مذمة الأرض وأنها تأكل سكانها وأن سكانها جبابرة فخافت بنو إسرائيل من سكان الأرض وجبنوا عن القتال فقام فيهم يوشع وكالب قائلين لا تخافوا من العدو فإنهم لقمة لنا والله معنا ، فلم يصغ القوم لهم وأوحى الله لموسى أن بني إسرائيل أساءوا الظن بربهم وأنه مهلكهم فاستشفع لهم موسى فعفا الله عنهم ولكنه حرمهم من الدخول إلى الأرض المقدسة أربعين سنة يتيهون فلا يدخل لها أحد من الحاضرين يومئذ إلا يوشعاً وكالباً وأرسل الله على الجواسيس العشرة المثبطين وباء أهلكهم .
فهذه الآية تنطبق على هذه القصة تمام الانطباق لا سيما إذا ضمت لها آية سورة [ المائدة : 21 ، 25 ] { يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم إلى قوله الفاسقين } ، فقوله : { ادخلوا هذه القرية } الظاهر أنه أراد بها « حبرون » التي كانت قريبة منهم والتي ذهب إليها جواسيسهم وأتوا بثمارها ، وقيل : أراد من القرية الجهة كلها قاله القرطبي عن عمرو بن شبة فإن القرية تطلق على المزرعة لكن هذا يبعده قوله : { وادخلوا الباب } وإن كان الباب يطلق على المدخل بين الجبلين وكيفما كان ينتظم ذلك مع قوله : { فكلوا منها حيث شئم رغداً } يشير إلى الثمار الكثيرة هناك . وقوله : { فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم } يتعين أنه إشارة إلى ما أشاعه الجواسيس العشرة من مذمة الأرض وصعوبتها وأنهم لم يقولوا مثل ما قال موسى حيث استنصت الشعب بلسان كالب بن بَفُنَّة ويوشع ويدل لذلك قوله تعالى في سورة الأعراف ( 162 ) { فبدل الذين ظلموا منهم قولاً } أي من الذين قيل لهم ادخلوا القرية وأن الرجز الذي أصاب الذين ظلموا هو الوباء الذي أصاب العشرة الجواسيس ، وينتظم ذلك أيضاً مع قوله في آية المائدة ( 21 ، 22 ) { ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين } { قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين } إلخ وقوله : { قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب } [ المائدة : 23 ] فإن الباب يناسب القرية . وقوله : { قال فإنها محرمة عليهم } [ المائدة : 26 ] . فهذا هو التفسير الصحيح المنطبق على التاريخ الصريح .
فقوله : { وإذ قلنا } أي على لسان موسى فبلغه للقوم بواسطة استنصات كالب بن بَفُنَّة ، وهذا هو الذي يوافق ما في سورة العقود في قوله تعالى : { يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم } الآيات . وعلى هذا الوجه فقوله : { ادخلوا } إما أمر بدخول قرية قريبة منهم وهي « حبرون » لتكون مركزاً أولاً لهم ، والأمر بالدخول أمر بما يتوقف الدخول عليه أعني القتال كما دلت عليه آية المائدة إذ قال : { ادخلوا الأرض المقدسة } إلى قوله { ولا ترتدوا على أدباركم } فإن الارتداد على الأدبار من الألفاظ المتعارفة في الحروب كما قال تعالى : { فلا تولوهم الأدبار } [ الأنفال : 15 ] . ولعل في الإشارة بكلمة { هذه } المفيدة للقرب ما يرجح أن القرية هي حبرون التي طلع إليها جواسيسهم .
والقرية بفتح القاف لا غير على الأصح البلدة المشتملة على المساكن المبنية من حجارة وهي مشتقة من القَرْي بفتح فسكون وبالياء وهو الجمع يقال : قَرى الشيء يَقريه إذا جمعه وهي تطلق على البلدة الصغيرة وعلى المدينة الكبيرة ذات الأسوار والأبواب كما أريد بها هنا بدليل قوله : { وادخلوا الباب سجداً } . وجمع القرية قُرى بضم القاف على غير قياس لأن قياس فُعَل أن يكون جمعاً لِفعْلة بكسر الفاء مثل كسوة وكُسى وقياس جمع قرية أن يكون على قِراء بكسر القاف وبالمد كما قالوا : رَكوة وركاء وشكوة وشكاء .
وقوله : { وادخلوا الباب سجداً } مراد به باب القرية لأن أل متعينة للعوضية عن المضاف إليه الدال عليه اللفظ المتقدم .
ومعنى السجود عند الدخول الانحناء شكراً لله تعالى لا لأن بابها قصير كما قيل ، إذ لا جدوى له . والظاهر أن المقصود من السجود مطلق الانحناء لإظهار العجز والضعف كيلا يفطن لهم أهل القرية وهذا من أحوال الجوسسة ، ولم تتعرض لها التوراة ويبعد أن يكون السجود المأمور به سجود الشكر لأنهم داخلون متجسسين لا فاتحين وقد جاء في الحديث الصحيح أنهم بدلوا وصية موسى فدخلوا يزحفون على استاههم كأنهم أرادوا إظهار الزمانة فأفرطوا في التصنع بحيث يكاد أن يفتضح أمرهم لأن بعض التصنع لا يستطاع استمراره .
وقوله : { وقولوا حطة } الحطة فعلة من الحط وهو الخفض وأصل الصيغة أن تدل على الهيئة ولكنها هنا مراد بها مطلق المصدر ، والظاهر أن هذا القول كان معروفاً في ذلك المكان للدلالة على العجز أو هو من أقوال السُّؤَّال والشحاذين كيلا يحسب لهم أهل القرية حساباً ولا يأخذوا حذراً منهم فيكون القول الذي أمروا به قولاً يخاطبون به أهل القرية .
وقيل : المراد من الحطة سؤال غفران الذنوب أي حط عنا ذنوبنا أي اسألوا الله غفران ذنوبكم إن دخلتم القرية . وقيل : من الحط بمعنى حط الرحال أي إقامة أي ادخلوا قائلين إنكم ناوون الإقامة بها إذ الحرب ودخول ديار العدو يكون فتحاً ويكون صلحاً ويكون للغنيمة ثم الإياب . وهذان التأويلان بعيدان ولأن القراءة بالرفع وهي المشهورة تنافي القول بأنها طلب المغفرة لأن المصدر المراد به الدعاء لا يرتفع على معنى الإخبار نحو سَقياً ورعياً وإنما يرتفع إذا قصد به المدح أو التعجب لقربهما من الخبر دون الدعاء ولا يستعمل الخبر في الدعاء إلا بصيغة الفعل نحو رحمه الله ويرحمه الله .
و ( حطة ) بالرفع على أنه مبتدأ أو خبر نحو سمعٌ وطاعة وصبرٌ جميل .
والخطايا جمع خطيئة ولامها مهموزة فقياس جمعها خطائِئ بهمزتين بوزن فعائل فلما اجتمعت الهمزتان قلبت الثانية ياء لأن قبلها كسرة أو لأن في الهمزتين ثِقلاً فخففوا الأخيرة منهما ياء ثم قلبوها ألفاً إما لاجتماع ثقل الياء مع ثقل صيغة الجمع وإما لأنه لما أشبه جائي استحق التخفيف ولكنهم لم يعاملوه معاملة جائي لأن همزة جائي زائدة وهمزة خطائئ أصلية ففروا بتخفيفه إلى قلب الياء ألفاً كما فعلوا في يتامى ووجدوا له في الأسماء الصحيحة نظيراً وهو طَهارَى جمع طَاهرة . والخطيئة فعيلة بمعنى مفعولة لأنها مخطوء بها أي مسلوك بها مسلك الخطأ أشاروا إلى أنها فعل يحق أن لا يقع فيه فاعله إلا خطأ فهي الذنب والمعصية .
وقوله : { وسنزيد المحسنين } وعد بالزيادة من خيري الدنيا والآخرة ولذلك حذف مفعول { نزيد } . والواو عاطفة جملة { سنزيد } على جملة { قلنا ادخلوا } أي وقلنا سنزيد المحسنين ؛ لأن جملة { سنزيد } حكيت في سورة الأعراف ( 161 ) مستأنفة فعلم أنها تعبر عن نظير لها في الكلام الذي خاطب الله به موسى على معنى الترقي في التفضل فلما حكيت هنا عطفت عطف القول على القول .