قوله تعالى : { والذين إذا فعلوا فاحشة } . قال ابن مسعود : قال المؤمنون :يا رسول الله كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منا ، كان أحدهم إذا أذنب أصبح وكفارة ذنبه مكتوبة في عتبة بابه ، اجدع أنفك أو أذنك ، افعل كذا وكذا ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . وقال عطاء : نزلت في تيهان التمار ، وكنيته أبو معبد ، أتته امرأة حسناء ، تبتاع منه تمراً فقال لها ، إن هذا التمر ليس بجيد وفي البيت أجود منه ، فذهب بها إلى بيته فضمها إلى نفسه وقبلها ، فقالت له : اتق الله ، فتركها وندم على ذلك ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر ذلك له ، فنزلت هذه الآية . وقال مقاتل والكلبي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين رجلين أحدهما من الأنصار والآخر من ثقيف فخرج الثقفي في غزاة فاستخلف الأنصاري على أهله فاشترى لهم اللحم ذات يوم ، فلما أرادت المرأة أن تأخذه منه دخل على أثرها وقبل يدها ، ثم ندم وانصرف ووضع التراب على رأسه وهام على وجهه ، فلما رجع الثقفي لم يستقبله الأنصاري فسأل امرأته عن حالة ، فقالت : لا أكثر الله في الإخوان مثله ووصفت له الحال ، والأنصاري يسيح في الجبال تائباً مستغفراً ، فطلبه الثقفي حتى وجده فأتى به أبا بكر رجاء أن يجد عنده راحة وفرجاً . فقال الأنصاري : هلكت وذكر القصة ، فقال أبو بكر : ويحك ! أما علمت أن الله تعالى يغار للغازي مالا يغار للمقيم ، ثم أتيا عمر رضي الله عنه فقال مثل ذلك ، فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال له مثل مقالتهما ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ( والذين إذا فعلوا فاحشة ) . يعني قبيحة خارجة عما أذن الله تعالى فيه ، وأصل الفحش القبح والخروج عن الحد ، قال جابر : الفاحشة الزنا .
قوله تعالى : { أو ظلموا أنفسهم } . مادون الزنا من القبلة والمعانقة ، والنظر واللمس . وقال مقاتل والكلبي : الفاحشة ما دون الزنا من قبلة أو لمسة أو نظرة فيما لا يحل ( أو ظلموا أنفسهم ) بالمعصية . وقيل : فعلوا فاحشة الكبائر أو ظلموا أنفسهم بالصغائر . وقيل : فعلوا فاحشة فعلاً أو ظلموا أنفسهم قولاً .
قوله تعالى : { ذكروا الله } . أي : ذكروا وعيد الله وأن الله سائلهم ، وقال مقاتل بن حيان : ذكروا الله باللسان عند الذنوب .
قوله تعالى : { فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله } . أي وهل يغفر الذنوب إلا الله .
قوله تعالى : { ولم يصروا على ما فعلوا } . أي لم يقيموا ولم يثبتوا عليه ولكن تابوا وأنابوا واستغفروا ، وأصل الإصرار الثبات على الشيء . قال الحسن : إتيان العبد ذنباً عمداً إصرار حتى يتوب . وقال السدي : الإصرار السكوت وترك الاستغفار .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا أبو منصور السمعاني ، أخبرنا أبو جعفر الزياتي ، أخبرنا حميد بن زنجويه ، أنا يحيى بن يحيى ، أنا عبد الحميد بن عبد الرحمن ، عن عثمان بن واقد العمري ، عن أبي نصيرة قال : لقيت مولى لأبي بكر رضي الله عنه فقلت له : أسمعت من أبي بكر شيئاً ؟ قال : نعم . سمعته يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما أصر من استغفر ، وإن عاد في اليوم سبعين مرة " . قوله تعالى : { وهم يعلمون } . قال ابن عباس والحسن ومقاتل والكلبي : وهم يعلمون أنها معصية ، وقيل : وهم يعلمون أن الإصرار ضار ، وقال الضحاك : وهم يعلمون أن الله يملك مغفرة الذنوب ، وقال الحسين بن الفضل : إن له رباً يغفر الذنوب ، وقيل : وهم يعلمون أن الله لا يتعاظمه العفو عن الذنوب وإن كثرت ، وقيل : وهم يعلمون أنهم إن استغفروا غفر لهم .
وقوله تعالى : { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } أي : إذا صدر منهم ذنب أتبعوه بالتوبة والاستغفار .
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا هَمّام بن يحيى ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن عبد الرحمن بن أبي عَمْرة ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن رجلا أذنب ذَنْبًا ، فقال : رب{[5733]} إني أذنبت ذنبا فاغفره . فقال الله [ عز وجل ]{[5734]} عبدي عمل ذنبا ، فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به ، قد غفرت لعبدي ، ثم عمل ذنبا آخر فقال : رب ، إني عملت ذنبا فاغفره . فقال تبارك وتعالى : علم عبدي أن له رَبا يغفر الذنب وَيَأْخُذُ بِهِ ، قَدْ غَفَرَتْ لِعَبْدِي . ثُمَّ عَمِلَ ذَنْبًا آخَرَ فَقَالَ : رَبِّ ، إنِّي عَمِلْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْهُ لي . فَقَالَ عَزَّ وجَلَّ : عَلِمَ عَبْدَي أنَّ لَهُ رَبا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيأْخُذُ بِهِ ، قَدْ غَفَرَتُ لِعَبْدِي ثُمَّ عَمِلَ ذَنَبًا آخَرَ فَقَالَ : رَبِّ ، إنِّي عَمِلَتُ ذَنَبًا فَاغْفِرْهُ{[5735]} فَقَالَ عَزَّ وجَلَّ : عَبْدِي عَلِمَ{[5736]} أنَّ لَهُ رَبا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ ، أُشْهِدُكُمْ أنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ، فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ " .
أخرجه{[5737]} في الصحيح من حديث إسحاق{[5738]} بن أبي طلحة ، بنحوه{[5739]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر وأبو عامر قالا حدثنا زهير ، حدثنا سعد الطائي ، حدثنا أبو الْمُدِلَّة - مولى أم المؤمنين - سمع أبا هريرة ، قلنا : يا رسول الله ، إذا رأيناك رقَّت قلوبُنا ، وكنا من أهل الآخرة ، وإذا فارقناك أعجبتنا الدنيا وشَمِمْنا النساء والأولاد ، فقال{[5740]} لَوْ أَنَّكُمْ تَكُونُونَ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، عَلَى الْحَالِ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا عِنْدِي ، لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلائِكَةُ بِأَكُفِّهِمْ ، وَلَزَارَتْكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ ، وَلَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَجَاءَ اللَّهُ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ كَيْ يُغْفَرَ لَهُمْ " . قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، حَدِّثْنَا عَنْ الْجَنَّةِ مَا بِنَاؤُهَا ؟ قَالَ : " لَبِنَةُ ذَهَبٍ ، وَلَبِنَةُ فِضَّةٍ ، وَمِلاطُهَا الْمِسْكُ الأذْفَرُ ، وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ ، وَتُرَابُهَا الزَّعْفَرَانُ ، مَنْ يَدْخُلُهَا يَنْعَمُ وَلا يَبْأَسُ ، وَيَخْلُدُ وَلا يَمُوتُ ، لا تَبْلَى ثِيَابُهُ ، وَلا يَفْنَى شَبَابُهُ ، ثَلاثَةٌ لا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ : الإمَامُ الْعَادِلُ ، وَالصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ وَتُفْتَح{[5741]} لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ ، وَيَقُولُ الرَّبُّ : وَعِزَّتِي لأنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ " .
ورواه الترمذي ، وابن ماجة ، من وجه آخر من سعد ، به{[5742]} .
ويتأكد الوضوء وصلاة ركعتين عند التوبة ، لما رواه الإمام أحمد بن حنبل :
حدثنا وَكِيع ، حدثنا مِسْعَر ، وسفيان - هو الثوري - عن عثمان بن المغيرة الثقفي ، عن علي بن ربيعة ، عن أسماء بن{[5743]} الحكم الفزاري ، عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، قال : كنت إذا
سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا{[5744]} نفعني الله بما شاء منه ، وإذا حدثني عنه [ غيري استَحْلفْتُه ، فإذا حلف لي صَدقته ، وإن أبا بكر رضي الله عنه حَدثني ]{[5745]} وصدَق أبو بكر - أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مَا مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا فَيَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ - الوُضُوءَ - قال مِسْعر : فَيُصَلّي . وقال سفيان : ثم يُصلِّي ركعتين - فَيَسْتَغْفِرُ اللهَ عز وجَلَّ إلا غَفَرَ لَهُ " .
كذا{[5746]} رواه علي بن المَديني ، والحُمَيْدي وأبو بكر بن أبي شيبة ، وأهل السنن ، وابن حِبَّان في صحيحه والبزار والدارقُطْني ، من طرق ، عن عثمان بن المغيرة ، به . وقال الترمذي : هو حديث حسن{[5747]} وقد ذكرنا طُرقه والكلام عليه مستقصى في مسند أبي بكر الصديق ، [ رضي الله عنه ]{[5748]} وبالجملة فهو حديث حسن ، وهو من رواية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب [ رضي الله عنه ]{[5749]} عن خليفة النبي [ صلى الله عليه وسلم ]{[5750]} أبي بكر الصديق ، رضي الله عنهما{[5751]} ومما يشهد لصحة هذا الحديث ما رواه مسلم في صحيحه ، عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيَبْلُغَ - أو : فَيُسْبِغَ - الوُضُوءَ ، ثُمَّ يَقُولُ : أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيْكَ لَهُ ، وأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، إلا فُتِحَتْ لَهُ أبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ ، يَدْخُلُ مِنْ أيّهَا شَاءَ " {[5752]} .
وفي الصحيحين عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، أنه توضأ لهم وُضُوء النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " مَنْ تَوضَّأَ نَحْوَ وُضُوئي هَذَا ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لا يُحَدِّثُ فِيْهِمَا نَفْسَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " {[5753]} .
فقد ثبت هذا الحديث من رواية الأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين ، عن سيد الأولين والآخرين ورسول رب العالمين ، كما دل عليه الكتاب المبين من أن الاستغفار من الذنب ينفع العاصين .
وقد قال عبد الرزاق : أخبرنا جعفر بن سليمان ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك قال : بلغني أن إبليس حين نزلت : { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } الآية ، بَكَى{[5754]} .
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا مُحْرِز بن عَون ، حدثنا عثمان بن مطر ، حدثنا عبد الغفور ، عن أبي نُضَيْرة عن أبي رجاء ، عن أبي بكر ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " عَلَيْكُمْ بِلا إلَهَ إلا اللهُ والاسْتِغْفَار ، فأكْثرُوا مِنْهُمَا ، فإنَّ إبْليسَ قَالَ : أهْلَكْتُ النَّاسَ بالذُّنُوبِ ، وأهْلَكُونِي بِلا إلَهَ إلا اللهُ والاسْتِغْفَار ، فَلَمَّا رَأيْتُ ذَلِكَ أهْلَكْتُهُمْ بِالأهْوَاءِ ، فَهُمْ يَحْسَبُونَ أنَّهُم مُهْتَدُونَ " .
عثمان بن مطر وشيخه ضعيفان{[5755]} .
وروى الإمام أحمد في مسنده ، من طريق عَمْرو بن أبي عمرو وأبي الهيثم العُتْوَارِيّ ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قَالَ إبْلِيسُ : يَا رَبِّ ، وَعِزَّتكَ لا أزَالُ أغْوي [ عِبَاَدكَ ] {[5756]} ما دامت أرْوَاحُهُمْ فِي أجْسَادِهِمْ . فَقَالَ اللهُ : وَعِزَّتِي وَجَلالِي ولا أزَالُ أغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي " {[5757]} .
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن المثني ، حدثنا عُمر بن أبي خليفة ، سمعت أبا بَدْر يحدث عن ثابت ، عن أنس قال : جاء رجل فقال : يا رسول الله{[5758]} ، أَذْنَبْتُ ذَنْبًا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذَا أَذْنَبْتَ فَاسْتَغْفِرْ رَبَّكَ " . [ قال : فإني أستغفر ، ثم أعود فأُذْنِب . قال{[5759]} فَإذا{[5760]} أَذْنَبْتَ فَعُدْ فَاسْتَغْفِرْ رَبَّكَ ]{[5761]} " فقالها في الرابعة فقال : " اسْتَغْفِرْ رَبَّكَ حَتَّى يَكُونَ الشَّيْطَانُ هُوَ المحسُورُ " {[5762]} .
وهذا حديث غريب من هذا الوجه{[5763]} .
وقوله : { وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ } أي : لا يغفرها أحد سواه ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا محمد بن مُصْعَب ، حدثنا سلام بن مسكين ، والمبارك ، عن الحسن ، عن الأسود بن سَرِيع ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بأسير فقال : اللهمُ إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " عَرَفَ الْحقَّ لأهْلِهِ " {[5764]} .
وقوله : { وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أي : تابوا من ذنوبهم ، ورجعوا إلى الله عن قريب ، ولم يستمروا على المعصية ويصروا عليها غير مقْلِعِين عنها ، ولو تكرر منهم الذنب تابوا عنه ، كما قال الحافظ أبو يعلى الموصلي ، رحمه اللهُ ، في مسنده :
حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل وغيره قالوا : حدثنا أبو يحيى عبد الحميد الحِمَّانيّ ، عن عثمان بن واقد عن أبي نُصَيْرَةَ ، عن مولى لأبي بكر ، عن أبي بكر ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَا أصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وَإنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً " .
ورواه أبو داود ، والترمذي ، والْبَزَّار في مسنده ، من حديث عثمان بن واقد - وقد وثقه يحيى بن معين - به وشيخه أبو نصيرة {[5765]} الواسطي واسمه مسلم بن عبيد ، وثقه الإمام أحمد وابن حبان وقول علي بن المديني والترمذي : ليس إسناد هذا الحديث بذاك ، فالظاهر إنما [ هو ]{[5766]} لأجل جهالة مولى أبي بكر ، ولكن جهالة مثله لا تضر ؛ لأنه تابعي كبير ، ويكفيه نسبته إلى [ أبي بكر ]{[5767]} الصديق ، فهو حديث حسن{[5768]} والله أعلم .
وقوله : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } قال مجاهد وعبد الله بن عبيد بن عُمَير : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أن من تاب تاب الله عليه .
وهذا كقوله تعالى : { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } [ التوبة : 104 ] وكقوله{[5769]} { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } [ النساء : 110 ] ونظائر هذا كثيرة جدا .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد أخبرنا جرير ، حدثنا حبان - هو ابن زيد الشَّرْعَبيّ - عن عبد الله بن عَمْرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال - وهو على المنبر - : " ارْحَمُوا تُرْحَمُوا ، واغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ ، وَيْلٌ لأقْمَاعِ الْقَوْلِ ، وَيْلٌ للْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصرونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ " .
تفرد به أحمد ، رحمه الله{[5770]} .
{ وَالّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوَاْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذّنُوبَ إِلاّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرّواْ عَلَىَ مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً } : أن الجنة التي وصف صفتها أعدت للمتقين ، المنفقين في السرّاء والضرّاء ، والذين إذا فعلوا فاحشة وجميع هذه النعوت من صفة المتقين الذين قال تعالى ذكره : { وَجَنّةٍ عَرْضُها السّمَوَاتُ والأرْضُ أُعِدّتْ للْمُتَقِينَ } .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا جعفر بن سليمان ، عن ثابت البناني ، قال : سمعت الحسن قرأ هذه الاَية : { الّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السّرّاءِ وَالضّرّاءِ وَالكاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعافِينَ عَنِ النّاسِ وَاللّهُ يُحِبّ المُحْسِنِينَ } ، ثم قرأ : { وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فاحِشَةً أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } . . . إلى { أجْرُ العامِلِينَ } فقال : إن هذين النعتين لنعت رجل واحد .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد : { وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ } قال : هذان ذنبان : الفاحشة ذنب ، وظلموا أنفسهم ذنب .
وأما الفاحشة فهي صفة لمتروك ، ومعنى الكلام : والذين إذا فعلوا فعلة فاحشة . ومعنى الفاحشة : الفعلة القبيحة الخارجة عما أذن الله عزّ وجلّ فيه . وأصل الفحش القبح والخروج عن الحدّ والمقدار في كل شيء ، ومنه قيل للطويل المفرط الطول : إنه لفاحش الطول ، يراد به : قبيح الطول ، خارج عن المقدار المستحسن¹ ومنه قيل للكلام القبيح غير القصد : كلام فاحش ، وقيل للمتكلم به : أفحش في كلامه : إذا نطق بفحش . وقيل : إن الفاحشة في هذا الموضع معنّي بها الزنا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا العباس بن عبد العظيم ، قال : حدثنا حبان ، قال : حدثنا حماد ، عن ثابت ، عن جابر : { وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً } قال : زنى القوم وربّ الكعبة .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً } أما الفاحشة : فالزنا .
وقوله : { أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ } يعني به : فعلوا بأنفسهم غير الذي كان ينبغي لهم أن يفعلوا بها . والذي فعلوا من ذلك ركوبهم من معصية الله ما أوجبوا لها به عقوبته .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قوله : { وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ } قال : الظلم من الفاحشة ، والفاحشة من الظلم .
وقوله : { ذَكَرُوا اللّهَ } يعني بذلك ذكروا وعيد الله على ما أتوا من معصيتهم إياه . { فاسْتَغْفِرُوا لِذُنُوبِهِمْ } يقول : فسألوا ربهم أن يستر عليهم ذنوبهم بصفحه لهم عن العقوبة عليها . { وَمَنْ يَغْفِرُ الذّنُوبَ إلاّ اللّهُ } يقول : وهل يغفر الذنوب : أي يعفو عن راكبها فيسترها عليه إلا الله ؟ { وَلَمْ يُصِرّوا على ما فَعَلُوا } يقول : ولم يقيموا على ذنوبهم التي أتوها ، ومعصيتهم التي ركبوها { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } يقول : لم يقيموا على ذنوبهم عامدين للمقام عليها ، وهم يعلمون أن الله قد تقدّم بالنهي عنها ، وأوعد عليها العقوبة ، من ركبها . وذكر أن هذه الاَية أنزلت خصوصا بتخفيفها ويسرها أُمّتَنا مما كانت بنو إسرائيل ممتحنة به من عظيم البلاء في ذنوبها .
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء بن أبي رباح : أنهم قالوا : يا نبي الله ، بنو إسرائيل أكرم على الله منا ، كانوا إذا أذنب أحدهم أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة في عتبة بابه : اجدع أذنك ، أجدع أنفك ، افعل ! فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت : { وَسارِعُوا إلى مَغْفِزَةٍ مِنَ رَبّكُمْ وَجَنّةٍ عَرْضُها السّمَوَاتُ والأرْض أُعِدّتْ للْمُتّقِينَ } . . . إلى قوله : { وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّهَ فاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرٍ مِنَ ذَلِكَ ؟ » فقرأ هؤلاء الاَيات .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني عمر أبي خليفة العبديّ ، قال : حدثنا عليّ بن زيد بن جدعان ، قال : قال ابن مسعود : كانت بنو إسرائيل إذا أذنبوا ، أصبح مكتوبا على بابه الذنب وكفارته ، فأعطينا خيرا من ذلك هذه الاَية .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا جعفر بن سليمان ، عن ثابت البناني ، قال : لما نزلت : { وَمَنْ يَعْمَلْ سَواءً أوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } بكى إبليس فزعا من هذه الاَية .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا جعفر بن سليمان ، عن ثابت البناني ، قال : بلغني أن إبليس حين نزلت هذه الاَية : { وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ } بكى .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، قال : سمعت عثمان مولى آل أبي عقيل الثقفي ، قال : سمعت عليّ بن ربيعة ، يحدث عن رجل من فزارة يقال له أسماء أو ابن أسماء ، عن عليّ ، قال : كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ، نفعني الله بما شاء أن ينفعني ، فحدثني أو بكر وصدق أبو بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : «ما مِنْ عَبْدٍ » قال شعبة : وأحسبه قال «مُسْلِمٍ يُذْنِبُ ذَنْبا ثم يَتَوضّأُ ثم يُصّلّي ركْعَتَيْنِ ، ثم يَسْتَغْفِرُ الله لِذَلِكَ الذّنْبِ . . . » وقال شعبة : وقرأ إحدى هاتين الاَيتين : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } { وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ } .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، وحدثنا الفضل بن إسحاق ، قال : حدثنا وكيع ، عن مسعر وسفيان ، عن عثمان بن المغيرة الثقفي ، عن عليّ بن ربيعة الوالبي ، عن أسماء بن الحكم الفزاري ، عن عليّ بن أبي طالب قال : كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا نفعني الله بما شاء منه ، وإذا حدثني عنه غيره ، استحلفته ، فإذا حلف لي صدقته¹ وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما مِنْ رَجُلٍ يَذْنِبُ ذَنْبا ثُمّ يَتَوَضّأُ ، ثُمّ يُصَلّي » ، قال أحدهما : «رَكْعَتَيْنِ » وقال الاَخر : «ثُمّ يُصَلّي وَيَسْتَغْفِرُ اللّهُ إلاّ غَفَرَ لَهُ » .
حدثنا الزبير بن بكار ، قال : ثني سعد بن أبي سعيد المقبري ، عن أخيه ، عن جده عن عليّ بن أبي طالب أنه قال : ما حدثني أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سألته أن يقسم لي بالله لهو سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أبا بكر ، فإنه كان لا يكذب . قال عليّ رضي الله عنه : فحدثني أبو بكر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «ما مِنْ عَبْدٍ يُذْنِبُ ذَنْبا ثُمّ يَقُومُ عِنْدَ ذِكْرِ ذَنْبِهِ فَيَتَوَضّأُ ثُمّ يُصَلّي رَكْعَتَيْنِ ، وَيَسْتَغْفِرُ اللّهَ مِنْ ذَنْبِهِ ذَلِكَ إلاّ غَفَرهُ اللّهُ لَهُ » .
وأما قوله { ذَكَرُوا اللّهَ فاسْتَغْفرُوا لِذُنُوبِهِمْ } فإنه كما بينا تأويله¹ وبنحو ذلك كان أهل التأويل يقولون .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، حدثنا ابن إسحاق : { وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً } : أي إن أتوا فاحشة { أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ } بمعصية ذكروا نهي الله عنها ، وما حرّم الله عنها ، فاستغفروا لها ، وعرفوا أنه لا يغفر الذنوب إلا هو .
وأما قوله : { وَمَنْ يَغْفِرُ الذّنُوبَ إلاّ اللّهُ } فإن اسم الله مرفوع ، ولا جحد قبله ، وإنما يرفع ما بعده إلا باتباعه ما قبله إذا كان نكرة ومعه جحد ، كقول القائل : ما في الدار أحد إلا أخوك¹ فأما إذا قيل : قام القوم إلا أباك ، فإن وجه الكلام في الأب النصب . و «مَنْ » بصلته في قوله : { وَمَنْ يَغْفِرُ الذّنْوبَ إلاّ اللّهُ } معرفة فإن ذلك إنما جاء رفعا ، لأن معنى الكلام : وهل يغفر الذنوب أحد ، أو ما يغفر الذنوب أحد إلا الله ، فرفع ما بعد إلا من الله على تأويل الكلام ، لا على لفظه .
وأما قوله : { وَلَمْ يُصِرّوا على ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ } فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويل الإصرار ومعنى الكلمة¹ فقال بعضهم : معنى ذلك : لم يثبتوا على ما أتوا من الذنوب ، ولم يقيموا عليه ، ولكنهم تابوا واستغفروا ، كما وصفهم الله به . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَلَمْ يُصِرّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ } فإياكم والإصرار ، فإنما هلك المصرّون الماضون قُدُما ، لا ينهاهم مخافة الله عن حرام حرّمه الله عليهم ، ولا يتوبون من ذنب أصابوه ، حتى أتاهم الموت وهم على ذلك .
حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { وَلَمْ يِصِرّوا على مَا فعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ } قال : قُدُما قُدُما في معاصي الله ، لا ينهاهم مخافة الله حتى جاءهم أمر الله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { لا يَصِرّوا على ما فَعَلُوا وَهُم يَعْلَمُونَ } : أي لم يقيموا على معصيتي ، كفعل من أشرك بي فيما عملوا به من كفر بي .
وقال آخرون : معنى ذلك : لم يواقعوا الذنب إذا هموا به . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : { ولَمْ يُصِرّوا على ما فَعَلُوا } قال : إتيان العبد ذنبا إصرارا حتى يتوب .
حدثني محمد عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ : { وَلَمْ يُصِرّوا على ما فَعَلُوا } قالوا : لم يواقعوا .
وقال آخرون : معنى الإصرار : السكوت على الذنب ، وترك الاستغفار . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { ولم يُصِرّوا على ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ } : أما يصرّوا : فيسكتوا ولا يستغفروا .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندنا قول من قال : الإصرار الإقامة على الذنب عامدا ، أو ترك التوبة منه . ولا معنى لقول من قال : الإصرار على الذنب : هو مواقعته¹ لأن الله عزّ وجلّ مدح بترك الإصرار على الذنب مواقع الذنب ، فقال : { وَالّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّهَ فاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذّنُوبَ إلاّ اللّهُ ولَمْ يُصِرّوا على ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ }¹ ولو كان المواقع الذنب مصرا بمواقعته إياه ، لم يكن للاستغفار وجه مفهوم ، لأن الاستغفار من الذنب إنما هو التوبة منه والندم ، ولا يعرف للاستغفار من ذنب لم يواقعه صاحبه وجه . وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «ما أصَرّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وإنْ عادَ فِي اليَوْمِ سَبْعِينَ مَرّةً » .
حدثني بذلك الحسين بن يزيد السبيعي ، قال : حدثنا عبد الحميد الحماني ، عن عثمان بن واقد ، عن أبي نصيرة ، عن مولى لأبي بكر ، عن أبي بكر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فلو كان مواقع الذنب مصرّا ، لم يكن لقوله «ما أصَرّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وإنْ عادَ فِي اليَوْمِ سَبْعِينَ مَرّةً » معنى ، لأن مواقعة الذنب ، إذا كانت هي الإصرار ، فلا يزيل الاسم الذي لزمه معنى غيره ، كما لا يزيل عن الزاني اسم زان ، وعن القاتل اسم قاتل توبته منه ، ولا معنى غيرها ، وقد أبان هذا الخبر أن المستغفر من ذنبه غير مصرّ عليه ، فمعلوم بذلك أن الإصرار غير الموقعة ، وأنه المقام عليه على ما قلنا قبل .
واختلف أهل التأويل في تأويل قولهم : { وَهْمْ يَعْلَمُونَ } فقال بعضهم : معناه : وهم يعلمون أنهم قد أذنبوا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } : فيعلمون أنهم قد أذنبوا ، ثم أقاموا فلم يستغفروا .
وقال آخرون : معنى ذلك : وهم يعلمون أن الذين أتوا معصية الله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } قال : يعلمون ما حرمت عليهم من عبادة غيري .
{ والذين إذا فعلوا فاحشة } : فعلة بالغة في القبح كالزنى . { أو ظلموا أنفسهم } : بأن أذنبوا أي ذنب كان وقيل الفاحشة الكبيرة وظلم النفس الصغيرة ، ولعل الفاحشة ما يتعدى وظلم النفس ما ليس كذلك . { ذكروا الله } تذكروا وعيده أو حكمه أو حقه العظيم . { فاستغفروا لذنوبهم } : بالندم والتوبة . { ومن يغفر الذنوب إلا الله } : استفهام بمعنى النفي معترض بين المعطوفين ، والمراد به وصفه تعالى بسعة الرحمة وعموم المغفرة والحث على الاستغفار والوعد بقبول التوبة ، { ولم يصروا على ما فعلوا } : ولم يقيموا على ذنوبهم غير مستغفرين لقوله صلى الله عليه وسلم " ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة " . { وهم يعلمون } : حال من يصروا أي ولم يصروا على قبيح فعلهم عالمين به .
ذكر الله تعالى في هذه الآية صنفاً دون الصنف الأول ، فألحقهم بهم برحمته ومنه ، فهؤلاء هم التوابون ، وروي في سبب هاتين الآيتين : أن الصحابة قالوا : يا رسول الله ، كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منا حين كان المذنب منهم يصبح وعقوبته مكتوبة على باب داره ، فأنزل الله هذه الآية توسعة ورحمة وعوضاً من ذلك الفعل ببني إسرائيل ، ويروى أن إبليس بكى حين نزلت هذه الآية{[3544]} ، وروى أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «ما من عبد يذنب ذنباً ثم يقوم فيتطهر ويصلي ركعتين ويستغفر إلا غفر له »{[3545]} ، وقوله { والذين } عطف جملة ناس على جملة أخرى ، وليس { الذين } بنعت كرر معه واو العطف ، لأن تلك الطبقة الأولى تنزه عن الوقوع في الفواحش ، و «الفاحشة » هنا صفة لمحذوف أقيمت الصفة مقامه ، التقدير : فعلوا فعلة فاحشة ، وهو لفظ يعم جميع المعاصي ، وقد كثر اختصاصه بالزنا ، حتى فسر السدي هذه الآية بالزنا ، وقال جابر بن عبد الله لما قرأها : زنى القوم ورب الكعبة ، وقال إبراهيم النخعي : الفاحشة من الظلم ، والظلم من الفاحشة وقال قوم : الفاحشة في هذه الآية إشارة إلى الكبائر ، وظلم النفس إشارة إلى الصغائر ، و { ذكروا الله } معناه : بالخوف من عقابه والحياء منه ، إذ هو المنعم المتطول ومن هذا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : رحم الله صهيباً لو لم يخف الله لم يعصه ، و { استغفروا } معناه : طلبوا الغفران ، واللام معناها : لأجل «ذنوبهم » ، ثم اعترض أثناء الكلام قوله تعالى : { ومن يغفر الذنوب إلا الله } ، اعتراضاً مرققا للنفس ، داعياً إلى الله ، مرجياً في عفوه ، إذا رجع إليه ، وجاء اسم { الله } مرفوعاً بعد الاستثناء والكلام موجب ، حملاً على المعنى ، إذ هو بمعنى وما يغفر الذنوب إلا الله ، وقوله تعالى : { ولم يصروا } الإصرار معناه : اعتزام الدوام على الأمر ، وترك الإقلاع عنه ، ومنه صر الدنانير ، أي الربط عليها ، ومنه قول أبي السمال قعنب العدوي : «علم الله أنها مني صرى » .
يريد : عزيمة . فالإصرار اعتزام البقاء على الذنب ، ومنه قول النبي عليه السلام :< لا توبة مع إصرار>{[3546]} ، وقال أيضاً :< ما أصر من استغفر>{[3547]} ، واختلفت عبارة المفسرين في الإصرار ، فقال قتادة : هو الذي مضى قدماً في الذنب لا تنهاه مخافة الله . وقال الحسن ، إتيان العبد الذنب هو الإصرار حتى يتوب ، وقال مجاهد : { لم يصروا } معناه : لم يمضوا وقال السدي : «الإصرار » هو ترك الاستغفار ، والسكوت عنه مع الذنب{[3548]} ، وقوله تعالى : { وهم يعلمون } قال السدي : معناه وهم يعلمون أنهم قد أذنبوا ، وقال ابن إسحاق : معناه ، وهم يعلمون بما حرمت عليهم ، وقال آخرون : معناه ، وهم يعلمون أن باب التوبة مفتوح لهم وقيل : المعنى ، وهم يعلمون أني أعاقب على الإصرار .