146- فهذا ما حرمناه عليكم . ولقد حرمنا على اليهود أكل اللحم والشحم وغيرهما من كل ما له ظفر من الحيوانات كالإبل والسباع ، وحرمنا عليهم من البقر والغنم شحومهما فقط ، إلا الشحوم التي حملتها ظهورهما ، أو التي توجد على الأمعاء ، أو التي اختلطت بعظم . وهذا التحريم عقاب لهم على ظلمهم ، وفَطْمٌ لنفوسهم من اندفاعها في الشهوات ، وإنا لصادقون في جميع أخبارنا التي منها هذا الخبر .
قوله تعالى : { وعلى الذين هادوا حرمنا } يعني اليهود .
قوله تعالى : { كل ذي ظفر } ، وهو ما لم يكن مشقوق الأصابع من البهائم ، والطير . مثل : البعير ، والنعامة ، والأوز ، والبط ، قال القتيبي : هو كل ذي مخلب من الطير ، وكل ذي حافر من الدواب ، وحكاه عن بعض المفسرين ، وقال : سمي الحافر ظفراً على الاستعارة .
قوله تعالى : { ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما } يعني شحوم الجوف ، وهي الثروب ، وشحم الكليتين .
قوله تعالى : { إلا ما حملت ظهورهما } ، أي : إلا ما علق بالظهر والجنب من داخل بطونهما .
قوله تعالى : { أو الحوايا } ، وهي المباعر ، واحدتها : حاوية وحوية ، أي : ما حملته الحوايا من الشحم .
قوله تعالى : { أو ما اختلط بعظم } ، يعني : شحم الألية ، هذا كله داخل في الاستثناء ، والتحريم مختص بالثرب وشحم الكلية .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا قتيبة ، أنا الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح وهو بمكة : إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير ، والأصنام . فقيل : يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة ، فإنه يطلى بها السفن ، ويدهن بها الجلود ، ويستضيء بها الناس ؟ فقال : لا ، هو حرام .
ثم قال رسول الله عند ذلك : قاتل الله اليهود ، إن الله عز وجل لما حرم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه .
قوله تعالى : { ذلك جزيناهم } ، أي : ذلك التحريم عقوبة لهم .
قوله تعالى : { ببغيهم } ، أي : بظلمهم من قتلهم الأنبياء ، وصدهم عن سبيل الله ، وأخذهم الربا ، واستحلال أموال الناس بالباطل .
قوله تعالى : { وإنا لصادقون } ، في الإخبار عما حرمنا عليهم وعن بغيهم .
فأما اليهود فقد حرم الله عليهم كل ذي ظفر من الحيوان - أي كل حيوان قدمه غير مشقوقة ؛ وذلك كالإبل والنعام والأوز والبط . وحرم كذلك شحم البقر والغنم - إلا شحم الظهر ، أو الدهن الملتف بالأمعاء ، أو ما اختلط منه بالعظم . . وكان ذلك عقوبة لهم على بغيهم بتجاوز أوامر الله وشرائعه :
( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر . ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما - إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم - ذلك جزيناهم ببغيهم ، وإنا لصادقون ) والنص يبين سبب هذا التحريم ، وهو سبب خاص باليهود ، ويؤكد أن هذا هو الصدق ، لا ما يقولونه هم من أن إسرائيل ، وهو يعقوب جدهم ، هو الذي حرم هذا على نفسه فهم يتبعونه فيما حرم على نفسه . . لقد كان هذا مباحا حلالاً ليعقوب . ولكنه حرم عليهم بعد ما بغوا ، فجازاهم الله بهذا الحرمان من الطيبات .
لما ذكر الله عز وجل ما حرم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم أعقب ذلك بذكر ما حرم على اليهود لما في ذلك من تكذيبهم في قولهم إن الله لم يحرم علينا شيئاً وإنما حرمنا على أنفسنا ما حرمه إسرائيل على نفسه ، وقد تقدم القول في سورة البقرة في { هادوا } ومعنى تسميتهم يهوداً ، و { كل ذي ظفر } يراد به الإبل والنعام والإوز ونحوه من الحيوان الذي هو غير منفرج الأصابع وله ظفر ، وقال أبو زيد : المراد الإبل خاصة وهذا ضعيف التخصيص ، وذكر النقاش عن ثعلب أن كل ما لا يصيد فهو ذو ظفر وما يصيد فهو ذو مخلب .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا غير مطرد لأن الأسد ذو ظفر{[5137]} ، وقرأ جمهور الناس «ظُفُر » بضم الظاء والفاء ، وقرأ الحسن والأعرج «ظفْر » بسكون الفاء ، وقرأ أبو السمال قعنب «ظْفر » بكسر الظاء وسكون الفاء .
وأخبرنا الله عز وجل في هذه الآية بتحريم الشحوم على بني إسرائيل وهي الثروب{[5138]} وشحم الكلى وما كان شحماً خالصاً خارجاً عن الاستثناء الذي في الآية .
واختلف العلماء في تحريم ذلك على المسلمين من ذبائح اليهود فحكى ابن المنذر في«الأشراف »عن مالك وغيره منع أكل الشحم من ذبائح اليهود وهو ظاهر المدونة .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا على القول في قوله عز وجل : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } [ المائدة : 5 ] بأنه المطعوم من ذبائحهم وأما ما لا يحل لهم فلا تقع عليه ذكاة بل هو كالدم في ذبائح المسلمين ، وعلى هذا القول يجيء قول مالك رحمه الله في المدونة فيما ذبحه اليهودي مما لا يحل لهم كالجمل والأرنب أنه لا يؤكل .
وروي عن مالك رحمه الله كراهية الشحم من ذبائح أهل الكتاب دون تحريم ، وأباح بعض الناس الشحم من ذبائح أهل الكتاب وذبحهم ما هو عليهم حرام إذا أمرهم بذلك مسلم .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا على أن يجعل قوله { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم }{[5139]} يراد به الذبائح فمتى وقع الذبح على صفته وقعت الإباحة ، وهذا قول ضعيف لأنه جرد لفظة . { وطعام } من معنى أن تكون مطعوماً لأهل الكتاب وخلصها لمعنى الذبح وذلك حرج لا يتوجه ، وأما الطريق{[5140]} فحرمه قوم وكرهه وأباحه قوم وخففه مالك في المدونة ثم رجع إلى منعه ، وقال ابن حبيب ما كان محرماً عليهم وعلمنا ذلك من كتابنا فلا يحل لنا من ذبائحهم ، وما لم نعلم تحريمه إلا من أقوالهم فهو غير محرم علينا من ذبائحهم ، وقوله { إلا ما حملت ظهورهما } يريد ما اختلط باللحم في الظهر والأجناب ونحوه ، قال السدي وأبو صالح : الأليات{[5141]} مما حملت ظهورهما { أو الحوايا } قال هو جمع حوية على وزن فعلية ، فوزن ، «حوايا » على هذا فعائل كسفينة وسفائن ، وقيل هو جمع حاوية على وزن فاعلة ، فحوايا على هذا فواعل كضاربة وضوارب وقيل جمع حاوياء ، فوزنها على هذا أيضاً فواعل كقاصعاء وقواصع وأما «الحوايا » على الوزن الأول فأصلها حوايي فقلب الياء الأخيرة ألفاً فانفتحت لذلك الهمزة ثم بدلت ياء ، وأما على الوزنين الأخيرين فأصل «حوايا » حواوي وبدلت الوو الثانية همزة ، والحوية ما تحوى في البطن واستدار وهي المصارين والحشوة ونحوهما ، وقال مجاهد وقتادة وابن عباس والسدي وابن زيد : «الحوايا » المباعر{[5142]} وقال بعضهم : هي المرابط التي تكون فيها الأمعاء وهي بنات اللبن{[5143]} ، وقوله { أو ما اختلط بعظم } يريد في سائر الشخص ، و { الحوايا } معطوف على { ما } في قوله { إلا ما حملت } فهي في موضع نصب عطفاً على المنصوب بالاستثناء ، وقال الكسائي { الحوايا } معطوف على الظهور ، كأنه قال «إلا ما حملت ظهورهما أو حملت الحوايا » ، وقال بعض الناس { الحوايا } معطوف على الشحوم .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وعلى هذا تدخل { الحوايا } في التحريم ، وهذا قول لا يعضده اللفظ ولا المعنى بل يدفعانه{[5144]} ، وقوله تعالى : { ذلك جزيناهم ببغيهم } ، { ذلك } في موضع رفع و { جزيناهم ببغيهم } يقتضي أن هذا التحريم إنما كان عقوبة لهم على ذنوبهم وبغيهم واستعصائهم على الأنبياء ، وقوله { وإنَّا لصادقون } إخبار يتضمن التعريض بكذبهم في قولهم ما حرم الله علينا شيئاً وإنما اقتدينا بإسرائيل فيما حرم على نفسه ويتضمن إدحاض قولهم ورده عليهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم بين ما حرم على اليهود، فقال: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر}، يعني الإبل، والنعامة، والوز، والبط، وكل شيء له خف وظفر من الدواب والطير، فهو عليهم حرام، {ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما}، وحرم عليهم الشحوم من البقر والغنم، ثم استثنى ما أحل لهم من الشحوم، فقال: {إلا ما حملت ظهورهما}، يعني ظهور البقر والغنم والأكتاف والإلية، {أو الحوايا}، يعني المعى، {أو ما اختلط} من الشحم {بعظم}، فكل هذا حلال لهم، وحرم عليهم شحوم الكليتين والثروب، {ذلك} التحريم، {جزيناهم ببغيهم}، يعني عقوبة بقتلهم الأنبياء وبصدهم عن سبيل الله، وبأكلهم الربا، واستحلالهم أموال الناس بالباطل، فهذا البغي، {وإنا لصادقون} بذلك، وهذا ما أوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم أنه محرم، منه على المسلمين، ومنه على اليهود...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وحرّمنا على اليهود كلّ ذي ظفر، وهو من البهائم والطير ما لم يكن مشقوق الأصابع كالإبل والنعام والإوز والبط...
"وَمِنَ البَقَرِ وَالغَنمِ حَرّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إلاّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما "اختلف أهل التأويل في الشحوم التي أخبر الله تعالى أنه حرّمها على اليهود من البقر والغنم؛ فقال بعضهم: هي شحوم الثروب خاصة...
وقال آخرون: بل ذلك كان كلّ شحم لم يكن مختلطا بعظم ولا على عظم...
وقال آخرون: بل ذلك شحم الثّرْب والكُلى... والصواب في ذلك من القول أن يقال: إن الله أخبر أنه كان حرّم على اليهود من البقر والغنم شحومهما إلا ما استثناه منها مما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم، فكلّ شحم سوى ما استثناه الله في كتابه من البقر والغنم، فإنه كان محرّما عليهم.
وأما قوله: "إلاّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما "فإنه يعني: إلا شحوم الجنب وما علق بالظهر، فإنها لم تحرّم عليهم.
"أوِ الحَوَايا...: والحوايا جمع، واحدها حاوياء وحاوية وحَوِيّة: وهي ما تحوّى من البطن فاجتمع واستدار، وهي بنات اللبن، وهي المباعر، وتسمى المرابض، وفيها الأمعاء.
ومعنى الكلام: ومن البقر والغنم حرّمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو ما حملت الحوايا...
"أوْ ما اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ" يقول تعالى ذكره: ومن البقر والغنم حرّمنا على الذين هادوا شحومهما سوى ما حملت ظهورهما، أو ما حملت حواياهما، فإنا أحللنا ذلك لهم، وإلا ما اختلط بعظم فهو لهم أيضا حلال... وعنى بقوله: "أوْ ما اخْتَلَطَ بِعَظْم" شحم الألية والجنب وما أشبه ذلك...
"ذلكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيهِمْ وَإنّا لَصَادِقُونَ" يقول تعالى ذكره: فهذا الذي حرّمنا على الذين هادوا من الأنعام والطير، ذوات الأظافير غير المنفرجة، ومن البقر والغنم، ما حرّمنا عليهم من شحومهما الذي ذكرنا في هذه الآية، حرّمناه عليهم عقوبة منا لهم، وثوابا على أعمالهم السيئة وبغيهم على ربهم...
وقوله: "وَإنّا لَصَادِقُونَ" يقول: وإنا لصادقون في خبرنا هذا عن هؤلاء اليهود عما حرّمنا عليهم من الشحوم ولحوم الأنعام والطير التي ذكرنا أنا حرّمنا عليهم، وفي غير ذلك من أخبارنا، وهم الكاذبون في زعمهم أن ذلك إنما حرّمه إسرائيل على نفسه وأنهم إنما حرّموه لتحريم إسرائيل إياه على نفسه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
لما ذكر الله عز وجل ما حرم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم أعقب ذلك بذكر ما حرم على اليهود لما في ذلك من تكذيبهم في قولهم إن الله لم يحرم علينا شيئاً وإنما حرمنا على أنفسنا ما حرمه إسرائيل على نفسه، وقد تقدم القول في سورة البقرة في {هادوا} ومعنى تسميتهم يهوداً، و {كل ذي ظفر} يراد به الإبل والنعام والإوز ونحوه من الحيوان الذي هو غير منفرج الأصابع وله ظفر...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
وفي إيلاء هذه الآية -التي فيها ما حرم على اليهود- لما قبلها مع الوفاء بالمقصود من حصر محرمات المطاعم على هذه الأمة وغيرها أمران جليلان: أحدهما بيان اطلاعه صلى الله عليه وسلم على تفصيل ما أوحي إلي من تقدمه ولما يشامم أحداً من أتباعهم ولا دارس عالماً ولا درس علماً قط، فلا دليل على صدقه على الله أعظم من ذلك، والثاني تفضيله هذه الأمة بأنه أحل لها الخبائث عند الضرورة رحمة لهم، وأزال عنها في تلك الحالة ضرها ولم يفعل بها كما فعل باليهود في أنه حرم عليهم طائفة من الطيبات ولم يحلها لهم في حال من الأحوال عقوبة لهم، وفي ذلك أتم تحذير لهذه الأمة من أن يبغوا فيعاقبوا كما عوقب من قبلهم على ما نبه عليه في قوله {غير محلي الصيد وأنتم حرم} [المائدة: 1] فبان الصدق وحصحص الحق ولم يبق لمتعنت كلام، فحسن جداً ختم ذلك بقوله {وإنا لصادقون} أي ثابت صدقنا أزلاً وأبداً كما اقتضاه ما لنا من العظمة،...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ثم بين تعالى ما حرمه على بني إسرائيل خاصة عقوبة لهم لا على أنه من أصول شرعه على ألسنة رسله قبلهم أو بعدهم فكان من الملحق بالمستثنى في الآية بالعطف عليه، فإنه بعد نفي تحريم أي طعام على أي طاعم استثنى من هذا العام ما حرمه تحريما عاما مؤبدا على غير المضطر، ثم ما حرمه تحريما عارضا على قوم معينين لسبب خاص إلى أن يجيء رسول آخر يبيحه لهم باتباعهم إياه وهو قوله عز وجل:
{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُر} الذين هادوا هم اليهود من قولهم الآتي في سورة الأعراف {إنا هدنا إليك} (الأعراف 156) أي رجعنا وتبنا، وأصل الهود الرجوع برفق قاله الراغب. أي على الذين هادوا دون غيرهم من أتباع الرسل حرمنا فوق ما ذكر من الأنواع الأربعة "كل ذي ظفر "وقولنا دون غيرهم هو ما يدل عليه تقديم المعمول على عامله. والظفر من الأصابع معروف ويكون للإنسان وغيره من طائر وغيره، ولذلك فسروا المخلب بظفر سباع الوحش والطير، فالظفر عام والمخلب خاص بما يصيد كالبرثن للسبع...
{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِم} الإشارة إلى التحريم أو الجزاء المأخوذ من فعله أي جزيناهم إياه بسبب بغيهم وظلمهم، قال قتادة في تفسير هذه الجملة: إنما حرم الله ذلك عليهم عقوبة بغيهم فشدد عليهم بذلك وما هو بخبيث، وقد سبق تفصيل القول في ذلك في تفسير آية (كل الطعام) أول الجزء الرابع وتفسير {فبظلم من الذين هادوا} في أواخر سورة النساء من أوائل الجزء السادس.
ولما كان هذا الخبر عن شريعة اليهود من الأنباء التي لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ولا قومه يعلمون منها شيئا لأميتهم وكان مظنة تكذيب المشركين لعدم إيمانهم بالوحي وجزمهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس بأعلم منهم بشرع اليهود، ومظنة تكذيب اليهود أن تحريم الله تعالى ذلك عليهم عقوبة لهم ببغيهم وظلمهم المبين في آيات أخرى، قال تعالى بعده {وِإِنَّا لَصَادِقُونَ} فأكد حقية الخبر وصدق المخبر بإنّ والجملة الاسمية المعرفة الطرفين ولام القسم، أي صادقون في هذه الأخبار عن التحريم وعلته لأن أخبارنا صادرة عن العلم المحيط بكل شيء والكذب محال علينا لاستحالة كل نقص على الخالق.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{وعلى الذين هادوا حرمنا}...واذكُرْ لهم ما حرّمنا على الّذين هادوا قبل الإسلام، والمناسبة أنّ الله لمّا أمر نبيّه عليه الصلاة والسلام أن يبيّن ما حَرّم الله أكله من الحيوان، وكان في خلال ذلك تنبيه على أنّ ما حرّمه الله خبيث بعضُه لا يصلح أكله بالأجساد الّذي قال فيه {فإنه رجس} [الأنعام: 145]، ومنه ما لا يلاقي واجب شكر الخالق وهو الّذي قال فيه: {أو فِسقاً أهل لغير الله به} [الأنعام: 145] أعقب ذلك بذكر ما حرّمه على بني إسرائيل تحريماً خاصّاً لحكمة خاصّة بأحوالهم، وموقَّتة إلى مجيء الشّريعة الخاتمة. والمقصود من ذكر هذا الأخير: أن يظهر للمشركين أنّ ما حرّموه ليس من تشريع الله في الحال ولا فيما مضى، فهو ضلال بحت. وتقديم المجرور على متعلَّقة في قوله: {وعلى الذين هادوا حرمنا} لإفادة الاختصاص، أي عليهم لا على غيرهم من الأمم.
والظفر: العظم الذي تحت الجلد في منتهى أصابع الإنسان والحيوان والمخالب، وهو يقابل الحافر والظلف ويكون للإبل والسّبع والكلب والهرّ والأرنب والوبْر ونحوها؛ فهذه محرّمة على اليهود بنص شريعة موسى عليه السّلام... والشّحوم: جمع شحم، وهو المادّة الدُهنية التي تكون مع اللّحم في جسد الحيوان، وقد أباح الله لليهود أكل لحوم البقر والغنم وحرم عليهم شحومهما إلاّ ما كان في الظهر.
و {الحوايا} معطوف على {ظهورهما}. فالمقصود العطف على المباح لا على المحرّم، أي: أو ما حملت الحوايا، وهي جمع حَوِيَّة، وهي الأكياس الشَّحميّة التي تحوي الأمعاء.
{أو ما اختلط بعظم} هو الشّحم الذي يكون ملتفّاً على عَظْم الحيوان من السِّمَن فهو معفو عنه لعسر تجريده عن عظمه.
والظّاهر أنّ هذه الشّحوم كانت محرّمة عليهم بشريعة موسى عليه السّلام، فهي غير المحرّمات التي أجملتها آية سورة النّساء (160) بقوله تعالى: {فبظلم من الذين هادوا حرّمنا عليهم طيّبات أحلّت لهم، كما أشرنا إليه هنالك لأنّ الجرائم التي عدّت عليهم هنالك كلّها ممّا أحدثوه بعد موسى عليه السّلام. فقوله تعالى: ذلك جزيناهم ببغيهم} يراد منه البغي الذي أحدثوه زمن موسى. في مدّة التيه، ممّا أخبر الله به عنهم: مثل قولهم: {لن نصبِرَ على طعام واحد} [البقرة: 61] وقولهم: {فاذْهَب أنت وربّك فقاتلا} [المائدة: 24] وعبادتِهم العِجْل. وقد عدّ عليهم كثير من ذلك في سورة البقرة.
ومناسبة تحريم هذه المحرّمات للكون جزاءً لبغيهم: أنّ بغيهم نشأ عن صلابة نفوسهم وتغلّب القوّة الحيوانيّة فيهم على القوّة المَلكيّة، فلعلّ الله حرّم عليهم هذه الأمور تخفيفاً من صلابتهم، وفي ذلك إظهار منَّته على المسلمين بإباحة جميع الحيوان لهم إلاّ ما حرّمه القرآن وحرّمتْه السنّة ممّا لم يختلف فيه العلماء وما اختلفوا فيه.
ولم يذكر الله تحريم لحم الخنزير، مع أنَّه ممّا شمله نصّ التّوراة، لأنَّه إنَّما ذكر هنا ما خُصّوا بتحريمه ممّا لم يحرّم في الإسلام، أي ما كان تحريمه موقَّتاً.
وتقديم المجرور على عامله في قوله: {ومن البقر والغنم حرمنا عليهم} للاهتمام ببيان ذلك، لأنَّه ممّا يلتفت الذّهن إليه عند سماع تحريم كلّ ذي ظُفُر فيترقّب الحكم بالنّسبة إليهما فتقديم المجرور بمنزلة الافتتاح ب (أمَّا).
وجملة: {ذلك جزيناهم ببغيهم} تذييل يبيِّن علّة تحريم ما حرّم عليهم.
واسم الإشارة في قوله: {ذلك جزيناهم} مقصود به التّحريم المأخوذ من قوله: {حرمنا} فهو في موضع مفعول ثان: ل {جزيناهم} قدّم على عامله ومفعولِه الأوّل للاهتمام به والتَّثبيت على أنّ التّحريم جزاء لبغيهم.
وجملة: {وإنا لصادقون} تذييل للجملة التي قبلها قصداً لتحقيق أنّ الله حرّم عليهم ذلك، وإبطالاً لقولهم: إنّ الله لم يحرّم علينا شيئاً وإنَّما حرّمنا ذلك على أنفسنا اقتداء بيعقوب فيما حرّمه على نفسه لأنّ اليهود لمّا انتبزوا بتحريم الله عليهم ما أحلّه لغيرهم مع أنَّهم يزعمون أنَّهم المقرّبون عند الله دون جميع الأمم، أنكروا أن يكون الله حرّم عليهم ذلك وأنَّه عقوبة لهم فكانوا يزعمون أنّ تلك المحرّمات كان حرّمها يعقوب على نفسه نذراً لله فاتَّبعه أبناؤه اقتداء به. وليس قولهم بحقّ: لأنّ يعقوب إنَّما حرّم على نفسه لحوم الإبل وألبانها، كما ذكره المفسّرون وأشار إليه قوله تعالى: {كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزّل التوراة} في سورة آل عمران (93). وتحريم ذلك على نفسه لنذر أو مصلحة بدنية لا يسري إلى من عداه من ذرّيته. وأنّ هذه الأشياء التي ذكر الله تحريمها على بني إسرائيل مذكور تحريمها في التّوراة فكيف ينكرون تحريمها.
فالتّأكيد للردّ على اليهود ونظيرُ قوله هنا: {وإنَّا لصادقون} قولُه في سورة آل عمران (93). عقب قوله: {كلّ الطعام كان حلا لبني إسرائيل. قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين} إلى قوله: {قل صدق الله} [آل عمران: 93 95].