275- الذين يتعاملون بالربا لا يكونون في سعيهم وتصرفهم وسائر أحوالهم إلا في اضطراب وخلل ، كالذي أفسد الشيطان عقله فصار يتعثر من الجنون الذي أصابه ، لأنهم يزعمون أن البيع مثل الربا في أن كلا منهما فيه معاوضة وكسب . فيجب أن يكون كلاهما حلالا ، وقد رد الله عليهم زعمهم فبين لهم أن التحليل والتحريم ليس من شأنهم ، وأن التماثل الذي زعموه ليس صادقاً ، والله قد أحل البيع وحرم الربا ، فمن جاءه أمر ربه بتحريم الربا واهتدى به ، فله ما أخذه من الربا قبل تحريمه ، وأمره موكول إلى عفو الله . ومن عاد إلى التعامل بالربا باستحلاله بعد تحريمه ، فأولئك يلازمون النار خالدين فيها{[28]} .
قوله تعالى : { الذين يأكلون الربا } . أي يعاملون به ، وإنما خص الأكل لأنه معظم المقصود من المال .
قوله تعالى : { لا يقومون } . يعني يوم القيامة من قبورهم .
قوله تعالى : { إلا كما يقوم الذي يتخبطه } . أي يصرعه .
قوله تعالى : { الشيطان } . أصل الخبط الضرب والوطء ، وهو ضرب على غير استواء يقال : ناقة خبوط للتي تطأ الناس وتضرب الأرض بقوائمها .
قوله تعالى : { من المس } . أي الجنون يقال : مس الرجل فهو ممسوس إذا كان مجنوناً ، ومعناه : أن آكل الربا يبعث يوم القيامة وهو كمثل المصروع .
أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا عبد الله بن حامد ، أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف ، أخبرنا عبد الله ابن يحيى ، أخبرنا يعقوب بن سفيان ، أخبرنا إسماعيل بن سالم ، أخبرنا عباد بن عباد ، عن أبي هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة الإسراء قال : " فانطلق بي جبريل عليه السلام إلى رجال كثير ، كل رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم منضدين على سابلة آل فرعون ، وآل فرعون يعرضون على النار غدواً وعشياً ، قال : فيقبلون مثل الإبل المنهومة يخبطون الحجارة والشجر ، لا يسمعون ولا يعقلون ، فإذا أحس بهم أصحاب تلك البطون قاموا ، فتميل بهم بطونهم فيصرعون ، ثم يقوم أحدهم فيميل أحدهم فيميل به بطنه فيصرع ، فلا يستطيعون أن يبرحوا حتى يغشاهم آل فرعون فيردوهم مقبلين ومدبرين ، فذلك عذابهم في البرزخ بين الدنيا والآخرة قال : وآل فرعون يقولون : اللهم لا تقم الساعة أبداً ، قال ويوم القيامة يقال : ( أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ) قلت : يا جبريل من هم هؤلاء ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " .
قوله تعالى : { ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا } . أي ذلك الذي نزل بهم لقولهم هذا ، واستحلالهم إياه ، وذلك أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا حل ماله على غريمه فطالبه به فيقوم به فيقول الغريم لصاحب الحق : زدني في الأجل حتى أزيدك في المال ؟ فيفعلان ذلك ، ويقولون سواء علينا الزيادة في أول البيع بالربح ، أو عند المحل لأجل التأخير فكذبهم الله تعالى .
قوله تعالى : { وأحل الله البيع وحرم الربا } . واعلم أن الربا في اللغة الزيادة قال الله تعالى( وما آتيتم من رباً ليربو في أموال الناس ) أي ليكثر . ( فلا يربو عند الله ) فطلب الزيادة بطريق التجارة غير حرام في الجملة ، إنما المحرم زيادة على صفة مخصوصة ، في مال مخصوص بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا عبد الوهاب ، عن أيوب بن أبي تميمة ، عن محمد بن سيرين ، عن مسلم بن يسار ورجل آخر ، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تبيعوا الذهب بالذهب ، ولا الورق بالورق ، ولا البر بالبر ، ولا الشعير بالشعير ولا التمر بالتمر ولا الملح بالملح إلا سواء بسواء ، عيناً بعين ، يداً بيد ، ولكن بيعوا الذهب بالورق ، والورق بالذهب ، والبر بالشعير ، والشعير بالبر ، والتمر بالملح ، والملح بالتمر يداً بيد ، كيف شئتم ، ونقص أحدهم الملح أو التمر وزاد أحدهما : ومن زاد أو استزاد فقد أربى " . وروي هذا الحديث من طرق محمد بن سيرين ، عن مسلم بن يسار ، و عبد الله بن عتيك عن عبادة .
فالنبي صلى الله عليه وسلم نص على ستة أشياء ، وذهب عامة أهل العلم إلى أن حكم الربا يثبت في هذه الأشياء الست بالأوصاف فيها فيتعدى إلى كل مال توجد فيه تلك الأوصاف ، ثم اختلفوا في تلك الأوصاف ، فذهب قوم : إلى أن المعنى في جميعها واحد ، وهو النفع وأثبتوا الربا في جميع الأموال ، وذهب الأكثرون إلى أن الربا يثبت في الدراهم والدنانير بوصف ، وفي الأشياء المطعومة بوصف آخر ، واختلفوا في ذلك الوصف فقال قوم : ثبت في الدراهم والدنانير بوصف ، النقدية ، وهو قول مالك والشافعي ، وقال قوم : ثبت بعلة الوزن وهو قول أصحاب الرأي ، وأثبتوا الربا في جميع الموزونات مثل الحديد والنحاس والقطن ونحوها . وأما الأشياء الأربعة فذهب قوم إلى أن الربا ثبت فيها بعلة الكيل ، وهو قول أصحاب الرأي ، وأثبتوا الربا في جميع المكيلات مطعوماً كان أو غير مطعوم ، كالجص والنورة ونحوها ، وذهب جماعة إلى أن العلة فيها الطعم مع الكيل والوزن ، فكل مطعوم وهو مكيل أو موزون يثبت فيه الربا ، ولا يثبت فيما ليس بمكيل ولا موزون ، وهو قول سعيد بن المسيب ، وقاله الشافعي رحمه الله في القديم ، وقال في الجديد : يثبت فيها الربا بوصف الطعم ، وأثبت الربا في جميع الأشياء المطعومة من الثمار والفواكه والبقول والأدوية مكيلة أو موزونة ، لما روي عن معمر بن عبد الله قال : كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " الطعام بالطعام مثلاً بمثل " . فجملة مال الربا عند الشافعي ما كان ثمناً أو مطعوماً .
والربا نوعان : ربا الفضل ، وربا النساء ، فإذا باع مال الربا بجنسه مثلاً بمثل بأن باع أحد النقدين بجنسه أو باع مطعوماً بجنسه كالحنطة بالحنطة ، ونحوها يثبت فيه كلا نوعي الربا حتى لا يجوز إلا متساويين في معيار الشرع ، فإن كان موزوناً كالدراهم والدنانير ، فيشترط المساواة في الوزن ، وإن كان مكيلاً كالحنطة والشعير ، بيع بجنسه ، فيشترط المساواة في الكيل ويشترط التقابض في مجلس العقد ، وإذا باع مال الربا بغير جنسه نظر : إن باع بما لا يوافقه في وصف الربا مثل أن باع مطعوما بأحد النقدين فلا ربا فيه ، كما لو باعه بما يوافقه في الوصف ، مثل أن باع الدراهم بالدنانير أو باع الحنطة بالشعير أو باع مطعوماً بمطعوم آخر من غير جنسه فلا يثبت فيه ربا الفضل حتى يجوز متفاضلاً أو جزافاً ، ويثبت فيه ربا النساء حتى يشترط التقابض في المجلس ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تبيعوا الذهب بالذهب ، إلى أن قال إلا سواء بسواء " فيه إيجاب المماثلة ، وتحريم الفضل عند اتفاق الجنس ، وقوله عيناً بعين فيه تحريم النساء ، وقوله يداً بيد كيف شئتم فيه إطلاق التفاضل عند اختلاف الجنس مع إيجاب التقابض في المجلس ، هذا في ربا المبايعة . ومن أقرض شيئاً بشرط أن يرد عليه أفضل فهو قرض جر منفعة ، وكل قرض جر منفعة فهو ربا .
قوله تعالى : { فمن جاءه موعظة من ربه } . تذكير وتخويف ، وإنما ذكر الفعل رداً إلى الوعظ .
قوله تعالى : { فانتهى } . عن أكل الربا .
قوله تعالى : { فله ما سلف } . أي ما مضى من ذنبه قبل النهي مغفور له .
قوله تعالى : { وأمره إلى الله } . بعد النهي إن شاء عصمه حتى يثبت على الانتهاء ، وإن شاء خذله حتى يعود ، وقيل : أمره إلى الله فيما يأمره وينهاه ويحل له وحرم عليه وليس إليه من أمر نفسه شيء .
قوله تعالى : { ومن عاد } . بعد التحريم إلى أكل الربا مستحلاً له .
قوله تعالى : { فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا محمد بن المثنى حدثني غندر ، أخبرنا شعبة عن عوف بن أبي جحيفة ، عن أبيه أنه قال : " إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الدم ، وثمن الكلب وكسب البغي ، ولعن آكل الربا وموكله والواشمة والمستوشمة والمصور " .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أخبرنا مسلم بن الحجاج ، أخبرنا زهير بن حرب ، أخبرنا هشيم أخبرنا أبو الزبير عن جابر رضي الله عنه قال : " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه ، وقال : هم سواء " .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنا أبو محمد المخلدي ، أنا أبو حامد بن الشرقي ، أخبرنا أحمد بن يوسف السلمي ، أخبرنا النضر بن محمد ، أخبرنا عكرمة بن عمار ، أخبرنا يحيى هو ابن أبي كثير قال : حدثني أبو سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الربا سبعون باباً ، أهونها عند الله عز وجل كالذي ينكح أمه } .
( الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس . ذلك بأنهم قالوا : إنما البيع مثل الربا . وأحل الله البيع وحرم الربا . فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله . ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . يمحق الله الربا ويربي الصدقات . والله لا يحب كل كفار أثيم ) . .
إنها الحملة المفزعة ، والتصوير المرعب :
( لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ) . .
وما كان أي تهديد معنوي ليبلغ إلى الحس ما تبلغه هذه الصورة المجسمة الحية المتحركة . . صورة الممسوسالمصروع . . وهي صورة معروفة معهودة للناس . فالنص يستحضرها لتؤدي دورها الإيحائي في إفزاع الحس ، لاستجاشة مشاعر المرابين ، وهزها هزة عنيفة تخرجهم من مألوف عادتهم في نظامهم الاقتصادي ؛ ومن حرصهم على ما يحققه لهم من الفائدة . . وهي وسيلة في التأثير التربوي ناجعة في مواضعها . بينما هي في الوقت ذاته تعبر عن حقيقة واقعة . . ولقد مضت معظم التفاسير على أن المقصود بالقيام في هذه الصورة المفزعة ، هو القيام يوم البعث . ولكن هذه الصورة - فيما نرى - واقعة بذاتها في حياة البشرية في هذه الأرض أيضا . ثم إنها تتفق مع ما سيأتي بعدها من الإنذار بحرب من الله ورسوله . ونحن نرى أن هذه الحرب واقعة وقائمة الآن ومسلطة على البشرية الضالة التي تتخبط كالممسوس في عقابيل النظام الربوي . وقبل أن نفصل القول في مصداق هذه الحقيقة من واقع البشرية اليوم نبدأ بعرض الصورة الربوية التي كان يواجهها القرآن في الجزيرة العربية ؛ وتصورات أهل الجاهلية عنها . .
إن الربا الذي كان معروفا في الجاهلية والذي نزلت هذه الآيات وغيرها لإبطاله ابتداء كانت له صورتان رئيسيتان : ربا النسيئة . وربا الفضل .
فأما ربا النسيئة فقد قال عنه قتادة : " إن ربا أهل الجاهلية يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى ، فإذا حل الأجل ، ولم يكن عند صاحبه قضاء زاده وأخر عنه " .
وقال مجاهد " كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدين ، فيقول : لك كذا وكذا وتؤخر عني فيؤخر عنه " .
وقال أبو بكر الجصاص : " إنه معلوم أن ربا الجاهلية إنما كان قرضا مؤجلا بزيادة مشروطة . فكانت الزيادة بدلا من الأجل . فأبطله الله تعالى " . .
وقال الإمام الرازي في تفسيره : " إن ربا النسيئة هو الذي كان مشهورا في الجاهلية . لأن الواحد منهم كان يدفع ماله لغيره إلى أجل ، على أن يأخذ منه كل شهر قدرا معينا ، ورأس المال باق بحاله . فإذا حل طالبه برأس ماله . فإن تعذر عليه الأداء زاده في الحق والأجل " .
وقد ورد في حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - أن النبي [ ص ] قال : " لا ربا إلا في النسيئة " . .
أما ربا الفضل فهو أن يبيع الرجل الشيء بالشيء من نوعه مع زيادة . كبيع الذهب بالذهب . والدراهم بالدراهم . والقمح بالقمح . والشعير بالشعير . . وهكذا . . وقد ألحق هذا النوع بالربا لما فيه من شبه به ؛ ولما يصاحبه من مشاعر مشابهة للمشاعر المصاحبة لعملية الربا . . وهذه النقطة شديدة الأهمية لنا في الكلام عن العمليات الحاضرة !
عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله [ ص ] " الذهب بالذهب والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح . . مثلا بمثل . . يدا بيد . . فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء " . .
وعن أبي سعيد الخدري أيضا قال : جاء بلال إلى النبي [ ص ] بتمر برني فقال له النبي [ ص ] " من أين هذا ؟ " قال : كان عندنا تمر رديء فبعت منه صاعين بصاع . فقال : " أوه ! عين الربا . عين الربا . لا تفعل . ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ، ثم اشتر به " .
فأما النوع الأول فالربا ظاهر فيه لا يحتاج إلى بيان ، إذ تتوافر فيه العناصر الأساسية لكل عملية ربوية . وهي : الزيادة على أصل المال . والأجل الذي من أجله تؤدى هذه الزيادة . وكون هذه الفائدة شرطا مضمونا في التعاقد . أي ولادة المال للمال بسبب المدة ليس إلا . .
وأما النوع الثاني ، فما لا شك فيه أن هناك فروقا أساسية في الشيئين المتماثلين هي التي تقتضي الزيادة . وذلك واضح في حادثة بلال حين أعطى صاعين من تمره الرديء وأخذ صاعا من التمر الجيد . . ولكن لأن تماثل النوعين في الجنس يخلق شبهة أن هناك عملية ربوية ، إذ يلد التمر التمر ! فقد وصفه [ ص ] بالربا . ونهى عنه . وأمر ببيع الصنف المراد استبداله بالنقد . ثم شراء الصنف المطلوب بالنقد أيضا . إبعادا لشبح الربا من العملية تماما !
وكذلك شرط القبض : " يدا بيد " . . كي لا يكون التأجيل في بيع المثل بالمثل ، ولو من غير زيادة ، فيه شبح من الربا ، وعنصر من عناصره !
إلى هذا الحد بلغت حساسية الرسول [ ص ] بشبح الربا في أية عملية . وبلغت كذلك حكمته في علاج عقلية الربا التي كانت سائدة في الجاهلية .
فأما اليوم فيريد بعض المهزومين أمام التصورات الرأسمالية الغربية والنظم الرأسمالية الغربية أن يقصروا التحريم على صورة واحدة من صور الربا - ربا النسيئة - بالاستناد إلى حديث أسامة ، وإلى وصف السلف للعمليات الربوية في الجاهلية . وأن يحلوا - دينيا - وباسم الإسلام ! - الصور الأخرى المستحدثة التي لا تنطبق في حرفية منها على ربا الجاهلية !
ولكن هذه المحاولة لا تزيد على أن تكون ظاهرة من ظواهر الهزيمة الروحية والعقلية . . فالإسلام ليس نظام شكليات . إنما هو نظام يقوم على تصور أصيل . فهو حين حرم الربا لم يكن يحرم صورة منه دون صورة . إنما كان يناهض تصورا يخالف تصوره ؛ ويحارب عقلية لا تتمشى مع عقليته . وكان شديد الحساسية في هذا إلى حد تحريم ربا الفضل إبعادا لشبح العقلية الربوية والمشاعر الربوية من بعيد جدا !
ومن ثم فإن كل عملية ربوية حرام . سواء جاءت في الصور التي عرفتها الجاهلية أم استحدثت لها أشكال جديدة . ما دامت تتضمن العناصر الأساسية للعملية الربوية ، أو تتسم بسمة العقلية الربوية . . وهي عقلية الأثرة والجشع والفردية والمقامرة . وما دام يتلبس بها ذلك الشعور الخبيث . شعور الحصول على الربح بأية وسيلة !
فينبغي أن نعرف هذه الحقيقة جيدا . ونستيقن من الحرب المعلنة من الله ورسوله على المجتمع الربوي .
( الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ) . .
والذين يأكلون الربا ليسوا هم الذين يأخذون الفائدة الربوية وحدهم - وإن كانوا هم أول المهددين بهذا النص الرعيب - إنما هم أهل المجتمع الربوي كلهم .
عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أنه قال : لعن رسول الله [ ص ] آكل الربا وموكله ، وشاهديه وكاتبه ، وقال : " هم سواء " . .
وكان هذا في العمليات الربوية الفردية . فأما في المجتمع الذي يقوم كله على الأساس الربوي فأهله كلهم ملعونون . معرضون لحرب الله . مطرودون من رحمته بلا جدال .
إنهم لا يقومون في الحياة ولا يتحركون إلا حركة الممسوس المضطرب القلق المتخبط الذي لا ينال استقرارا ولا طمأنينة ولا راحة . . وإذا كان هناك شك في الماضي أيام نشأة النظام الرأسمالي الحديث في القرون الأربعة الماضية ، فإن تجربة هذه القرون لا تبقي مجالا للشك أبدا . .
إن العالم الذي نعيش فيه اليوم - في أنحاء الأرض - هو عالم القلق والاضطراب والخوف ؛ والأمراض العصبية والنفسية - باعتراف عقلاء أهله ومفكريه وعلمائه ودارسيه ، وبمشاهدات المراقبين والزائرين العابرين لأقطار الحضارة الغربية . . وذلك على الرغم من كل ما بلغته الحضارة المادية ، والإنتاج الصناعي في مجموعه من الضخامة في هذه الأقطار . وعلى الرغم من كل مظاهر الرخاء المادي التي تأخذ بالأبصار . . ثم هو عالم الحروب الشاملة والتهديد الدائم بالحروب المبيدة ، وحرب الأعصاب ، والاضطرابات التي لا تنقطع هنا وهناك !
إنها الشقوة البائسة المنكودة ، التي لا تزيلها الحضارة المادية ، ولا الرخاء المادي ، ولا يسر الحياة المادية وخفضها ولينها في بقاع كثيرة . وما قيمة هذا كله إذا لم ينشىء في النفوس السعادة والرضى والاستقرار والطمأنينة ؟
إنها حقيقة تواجه من يريد أن يرى ؛ ولا يضع على عينيه غشاوة من صنع نفسه كي لا يرى ! حقيقة أن الناس في أكثر بلاد الأرض رخاء عاما . . في أمريكا ، وفي السويد ، وفي غيرهما من الأقطار التي تفيض رخاء ماديا . . إن الناس ليسوا سعداء . . أنهم قلقون يطل القلق من عيونهم وهم أغنياء ! وأن الملل يأكل حياتهم وهم مستغرقون في الإنتاج ! وأنهم يغرقون هذا الملل في العربدة والصخب تارة . وفي " التقاليع " الغريبة الشاذة تارة . وفي الشذوذ الجنسي والنفسي تارة . ثم يحسون بالحاجة إلى الهرب . الهرب من أنفسهم . ومن الخواء الذي يعشش فيها ! ومن الشقاء الذي ليس له سبب ظاهر من مرافق الحياة وجريانها . فيهربون بالانتحار . ويهربون بالجنون . ويهربون بالشذوذ ! ثم يطاردهم شبح القلق والخواء والفراغ ولا يدعهم يستريحون أبدا ! لماذا ؟
السبب الرئيسي طبعا هو خواء هذه الأرواح البشرية الهائمة المعذبة الضالة المنكودة - على كل ما لديها من الرخاء المادي - من زاد الروح . . من الإيمان . . من الاطمئنان إلى الله . . وخواؤها من الأهداف الإنسانية الكبيرة التي ينشئها ويرسمها الإيمان بالله ، وخلافة الأرض وفق عهده وشرطه .
ويتفرع من ذلك السبب الرئيسي الكبير . . بلاء الربا . . بلاء الاقتصاد الذي ينمو ولكنه لا ينمو سويا معتدلا بحيث تتوزع خيرات نموه وبركاتها على البشرية كلها . إنما ينمو مائلا جانحا إلى حفنة الممولين المرابين ، القابعين وراء المكاتب الضخمة في المصارف ، يقرضون الصناعة والتجارة بالفائدة المحددة المضمونة ؛ ويجبرون الصناعة والتجارة على أن تسير في طريق معين ليس هدفه الأول سد مصالح البشر وحاجاتهم التي يسعد بهاالجميع ؛ والتي تكفل عملا منتظما ورزقا مضمونا للجميع ؛ والتي تهيء طمأنينة نفسية وضمانات اجتماعية للجميع . . ولكن هدفه هو انتاج ما يحقق أعلى قدر من الربح - ولو حطم الملايين وحرم الملايين وأفسد حياة الملايين ، وزرع الشك والقلق والخوف في حياة البشرية جميعا !
وصدق الله العظيم : ( الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ) . . وها نحن أولاء نرى مصداق هذه الحقيقة في واقعنا العالمي اليوم !
ولقد اعترض المرابون في عهد رسول الله [ ص ] على تحريم الربا . اعترضوا بأنه ليس هناك مبرر لتحريم العمليات الربوية وتحليل العمليات التجارية :
( ذلك بأنهم قالوا : إنما البيع مثل الربا . وأحل الله البيع وحرم الربا ) . .
وكانت الشبهة التي ركنوا إليها ، هي أن البيع يحقق فائدة وربحا ، كما أن الربا يحقق فائدة وربحا . . وهي شبهة واهية . فالعمليات التجارية قابلة للربح وللخسارة . والمهارة الشخصية والجهد الشخصي والظروف الطبيعية الجارية في الحياة هي التي تتحكم في الربح والخسارة . أما العمليات الربوية فهي محددة الربح في كل حالة . وهذا هو الفارق الرئيسي . وهذا هو مناط التحريم والتحليل . .
إن كل عملية يضمن فيها الربح على أي وضع هي عملية ربوية محرمة بسبب ضمان الربح وتحديده . . ولا مجال للمماحلة في هذا ولا للمداورة !
( وأحل الله البيع وحرم الربا ) . . .
لانتفاء هذا العنصر من البيع ؛ ولأسباب أخرى كثيرة تجعل عمليات التجارة في أصلها نافعة للحياة البشرية ؛ وعمليات الربا في أصلها مفسدة للحياة البشرية . .
وقد عالج الإسلام الأوضاع التي كانت حاضرة في ذلك الزمان معالجة واقعية ؛ دون أن يحدث هزة اقتصادية واجتماعية :
( فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ) . .
لقد جعل سريان نظامه منذ ابتداء تشريعه . فمن سمع موعظة ربه فانتهى فلا يسترد منه ما سلف أن أخذه من الربا وأمره فيه إلى الله ، يحكم فيه بما يراه . . وهذا التعبير يوحي للقلب بأن النجاة من سالف هذا الإثم مرهونة بإرادة الله ورحمته ؛ فيظل يتوجس من الأمر ؛ حتى يقول لنفسه : كفاني هذا الرصيد من العمل السيىء ، ولعل الله أن يعفيني من جرائره إذا أنا انتهيت وتبت . فلا أضف إليه جديدا بعد ! . . وهكذا يعالج القرآن مشاعر القلوب بهذا المنهج الفريد .
( ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) . .
وهذا التهديد بحقيقة العذاب في الآخرة يقوي ملامح المنهج التربوي الذي أشرنا إليه ، ويعمقه في القلوب ؛
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 275 )
وقوله عز وجل : { الذين يأكلون الربا } الآية ، { الربا } هوالزيادة وهو مأخوذ من ربا يربو إذا نما وزاد على ما كان ، وغالبه ما كانت العرب تفعله من قولها للغريم أتقضي أم تربي ؟ فكان الغريم يزيد في عدد المال ، ويصبر الطالب عليه( {[2705]} ) ، ومن الربا البين التفاضل في النوع الواحد لأنها زيادة ، وكذلك أكثر البيوع الممنوعة إنما تجد منعها لمعنى زيادة إما في عين مال ، وإما في منفعة لأحدهما من تأخير ونحوه( {[2706]} ) ، ومن البيوع ما ليس فيه معنى الزيادة كبيع الثمرة قبل بدو صلاحها ، وكالبيع ساعة النداء يوم الجمعة ، فإن قيل لفاعلها : آكل ربا فبتجوز وتشبيه ، والربا من ذوات الواو ، وتثنيته ربوان عند سيبويه ، ويكتب الألف . قال الكوفيون : يكتب( {[2707]} ) ويثنى بالياء لأجل الكسرة التي في أوله . وكذلك يقولون في الثلاثية من ذوات الواو إذا انكسر الأول أو انضم ، نحو ضحى ، فإن كان مفتوحاً نحو صفا فكما قال البصري .
ومعنى هذه الآية : الذين يكسبون الربا ويفعلونه ، وقصد إلى لفظة الأكل لأنها أقوى مقاصد الإنسان في المال ، ولأنها دالة على الجشع ، فأقيم هذا البعض من توابع الكسب مقام الكسب كله ، فاللباس والسكنى والادخار والإنفاق على العيال وغير ذلك داخل كله في قوله : { الذي يأكلون }( {[2708]} ) ، وقال ابن عباس رضي الله عنه مجاهد وابن جبير وقتادة والربيع والضحاك والسدي وابن زيد : معنى قوله : { لا يقومون } من قبورهم في البعث يوم القيامة ، قال بعضهم : يجعل معه شيطان يخنفه ، وقالوا كلهم يبعث كالمجنون عقوبة له وتمقيتاً عند جمع المحشر ، ويقوي هذا التأويل المجمع عليه في أن قراءة عبد الله بن مسعود «لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم » .
قال القاضي أبو محمد : وأما ألفاظ الآية فكانت تحتمل تشبيه حال القائم بحرص وجشع إلى تجارة الربا بقيام المجنون ، لأن الطمع والرغبة تستفزه حتى تضطرب أعضاؤه ، وهذا كما تقول لمسرع في مشيه ، مخلط في هيئة حركاته ، إما من فزع أو غيره ، قد جن هذا ، وقد شبه الأعشى ناقته في نشاطها بالجنون في قوله : [ الطويل ]
وَتُصْبِحُ مِنْ غِبّ السُّرى وَكَأَنَّما . . . أَلَم بِهَا مِنْ طَائِفِ الْجِنِّ أَوْلَق( {[2709]} )
لكن ما جاءت( {[2710]} ) به قراءة ابن مسعود وتظاهرت به أقوال المفسرين يضعف هذا التأويل { ويتخبطه } «يتفعله » من خبط يخبط كما تقول : تملكه وتعبده وتحمله . و { المس } الجنون ، وكذلك الأولق والألس والزؤْد( {[2711]} ) ، وقوله تعالى : { ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا } معناه عند جميع المتأولين في الكفار( {[2712]} ) ، وأنه قول تكذيب للشريعة ورد عليها .
والآية كلها في الكفار المربين نزلت ولهم قيل { فله ما سلف } ولا يقال ذلك لمؤمن عاص( {[2713]} ) ، ولكن يأخذ العصاة في الربا بطرف من وعيد هذه الآية ، ثم جزم تعالى الخبر في قوله : { وأحل الله البيع وحرم الربا }( {[2714]} ) وقال بعض العلماء في قوله : { وأحل الله البيع } هذا من عموم القرآن ، لأن العرب كانت تقدر على إنفاذه ، لأن الأخذ والإعطاء عندها بيع ، وكل ما عارض العموم فهو تخصيص منه ، وقال بعضهم : هو من مجمل القرآن الذي فسر بالمحلل من البيع وبالمحرم ، والقول الأول عندي أصح( {[2715]} ) ، قال جعفر بن محمد الصادق : حرم الله الربا ليتقارض الناس . وقال بعض العلماء : حرمه الله لأنه متلفة للأموال مهلكة للناس . وسقطت علامة التأنيث في قوله : { فمن جاءه } لأن تأنيث الموعظة غير حقيقي وهو بمعنى وعظ ، وقرأ الحسن «فمن جاءته » بإثبات العلامة ، وقوله : { فله ما سلف } أي من الربا لا تباعة( {[2716]} ) عليه منه في الدنيا ولا في الآخرة قاله السدي وغيره ، وهذا حكم من الله تعالى لمن أسلم من كفار قريش وثقيف ومن كان يتجر هناك ، و { سلف } معناه تقدم في الزمن وانقضى .
وفي قوله تعالى : { وأمره إلى الله } أربع تأويلات : أحدها أن الضمير عائد على الربا بمعنى : وأمر الربا إلى الله في إمرار( {[2717]} ) تحريمه أو غير ذلك . الثاني أن يكون الضمير عائداً على { ما سلف } . أي أمره إلى الله في العفو عنه وإسقاط التبعية فيه . والثالث أن يكون الضمير عائداً على ذي الربا بمعنى أمره إلى الله في أن يثيبه على الانتهاء أو يعيده إلى المعصية في الربا . والرابع أن يعود الضمير على المنتهي ولكن بمعنى التأنيس له وبسط أمله في الخير . كما تقول وأمره إلى طاعة وخير وموضع رجاء . وكما تقول وأمره في نمو أو إقبال إلى الله وإلى طاعته ، ويجيء الأمر هاهنا( {[2718]} ) ليس في الربا خاصة بل وجملة أموره ، وقوله تعالى : { ومن عاد } يعني إلى فعل الربا والقول { إنما البيع مثل الربا } وإن قدرنا الآية في كافر فالخلود خلود تأبيد حقيقي ، وإن لحظناها في مسلم عاصٍ فهذا خلود مستعار على معنى المبالغة . كما تقول العرب : ملك خالد ، عبارة عن دوام ما ، لا على التأبيد الحقيقي .