السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ ٱلرِّبَوٰاْ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مِنَ ٱلۡمَسِّۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡبَيۡعُ مِثۡلُ ٱلرِّبَوٰاْۗ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْۚ فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمۡرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِۖ وَمَنۡ عَادَ فَأُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (275)

{ الذين يأكلون الربا } أي : يأخذونه وهو لغة الزيادة وشرعاً عقد على عوض مخصوص غير معلوم التماثل في معيار الشرع حالة العقد أو مع تأخير في البدلين أو أحدهما وهو ثلاثة أنواع : ربا الفضل وهو البيع مع زيادة أحد العوضين على الآخر وربا اليد وهو البيع مع تأخير قبضهما أو قبض أحدهما ، وربا النساء وهو البيع إلى أجل وإنما ذكر الأكل ؛ لأنه أعظم منافع المال كقوله تعالى : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً } ( النساء ، 10 ) فنبه بالأكل على ما سواه من وجوه الإتلافات ؛ ولأنّ نفس الربا الذي هو الزيادة لا يؤكل وإنما يصرف في المأكول وقال صلى الله عليه وسلم : ( لعن الله آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه والمحلل له ) فعلمنا أنّ الحرمة غير مختصة بالأكل .

ولما كان بين الصدقة والربا مناسبة من جهة التضادّ ؛ لأنّ الصدقة عبارة عن تنقيص المال بأمر الله بذلك والربا عبارة عن طلب الزيادة على المال مع نهي الله عنه فكانا كالمتضادين ذكر عقب الصدقة ويرسم بالواو والألف بعد الواو وإنما رسم على لغة من يفخم وهو يميل الألف أي يخرج الواو كما كتبت الصلاة والزكاة . وقيل : لأنّ أهل الحجاز تعلموا الخط من أهل الحيرة ولغتهم الربو بالواو الساكنة ، فعلموهم الخط على لغتهم وزيدت الألف بعدها تشبيهاً بواو الجمع { لا يقومون } إذا بعثوا من قبورهم { إلا } أي : قياماً { كما يقوم الذي يتخبطه } أي : يصرعه { الشيطان } وقوله تعالى : { من المس } أي : الجنون متعلق بتخبطه من جهة الجنون فيكون في موضع نصب قاله أبو البقاء : والمعنى أنّ آكل الربا يبعث يوم القيامة وهو كالمصروع تلك سيماه يعرف بها عند أهل الموقف .

فإن قيل : لم نسب هذا للشيطان ؟ أجيب : بأنه وارد على ما تزعم العرب أنّ الشيطان يتخبط الإنسان فيصرع والخبط الضرب على غير استواء يقال : ناقة خبوط للتي تطأ الناس وتضرب الأرض بقوائمها ويقال للرجل الذي يتصرف في أمر ولا يهتدي فيه إنه يخبط خبط عشواء وتخبطه الشيطان إذا مسه بخبل أو جنون ؛ لأنه كالضرب على غير استواء في الإدهاش { ذلك } أي : الذي نزل بهم { بأنهم } أي : بسبب أنهم { قالوا إنما البيع مثل الربا } في الجواز .

فإن قيل : ما الحكمة في قلب القصة ومن حق القياس أن يشبه محل الخلاف بمحل الوفاق ؛ لأنّ حل البيع متفق عليه وهم أرادوا قياس الربا عليه فكان نظم الكلام أن يقال إنما الربا مثل البيع ؟ أجيب : بأنّ هذا من عكس التشبيه مبالغة إذ به صار المشبه مشبهاً به وبالعكس وشأن المشبه به أن يكون أقوى من المشبه أو بأنهم لم يكن مقصودهم أن يتمسكوا بنظم القياس بل كان غرضهم أنّ البيع والربا متماثلان في جميع الوجوه المطلوبة فكيف يجوز تخصيص أحد المثلين بالحل والآخر بالحرمة وعلى هذا التقدير فأيهما قدم أو أخر جاز وقوله تعالى : { وأحل الله البيع وحرّم الربا } إنكار لتسويتهم وإبطال القياس لمعارضته النص .

تنبيه : أظهر قولي الشافعيّ أنّ هذه الآية عامّة في كل بيع إلا ما خص بالسنة وأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيوع ، والثاني إنها مجملة والسنة مبينة لها أو تظهر فائدة الخلاف في الاستدلال بها في مسائل الخلاف فعلى الأوّل يستدل بها وعلى الثاني لا يستدل { فمن جاءه } أي : بلغه { موعظة } أي : وعظ { من ربه } وزجر بالنهي عن الربا { فانتهى } أي : فاتبع النهي وامتنع من أكله { فله ما سلف } أي : ما مضى قبل النهي فلا يستردّ منه ما أخذه من الربا وقيل : ما مضى من ذنبه قبل النهي مغفور له { وأمره إلى الله } بعد النهي إن شاء عصمه حتى يثبت على الانتهاء وإن شاء خذله حتى يعود . وقيل : أمره إلى الله فيما يأمره وينهاه ويحل له ويحرم عليه وليس له من أمر نفسه شيء { ومن عاد } إلى تحليل الربا مشبهاً له بالبيع في الحل { فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } لأنهم كفروا بذلك وورد أنه صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا ومؤكله والواشمة والمستوشمة والمصوّر وأنه صلى الله عليه وسلم قال : ( الربا سبعون باباً أهونها عند الله عز وجل كالذي ينكح أمّه ) .