الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ ٱلرِّبَوٰاْ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مِنَ ٱلۡمَسِّۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡبَيۡعُ مِثۡلُ ٱلرِّبَوٰاْۗ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْۚ فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمۡرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِۖ وَمَنۡ عَادَ فَأُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (275)

{ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا } ومعنى الربا : الزيادة على أصل المال في غير بيع يقال : ربى الشيء إذا زاد ، وأربى عليه و[ عامل ] عليه إذا زاد عليه في الربا . قال عمر رضي الله عنه : لا تبيعوا الذهب بالذهب إلاّ مثل بمثل ، ولا تبيعوا الورق بالورق إلاّ مثل بمثل ، ولا تبيعوا الذهب بالذهب أحدهما غائب والآخر حاضر ، وإن استنظرك حتّى يلج بيته فلا تنظره إلاّ يداً بيد هات وهذا أني أخاف عليكم الربا .

قالوا : وقياس كتابته بالياء لكسرة أوّله ، وقد كتبوه في القرآن بالواو . قال الفراء : إنّما كتبوه كذلك لأنّ أهل الحجاز تعلّموا الكتابة من أهل الحيرة ولغتهم الربوا ، فعلّموهم صورة الحرف على لغتهم فأخذوه كذلك عنهم . وكذلك قرأها الضحاك [ الربوا ] بالواو .

وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة مكان كسرة الراء . وقرأ الباقون بالتفخيم بفتحة الباء ، قالوا : اليوم فانت فيه [ بالخيار إن شئت ] كتبته على مافي المصحف موافقة له ، وإن شئت بالياء وإن شئت بالألف . ومعنى قوله { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا } [ يأكلونه ] حق الأكل لأنّه معظم الأمر .

والربا في أربعة أشياء : الذهب ، والفضّة ، والمأكول ، والمشروب . فلا يجوز بيع بعضها ببعض إلاّ مثلاً بمثل ويداً بيد ، وإذا اختلف الصنفان جاز التفاضل في النقد وحرّم في النسيئة ، ولا يجوز صاع بر بصاعين لا نقداً ولا نسيئة لأنّهما جنس واحد ، وكذلك الذهب بالذهب مثقال باثنين لا نقداً ولا نسيّة ، وكذلك الفضّة بالفضّة ، وكذلك صاع بر بصاعين شعير وصاع شعير بصاعين بر نقدا ولا يجوز نسيئة . ويجوز مثقال بعشرين درهماً أو أقل أو أكثر نقداً ولا يجوز نسيئة ، وجماع ما شايع الناس عليه ثلاثة أشياء : أحدهما : ما يعتدي به ممّا كان مأكولاً أو مشروباً . والثاني : ما كان ثمناً للأشياء وقيمة للمتلفات وهو الذهب والفضّة فهذان فيهما الربا فلا يجوز بيع شيء متفاضلاً نقداً ونسيئة ، والصنف الثالث : ما عدا هذين مما لا يؤكل ولا يشرب ولا يكون ثمناً ، فلا ربا فيه فيجوز بيع بعضه ببعض متفاضلاً نقداً ونسيئة . فهذا جملة القول فيما فيه الربا على مذهب الشافعي .

وقال مالك : كلّ ثمن أو يقتات أو ما يصلح به القوت فهو الذي فيه الربا .

وقال أهل العراق : كلّ مكيل أو موزون فيه الربا . وقال أهل الحجاز ما روي محمد بن سيرين عن مسلم بن يسار وعبد الله بن عبك قالا : جمع المنزل بين عبادة بن الصاحب ومعاوية ، فقال عبادة : نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالذهب والورق بالورق والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر ، وقال أحدهما : والملح بالملح ، وقال الآخر : إلاّ مثلاً بمثل ويداً بيد ، وأمرنا أن نبيع الذهب بالورق والورق بالذهب والبر بالشعير والشعير بالبر ويداً بيد كيف شئنا .

قال أحدهما : فمن ناد أو ازداد فقد أربى .

قوله تعالى : { لاَ يَقُومُونَ } يعني يوم القيامة من قبورهم { إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ } أي يصرعه ويخبطه { الشَّيْطَانُ } وأصل الخبط الضرب والوطء ويقال ناقة خبوط ، التي تطأ الناس وتضرب بقوائمها الأرض . قال زهير :

رأيت المنايا خبط عشواء من تصب *** تمته ومن تخطي يعمر فيهرم

{ مِنَ الْمَسِّ } الجنون . يقال : مسّ الرجل وألِس فهو ممسوس ومالوس ، إذا كان مجنوناً ، وأصله مسّ الشيطان إياه . ومعنى الآية : إنّ آكل الربا يبعثه الله يوم القيامة مجنوناً [ ] وذلك علامة أهل الربا يبعثون وفيهم خبل من الشيطان . قاله قتادة .

أبو هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصّة الإسراء ، قال : " فانطلق بي جبرائيل إلى رجال كثير كلّ رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم متصدّين على سابلة آل فرعون وآل فرعون يعرضون على النار غدوّاً وعشيّاً .

قال : فيقبلون مثل الإبل المنهومة يخبطون الحجارة [ لا يسمعون ولا يعقلون ] فإذا أحسّ بهم أصحاب تلك البطون قاموا فتميل بهم بطونهم فيصرعون ، ثم يقوم أحدهم فتميل بطنه فيصرع فلا يستطيعون أن يبرحوا حتّى يغشاهم آل فرعون فيطؤونهم مقبلين ومدبرين فذلك عذابهم في البرزخ بين الدنيا والآخرة » . قال : وآل فرعون يقولون اللّهمّ لا تقم الساعة أبداً قال : ويوم يقال لهم : { أَدْخِلُواْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } [ غافر : 46 ] قال : قلت : يا جبرائيل مَنْ هؤلاء ؟

قال : الذين يأكلون الربا لا يقومون إلاّ كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ " .

حمّاد بن سلمة عن عليّ بن زيد عن أبي الصلت عن أبي هريرة " إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أُسريَ به رأى في السماء رجالاً بطونهم كالبيوت فيها الحيّات تُرى خارج بطونهم فقلت : مَنْ هولاء يا جبرائيل ؟

قال : هؤلاء أكلة الربا { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } " أي ذلك الذي نزل بهم لقولهم هكذا واستحلالهم إياه .

وذلك إنّ أهل الجاهليّة كان أحدهم إذا أجلّ ماله على غريمه فطالبه بذلك يقول الغريم لصاحب الحقّ : زدني في الأجل وامهلني حتّى أزيدك في مالك فيفعلان ويقولان : سواء علينا الزيادة في أوّل البيع بالربح أو عند محل المال لأجل التأخير . فكذّبهم الله تعالى فقال : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ } تذكير وتخويف .

قال السدي : أمّا الموعظة فالقرآن ، وإنّما ذكر الفعل لأنّ الموعظة والوعظ واحد .

وقرأ الحسن : فمن جاءته موعظة كقوله { يأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } [ يونس : 57 ] . { مِّنْ رَّبِّهِ فَانْتَهَى } من أكل الربا { فَلَهُ مَا سَلَفَ } أي ما مضى من ذنبه قبل النهي فهو مغفور له { وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ } يعني النهي إن شاء عصمه حتّى يثبت على الانتهاء وان شاء خذله حتّى يعود ، وقيل : وأمره إلى الله فيما يأمره وينهاه ويحلّ له ويحرّم عليه وليس إليه من أمر نفسه شيء . وفيه يقول محمود الورّاق :

إلى الله كلّ الأمر في كلّ خلقه *** وليس إلى المخلوق شيء من الأمر

{ وَمَنْ عَادَ } بعد التحريم والموعظة إلى أكل الربا مستحلاًّ له { فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } أبو سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الربا سبعون باباً أهونها عند الله كالذي ينكح أمّه " .

وعن عبد الرحمن بن عبدالله بن مسعود عن عبد الله بن مسعود قال : " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهده " .

الحسن عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أرد الله بقرية هلاكاً أظهر فيهم الربا " .