فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ ٱلرِّبَوٰاْ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مِنَ ٱلۡمَسِّۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡبَيۡعُ مِثۡلُ ٱلرِّبَوٰاْۗ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْۚ فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمۡرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِۖ وَمَنۡ عَادَ فَأُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (275)

الربا في اللغة : الزيادة مطلقاً ، يقال : ربا الشيء يربو : إذا زاد ، وفي الشرع يطلق على شيئين ، على ربا الفضل ، وربا النسيئة حسبما هو مفصل في كتب الفروع ، وغالب ما كانت تفعله الجاهلية أنه إذا حلَّ أجل الدين قال من هو له لمن هو عليه : أتقضي أم تربي ؟ فإذا لم يقض زاد مقداراً في المال الذي عليه ، وأخر له الأجل إلى حين . وهذا حرام بالاتفاق ، وقياس كتابة الربا بالياء للكسرة في أوّله . وقد كتبوه في المصحف بالواو . قال في الكشاف : على لغة من يفخم كما كتبت الصلاة ، والزكاة ، وزيدت الألف بعدها تشبيهاً بواو الجمع . انتهى .

قلت : وهذا مجرد اصطلاح لا يلزم المشي عليه ، فإن هذه النقوش الكتابية أمور اصطلاحية لا يشاحح في مثلها إلا فيما كان يدل به منها على الحرف الذي كان في أصل الكلمة ، ونحوه ، كما هو مقرر في مباحث الخط من علم الصرف ، وعلى كل حال ، فرسم الكلمة ، وجعل نقشها الكتابي على ما يقتضيه اللفظ بها هو الأولى ، فما كان في النطق ألفاً كالصلاة ، والزكاة ، ونحوهما كان الأولى في رسمه أن يكون كذلك ، وكون أصل هذا الألف واواً ، أو ياء لا يخفى على من يعرف علم الصرف ، وهذه النقوش ليست إلا لفهم اللفظ الذي يدل بها عليه كيف هو : في نطق من ينطق به لا لتفهيم أن أصل الكلمة كذا مما لا يجري به النطق ، فاعرف هذا ، ولا تشتغل بما يعتبره كثير من أهل العلم في هذه النقوش ، ويلزمون به أنفسهم ، ويعيبون من خالفه ، فإن ذلك من المشاححة في الأمور الاصطلاحية التي لا تلزم أحداً أن يتقيد بها ، فعليك بأن ترسم هذه النقوش على ما يلفظ به اللافظ عند قراءتها ، فإنه الأمر المطلوب من وضعها ، والتواضع عليها ، وليس الأمر المطلوب منها أن تكون دالة على ما هو أصل الكلمة التي يتلفظ بها المتلفظ مما لا يجري في لفظه الآن ، فلا تغترّ بما يروى عن سيبويه ، ونحاة البصرة أن يكتب الربا بالواو ؛ لأنه يقول في تثنيته ربوان . وقال الكوفيون : يكتب بالياء ، وتثنيته ربيان . قال الزجاج : ما رأيت خطأ أقبح من هذا ، ولا أشنع ، لا يكفيهم الخطأ في الخط حتى يخطئوا في التثنية ، وهم يقرءون : { وَمَا ءاتَيْتُمْ من رِباً ليَرْبُوا فِى أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُوا عند الله } [ الروم : 39 ] وليس المراد بقوله هنا : { الذين يَأكُلُونَ الربا } اختصاص هذا الوعيد بمن يأكله ، بل هو عام لكل من يعامل بالربا ، فيأخذه ، ويعطيه ، وإنما خص الآكل ؛ لزيادة التشنيع على فاعله ، ولكونه هو الغرض الأهمّ ، فإن آخذ الربا إنما أخذه للأكل . قوله : { لاَ يَقُومُونَ } أي : يوم القيامة ، كما يدل عليه قراءة ابن مسعود : { لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذى يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس يَوْمُ القيامة .

أخرجه عبد ابن حميد ، وابن أبي حاتم ، وبهذا ، فسره جمهور المفسرين قالوا : إنه يبعث كالمجنون عقوبة له ، وتمقيتاً عند أهل المحشر . وقيل : إن المراد تشبيه من يحرص في تجارته ، فيجمع ماله من الربا بقيام المجنون ؛ لأن الحرص ، والطمع ، والرغبة في الجمع قد استفزته حتى صار شبيهاً في حركته بالمجنون ، كما يقال لمن يسرع في مشيه ، ويضطرب في حركاته : أنه قد جُنَّ ، ومنه قول الأعشى في ناقته :

وَتُصْبِحُ عَنْ غِبِّ السُّرَى وَكأَنَّها *** ألَمَّ بِهَا مِنْ طَائِفِ الجِنِّ أوْلَقُ

فجعلها بسرعة مشيها ، ونشاطها كالمجنون . قوله : { إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذى يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس } أي : إلا قياماً كقيام الذي يتخبطه ، والخبط : الضرب بغير استواء كخبط العشواء ، وهو المصروع . والمسّ : الجنون ، والأمس : المجنون ، وكذلك الأولق ، وهو : متعلق بقوله : { يَقُومُونَ } أي : لا يقومون من المسّ الذي بهم { إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذى يَتَخَبَّطُهُ الشيطان } أو متعلق ب { يقوم } . وفي الآية دليل على فساد قول من قال : إن الصرع لا يكون من جهة الجنّ ، وزعم أنه من فعل الطبائع ، وقال : إن الآية خارجة على ما كانت العرب تزعمه من أن الشيطان يصرع الإنسان ، وليس بصحيح ، وإن الشيطان لا يسلك في الإنسان ، ولا يكون منه مسّ . وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من أن يتخبطه الشيطان ؛ كما أخرجه النسائي ، وغيره . قوله : { ذلك } إشارة إلى ما ذكر من حالهم ، وعقوبتهم بسبب قولهم : { إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا } أي : أنهم جعلوا البيع ، والربا شيئاً واحداً ، وإنما شبهوا البيع بالربا مبالغة بجعلهم الربا أصلاً ، والبيع فرعاً ، أي : إنما البيع بلا زيادة عند حلول الأجل ، كالبيع بزيادة عند حلوله ، فإن العرب كانت لا تعرف رباً إلا ذلك ، فردّ الله سبحانه عليهم بقوله : { وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا } أي : أن الله أحلّ البيع ، وحرّم نوعاً من أنواعه ، وهو البيع المشتمل على الربا . والبيع مصدر باع يبيع ، أي : دفع عوضاً ، وأخذ معوّضاً ، والجملة بيانية لا محل لها من الإعراب .

قوله : { فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ منْ ربّهِ } أي : من بلغته موعظة من الله من المواعظ التي تشتمل عليها الأوامر ، والنواهي ، ومنها ما وقع هنا من النهي عن الربا { فانتهى } أي : فامتثل النهي الذي جاءه ، وانزجر عن المنهي عنه ، وهو معطوف ، أي : قوله : { فانتهى } على قوله : { جَاءهُ } . وقوله : { من ربّهِ } متعلق بقوله : { جَاءهُ } أو بمحذوف وقع صفة لموعظة ، أي : كائنة { من ربّهِ فَلَهُ مَا سَلَفَ } أي : ما تقدّم منه من الربا لا يؤاخذ به ؛ لأنه فعله قبل أن يبلغه تحريم الربا ، أو قبل أن تنزل آية تحريم الربا .

وقوله : { أَمْرُهُ إِلَى الله } قيل : الضمير عائد إلى الربا ، أي : وأمر الربا إلى الله في تحريمه على عباده ، واستمرار ذلك التحريم ، وقيل : الضمير عائد إلى ما سلف ، أي : أمره إلى الله في العفو عنه ، وإسقاط التبعة فيه ، وقيل : الضمير يرجع إلى المربي ، أي : أمر من عامل بالربا إلى الله في تثبيته على الانتهاء ، أو الرجوع إلى المعصية { وَمَنْ عَادَ } إلى أكل الربا ، والمعاملة به { فأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون } والإشارة إلى { من عاد } وجمع أصحاب باعتبار معنى «من » ، وقيل : إن معنى { من عاد } : هو أن يعود إلى القول : ب { إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا } وأنه يكفر بذلك ، فيستحق الخلود ، وعلى التقدير الأوّل يكون الخلود مستعاراً على معنى المبالغة ، كما تقول العرب : ملك خالد ، أي : طويل البقاء ، والمصير إلى هذا التأويل واجب للأحاديث المتواترة القاضية بخروج الموحدين من النار .

/خ277