الربا : الزيادة يقال : ربا يربو وأرباه غيره : وأربى الرجل ، عامل بالربا ، ومنه الربوة والرابي .
نوى القشب قد أربى ذراعاً على العشر
وكتب في القرآن بالواو والألف بعدها ، ويجوز أن يكتب بالياء للكسرة ، وبالألف .
وتبدل الباء ميماً قالوا : الرما ، كما أبدلوها في كتب قالوا : كتم ، ويثنى : ربوان ، بالواو عند البصريين ، لأن ألفه منقلبة عنها .
وقال الكوفيون : ويكتب بالياء ، وكذلك الثلاثي المضموم الأول نحو : ضحى ، فتقول : ربيان وضحيان ، فإن كان مفتوحاً نحو : صفا ، فاتفقوا على الواو .
وأما الربا الشرعي فهو محدود في كتب الفقهاء على حسب اختلاف مذاهبهم .
تخبط : تفعل من الخبط وهو الضرب على غير استواء ، وخبط البعير الأرض بأخفافه ، ويقال للذي يتصرف ولا يهتدي : خبط عشواء ، وتورط في عمياء وقول علقمة :
أي : أعطيت من أردت بلا تمييز كرماً .
سلف : مضى وانقضى ، ومنه سالف الدهر أي ماضيه .
عاد عوداً : رجع ، وذكر بعضهم أنها تكون بمعنى صار ، وأنشد :
تعد فيكُمُ جزر الجزور رماحنا***
{ الذين يأكلون الربى لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } مناسبة هذه الآية لما قبلها أن ما قبلها وارد في تفضيل الإنفاق والصدقة في سبيل الله ، وأنه يكون ذلك من طيب ما كسب ، ولا يكون من الخبيث .
فذُكر نوع غالب عليهم في الجاهلية ، وهو : خبيث ، وهو : الربا ، حتى يمتنع من الصدقة بما كان من ربا ، وأيضاً فتظهر مناسبة أخرى ، وذلك أن الصدقات فيها نقصان مال ، والربا فيه زيادة مال ، فاستطرد من المأمور به إلى ذكر المنهي عنه لما بينهما من مناسبة ذكر التضاد ، وأبدى لأكل الربا صورة تستبشعها العرب على عادتها في ذكر ما استغربته واستوحشت منه ، كقوله : { طلعها كأنه رؤوس الشياطين } وقول الشاعر :
خيلاً كأمثال السعالي شرّباً***
والأكل هنا قيل على ظاهره من خصوص الأكل ، وأن الخبر : عنهم ، مختص بالآكل الربا ، وقيل : عبر عن معاملة الربا وأخذه بالأكل ، لأن الأكل غالب ما ينتفع به فيه ، كما قال تعالى : { وأخذهم الربا } وقيل : الربا هنا كناية عن الحرام ، لا يخص الربا الذي في الجاهلية ، ولا الربا الشرعي .
وقرأ العدوي : الربو ، بالواو وقيل : وهي لغة الحيرة ، ولذلك كتبها أهل الحجاز بالواو لأنهم تعلموا الخط من أهل الحيرة ، وهذه القراءة على لغة من وقف على أفعى بالواو ، فقال : هذه أفعو ، فأجرى القارىء الوصل إجراء الوقف .
وحكى أبو زيد : أن بعضهم قرأ بكسر الراء وضم الباء وواو ساكنة ، وهي قراءة بعيدة ، لأن لا يوجد في لسان العرب اسم آخره واو قبلها ضمة ، بل متى أدى التصريف إلى ذلك قلبت تلك الواو ياءً وتلك الضمة كسرة ، وقد أولت هذه القراءة على أنها على لغة من قال : في أفعى : أفعو ، في الوقف .
وأن القارىء إما أنه لم يضبط حركة الباء ، أو سمى قربها من الضمة ضماً .
و : لا يقومون ، خبر عن : الذين ، ووقع في بعض التصانيف أنها جملة حالية ، وهو بعيد جداً ، إذ يتكلف إضمار خبر من غير دليل عليه .
وظاهر هذا الإخبار أنه إخبار عن الذين يأكلون الربا ، وقيل : هو إخبار ووعيد عن الذين يأكلون الربا مستحلين ذلك ، بدليل قولهم : { إنما البيع مثل الربى } وقوله : { والله لا يحب كل كفار أثيم } وقوله : { فأذنوا بحرب من الله ورسوله } ومن اختار حرب الله ورسوله فهو كافر ، وهذا القيام الذي في الآية قيل هو يوم القيامة .
وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وجبير ، والضحاك ، والربيع ، والسدي ، وابن زيد : معناه لا يقومون من قبورهم في البعث يوم القيامة إلاَّ كالمجانين ، عقوبة لهم وتمقيتاً عند جمع المحشر ، ويكون ذلك سيما لهم يعرفون بها ، ويقوي بهذا التأويل قراءة عبد الله : لا يقومون يوم القيامة .
وقال بعضهم : يجعل معه شيطان يخنقه كأنه يخبط في المعاملات في الدنيا ، فجوزي في الآخرة بمثل فعله .
وقد أثر في حديث الإسراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى أكلة الربا ، كل رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم ، وذكر حالهم أنهم إذا قاموا تميل بهم بطونهم فيصرعون ، وفي طريق أنه رأى بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم .
قال ابن عطية : وأما ألفاظ الآية فيحتمل تشبيه حال القائم بحرص وجشع إلى تجارة الربا بقيام المجنون ، لأن الطمع والرغبة يستفزه حتى تضطرب أعضاؤه ، كما يقوم المسرع في مشيه يخلط في هيئة حركاته ، إما من فزع أو غيره قد جن .
هذا وقد شبه الأعشى ناقته في نشاطها بالجنون في قوله :
لكن ما جاءت به قراءة ابن مسعود وتظاهرت به أقوال المفسرين يضعف هذا التأويل .
وهو حسن ، إلاَّ كما يقوم الكاف في موضع الحال ، أو نعتاً لمصدر محذوف على الخلاف المتقدم بين سيبويه وغيره ، وتقدم في مواضع .
و : ما ، الظاهر أنها مصدرية ، أي : كقيام الذي ، وأجاز بعضهم أن يكون بمعنى الذي والعائد محذوف تقديره إلاَّ كما يقومه الذي يتخبطه الشيطان .
قيل : معناه كالسكران الذي يستجره الشيطان فيقع ظهراً لبطن ، ونسبه إلى الشيطان لأنه مطيع له في سكره .
وظاهر الآيه أن الشيطان يتخبط الإنسان ، فقيل ذلك حقيقة هو من فعل الشيطان بتمكين الله تعالى له من ذلك في بعض الناس ، وليس في العقل ما يمنع من ذلك ، وقيل : ذلك من فعل الله لما يحدثه فيه من غلبة السوء أو انحراف الكيفيات واحتدادها فتصرعه ، فنسب إلى الشيطان مجازاً تشبيهاً بما يفعله أعوانه مع الذين يصرعونهم ، وقيل : أضيف إلى الشيطان على زعمات العرب أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرعه ، فورد على ما كانوا يعتقدون ، يقولون : رجل ممسوس ، وجُنَّ الرجل .
قال الزمخشري : ورأيتهم لهم في الجن قصص وأخبار وعجائب ، وإنكار ذلك عنده كإنكار المشاهدات . انتهى .
وتخبط هنا : تفعَّل ، موافق للمجرد ، وهو خبط ، وهو أحد معاني : تفعل ، نحو : تعدى الشيء وعداه إذا جاوزه .
من المس ، المس الجنون يقال : مس فهو ممسوس وبه مس .
أنشد ابن الأنباري ، رحمة الله تعالى :
وأصله من المس باليد ، كأن الشيطان يمس الإنسان فيجنه ، وسمي الجنون مساً كما أن الشيطان يخبطه ويطأه برجله فيخيله ، فسمي الجنون خبطة ، فالتخبط بالرجل والمس باليد ، ويتعلق : من المس ، بقوله : يتخبطه ، وهو على سبيل التأكيد ، ورفع ما يحتمله يتخبطه من المجاز إذ هو ظاهر في أنه لا يكون إلاَّ من المس ، ويحتمل أن يراد بالتخبط الإغواء وتزيين المعاصي ، فأزال قوله : من المس ، هذا الاحتمال .
وقيل : يتعلق : بيقوم ، أي : كما يقوم من جنونه المصروع .
p>> وقال الزمخشري : فإن قلت : بم يتعلق قوله : من المس ؟ .
قلت : بلا يقومون ، أي : لا يقومون من المس الذي بهم إلاَّ كما يقوم المصروع . انتهى .
وكان قد قدم في شرح المس أنه الجنون ، وهو الذي ذهب إليه في تعلق : من المس ، بقوله : لا يقومون ، ضعيف لوجهين :
أحدهما : أنه قد شرح المس بالجنون ، وكان قد شرح أن قيامهم لا يكون إلاَّ في الآخرة ، وهناك ليس بهم جنون ولا مس ، ويبعد أن يكنى بالمس الذي هو الجنون عن أكل الربا في الدنيا ، فيكون المعنى : لا يقومون يوم القيامة ، أو من قبورهم من أجل أكل الربا إلاَّ كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان ، إذ لو أريد هذا المعنى لكان التصريح به أولى من الكناية عنه بلفظ المس ، إذ التصريح به أبلغ في الزجر والردع .
والوجه الثاني : أن : ما ، بعد : إلاَّ ، لا يتعلق بما قبلها ، إلاَّ إن كان في حيز الاستثناء ، وهذا ليس في حيز الاستثناء ، ولذلك منعوا أن يتعلق { بالبينات والزبر } بقوله : { وما أرسلنا من قبلك إلاَّ رجالاً } وان التقدير : ما أرسلنا بالبينات والزبر إلاَّ رجالاً .
{ ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربى } الإشارة بذلك إلى ذلك القيام المخصوص بهم في الآخرة ، ويكون مبتدأ ، والمجرور الخبر ، أي : ذلك القيام كائن بسبب أنهم ، وقيل : خبر مبتدأ محذوف تقديره : قيامهم ذلك إلاَّ أن في هذا الوجه فصلاً بين المصدر ومتعلقه الذي هو : بأنهم ، على أنه لا يبعد جواز ذلك لحذف المصدر ، فلم يظهر قبح بالفصل بالخبر ، وقدّره الزمخشري : ذلك العقاب بسبب أنهم ، والعقاب هو ذلك القيام ، ويحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى أكلهم الربا ، أي ذلك الأكل الذي استحلوه بسبب قولهم واعتقادهم أن البيع مثل الربا ، أي : مستندهم في ذلك التسوية عندهم بين الربا والبيع ، وشبهوا البيع وهو المجمع على جوازه بالربا وهو محرم ، ولم يعكسوا تنزيلاً لهذا الذي يفعلونه من الربا منزلة الأصل المماثل له البيع ، وهذا من عكس التشبيه ، وهو موجود في كلام العرب .
وهو كثير في أشعار المولدين ، كما قال أبو القاسم بن هانيء :
رأى القرن فازدادت طلاقته ضعفاً
وكان أهل الجاهلية إذا حل دينه على غريمه طالبه ، فيقول : زدني في الأجل وأزيدك في المال ، فيفعلان ذلك ويقولان : سواء علينا الزيادة في أول البيع بالربح ، أو عند المحل لأجل التأخير ، فكذبهم الله تعالى .
وقيل : كانت ثقيف أكثر العرب رباً ، فلما نهوا عنه قالوا : إنما هو مثل البيع .
{ وأحل الله البيع وحرّم الربا } .
ظاهره أنه من كلام الله تعالى لا من كلامهم ، وفي ذلك ردّ عليهم إذ ساووا بينهما ، والحكم في الأشياء إنما هو إلى الله تعالى ، لا يعارض في حكمه ولا يخالف في أمره ، وفي هذه الآية دلالة على أن القياس في مقابلة النص لا يصح ، إذ جعل الدليل في إبطال قولهم هو : أن الله أحل البيع وحرم الربا .
وقال بعض العلماء : قياسهم فاسد ، لأن البيع عوض ومعوض لا غبن فيه ، والربا فيه التغابن وأكل المال البطل ، لأن الزيادة لا مقابل لها من جنسها ، بخلاف البيع ، فإن الثمن مقابل بالمثمن .
قال جعفر الصادق : حرم الله الربا ليتقارض الناس ، وقيل : حرم لأنه متلف للأموال ، مهلك للناس .
وقال بعضهم : يحتمل أن يكون : { وأحل الله البيع وحرم الربا } من كلامهم ، فكانوا قد عرفوا تحريم الله الربا فعارضوه بآرائهم ، فكان ذلك كفراً منهم .
والظاهر : عموم البيع والربا في كل بيع ، وفي كل ربا ، إلاَّ ما خصه الدليل من تحريم بعض البيوع وإحلال بعض الربا ، وقيل : هما مجملان ، فلا يقدّم على تحليل بيع ولا تحريم ربا إلاَّ ببيان ، وهذا فرق ما بين العام والمجمل ، وقيل : هو عموم دخله التخصيص ، ومجمل دخله التفسير ، وتقاسيم البيع والربا وتفاصيلهما مذكور في كتب الفقه .
والظاهر أن الآية كما قالوا في الكفار ، لقوله : { فله ما سلف } لأن المؤمن العاصي بالربا ليس له ما سلف ، بل ينقض ويردّ فعله ، وإن كان جاهلاً بالتحريم ، لكنه يأخذ بطرف من وعيد هذه الآية .
{ فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف } حذف تاء التأنيث من : جاءته ، للفصل ، ولأن تأنيث الموعظة مجازي .
وقرأ أبيّ ، والحسن : فمن جاءته بالتاء على الأصل ، وتلت عائشة هذه الآية سألتها العالية بنت أبقع ، زوج أبي إسحاق السبيعي عن شرائها جارية بستمائة درهم نقداً من زيد بن أرقم ، وكانت قد باعته إياها بثمانمائة درهم إلى عطائه ، فقالت عائشة : بئسما شريت وما اشتريت ، فابلغي زيداً أنه أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاَّ أن يتوب ، فقالت العالية : أرأيت إن لم آخذ منه إلاَّ رأس مالي ؟ فتلت الآية عائشة .
والموعظة : التحريم ، أو : الوعيد ، أو : القرآن ، أقوال .
ويتعلق : من ربه ، بجاءته ، أو : بمحذوف ، فيكون صفة لموعظة ، وعلى التقدير فيه تعظيم الموعظة إذ جاءته من ربه ، الناظر له في مصالحه ، وفي ذكر الرب تأنيس لقبول الموعظة .
إذ الرب فيه إشعار بإصلاح عبده ، فانتهى تبع النهي ، ورجع عن المعاملة بالربا ، أو عن كل محرم من الاكتساب { فله ما سلف } أي ما تقدم له أخذه من الربا لا تبعة عليه منه في الدنيا ولا في الآخرة ، وهذا حكم من الله لمن أسلم من كفار قريش وثقيف ، ومن كان يتجر هنالك .
وهذا على قول من قال : الآية مخصوصة بالكفار ، ومن قال : إنها عامة فمعناه : فله ما سلف ، قبل التحريم .
{ وأمره إلى الله } الظاهر أن الضمير في : أمره ، عائد على المنتهي ، إذ سياق الكلام معه ، وهو بمعنى التأنيس له وبسط أمله في الخير ، كما تقول : أمره إلى طاعة وخير ، وموضع رجاء ، والأمر هنا ليس في الربا خاصة ، بل وجملة أموره ، وقيل : في الجزاء والمحاسبة ، وقيل : في العفو والعقوبة ، وقيل : أمره إلى الله يحكم في شأنه يوم القيامة ، لا إلى الذين عاملهم ، فلا يطالبونه بشيء ، وقيل : المعنى فأجره على الله لقبوله الموعظة ، قال الحسن .
وقيل : الضمير يعود على : ما سلف ، أي في العفو عنه ، وإسقاط التبعة فيه ، وقيل : يعود على ذي الربا ، أي : في أن يثبته على الانتهاء ، أو يعيده إلى المعصية .
قاله ابن جبير ، ومقاتل ، وقيل : يعود على الربا أي في إمرار تحريمه ، أو غير ذلك ، وقيل : في عفو الله من شاء منه ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
{ ومن عاد } إلى فعل الربا ، والقول بأن البيع مثل الربا ، قال سفيان : ومن عاد إلى فعل الربا حتى يموت فله الخلود { فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } تقدّم تفسير هذه الجملة الواقعة خبراً : لمن ، وحمل فيها على المعنى بعد الحمل على اللفظ ، فإن كانت في الكفار فالخلود خلود تأبيد ، أو في مسلم عاص فخلوده دوام مكثه لا التأييد .
وقال الزمخشري : وهذا دليل بيِّن على تخليد الفساق . انتهى .
وهو جارٍ على مذهبه الإعتزالي في : أن الفاسق يخلد في النار أبداً ولا يخرج منها ، وورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصح أن أكل الربا من السبع الموبقات ، وروي عن عون بن أبي جحيفة ، عن أبيه : أن رسول الله لعن آكل الربا ومؤكله ، وسأل مالكاً رحمه الله رجلٌ رأى سكران يتقافز ، يريد أن يأخذ القمر ، فقال : امرأته طالق إن كان يدخل جوف ابن آدم شر من الخمر ، أتطلق امرأته ؟ فقال له مالك ، بعد أن ردّه مرتين : امرأتك طالق ، تصفحت كتاب الله وسنة نبيه فلم أر شيئاً أشر من الربا ، لأن الله تعالى قد آذن فيه بالحرب .