غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ ٱلرِّبَوٰاْ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مِنَ ٱلۡمَسِّۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡبَيۡعُ مِثۡلُ ٱلرِّبَوٰاْۗ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْۚ فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمۡرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِۖ وَمَنۡ عَادَ فَأُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (275)

275

التفسير : الحكم الثاني من الأحكام الشرعية المذكورة في هذا الموضع حكم الربا . وذلك أنَّ بين الصدقة وبين الربا مناسبة التضاد ، فإن الصدقة تنقيص مأمور بها ، والربا زيادة منهي عنها . وأيضاً لما أمر بالإنفاق من طيبات المكاسب وجب أن يردف بالكسب الحرام وهو الربا ، والحلال وهو البيع ما يناسب من الدين والرهن وغيرهما فقال { الذين يأكلون الربا } أما الأكل فيعم جميع التصرفات إلا أنه عبر عن الشيء بمعظم مقاصده وكيف لا وقد " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه والمحلل له " وأيضاً نفس الربا لا يمكن أن يؤكل ولكن يصرف إلى المأكول فيؤكل ، فالمراد التصرف فيه . والربا في اللغة الزيادة من ربا يربو ، ومن أمالها فلمكان كسرة الراء . وهو في المصاحف مكتوب بالواو وأنت مخير في كتابتها بالألف والواو . وفي الكشاف : كتبت بالواو على لغة من يفخم كما كتبت الصلاة والزكاة . وزيدت الألف بعدها تشبيهاً بواو الجمع . ثم الربا قسمان : ربا النسيئة وربا الفضل . أما الأول فهو الذي كانوا يتعارفونه في الجاهلية ، كانوا يدفعون المال مدة على أن يأخذوا كل شهر قدراً معيناً ، ثم إذا حل الدين طالب المديون برأس المال فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحق والأجل . وأما ربا الفضل فأن يباع مَنٌّ من الحنطة بمنوين مثلاً .

والمروي عن ابن عباس أنه كان لا يحرم إلا القسم الأول وكان يقول : لا ربا إلا في النسيئة . ويجوّز ربا النقد فقال له أبو سعيد الخدري : أشهدت ما لم نشهد أسمعت ما لم نسمع ؟ فروى له الحديث المشهور في هذا الباب . وله روايات منها . " الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل يداً بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطى فيه سواء " ثم قال أبو سعيد : لا أرني وإياك في ظل بيت ما دمت على هذا . فيروى أنه رجع عنه . قال محمد بن سيرين : كنا في بيت معنا عكرمة فقال رجل : يا عكرمة ، أما تذكر ونحن في بيت فلان ومعنا ابن عباس ؟ فقال : إنما كنت استحللت الصرف برأيي ثم بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمه فاشهدوا أني قد حرمته وبرئت إلى الله منه . حجة ابن عباس أن قوله تعالى : { وأحل الله البيع } يتناول بيع الدرهم بالدرهمين نقداً . وقوله : { وحرم الربا } لا يتناوله لأن كل زيادة ليست محرمة فوجب أن تبقى على الحل ولا يخرج إلا العقد المخصوص الذي كان يسمى فيما بينهم ربا وهو ربا النسيئة . وقد تأكد هذا الرأي بما روى أسامة ين زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الربا في النسيئة " وفي رواية " لا ربا فيما كان يداً بيد " وذكر أبو المنهال أنه سأل البراء بن عازب وزيد بن أرقم فقالا : كنا تاجرين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصرف فقال : إن كان يداً بيد فلا بأس ، وإن كان نسيئة فلا يصح . وأما جمهور المجتهدين فقد اتفقوا على حرمة الربا في القسمين . أما النسيئة فبالقرآن ، وأما النقد فبالخبر ، ثم إن الخبر دل على حرمة ربا النقد في الأشياء الستة : النقدان والمطعومات الأربعة . ولا شك أن الربا إنما ثبت فيها لمعنى ، فإذا عرف ذلك المعنى ألحق بها ما يشاركها فيه . أما الأشياء الأربعة فللشافعي في علة الربا فيها قولان : الجديد أن العلة الطعم لما روي عن معمر بن عبد الله قال : كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " الطعام بالطعام مثل بمثل " علق الحكم باسمي الطعام ، والحكم المعلق بالاسم المشتق معلل بما منه الاشتقاق كالقطع المعلق باسم السارق ، والجلد المعلق باسم الزاني . والقديم أن العلة فيها الطعم مع الكيل أو الوزن لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : " الذهب بالذهب وزناً بوزن والبر بالبر كيلاً بكيل " فعلى هذا يثبت الربا في كل مطعوم مكيل أو موزون دون ما ليس بمكيل ولا موزون كالسفرجل والرمان والبيض والجوز .

وقال مالك : العلة الاقتيات ، فكل ما هو قوت أو يستصلح به القوت كالملح يجري فيه الربا . وعند أبي حنيفة العلة الكيل حتى ثبت الربا في الجص والنورة . وعن أحمد رواية كأبي حنيفة والأخرى كالجديد . وأما النقدان فعن بعض الأصحاب أن العلة فيهما لعينهما لا لعلة . والمشهور أن العلة فيهما صلاحية الثمنية الغالبة فيشمل التبر والمضروب والحلي والأواني المتخذة منها ، ولا يتعدى الحكم إلى الفلوس على الأصح وإن راجت رواج الذهب والفضة لانتفاء العلة . وقال أحمد وأبو حنيفة : العلة فيهما الوزن فيتعدى الحكم إلى كل موزون كالحديد والرصاص . فهذا ضبط المذاهب وتفاريعها إلى الفقه . وأما السبب في تحريم الربا فهو أن من يبيع الدرهم بالدرهمين نقداً أو نسيئة يحصل له زيادة درهم من غير عوض ، وأخذ مال المسلم من غير عوض محرم لقوله صلى الله عليه وسلم : " حرمة مال المسلم كحرمة دمه " وإبقاء رأس المال في يده مدة مديدة وتمكينه من أن يتجر فيه وينتفع به أمر موهوم فقد يحصل وقد لا يحصل ، وأخذ الدرهم الزائد متيقن وتفويت المتيقن لأجل الموهوم لا يخلو من ضرر . وقيل : سبب تحريمه أنه يمنع الناس من الاشتغال بالمكاسب ، لأن صاحب الدرهم إذا تمكن بواسطة عقد الربا من تحصيل الدرهم الزائد نقداً أو نسيئة أعرض عن وجوه المكاسب فيختل نظام العالم . وقيل : لما يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس من القرض ، ولأنه تمكين للغني من أن يأخذ مالاً زائداً من الفقير . وقيل : إن حرمة الربا قد ثبتت بالنص ولا يجب أن تكون حكمة كل تكليف معلومة لنا . { لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } التخبط الضرب على غير استواء ومنه خبط العشواء وتخبط الشيطان . قيل : من زعمات العرب يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع فورد على ما كانوا يعتقدون . والمس الجنون رجل ممسوس أي مسه الجني فاختلط عقله ، وكذلك جن الرجل ضربته الجن وهذا أيضا من زعماتهم . وقيل : من عادة الناس إذا أرادوا تقبيح شيء أن يضيفوه إلى الشيطان كما في قوله تعالى :{ طلعها كأنه رؤوس الشياطين }[ الصافات : 65 ] فورد القرآن على ذلك . وقيل : إن الشيطان يمسه بالوسوسة المؤذية التي يحدث عندها الفزع فيصرع كما يصرع الجبان في الموضع الخالي ، ولهذا لا يوجد هذا الخبط في العقلاء وأرباب الحزم واللب . وأكثر المسلمين على أن الشيطان لا يبعد أن يكون قوياً على الصرع والقتل والإيذاء بتقدير الله تعالى . وللمفسرين في الآية أقوال : أحدها أن آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً تلك سيماهم يعرفون بها عند أهل الموقف . وقوله : { من المس } يتعلق ب { لا يقومون } أي لا يقومون من المس الذي بهم إلا كما يقوم المصروع . أو يتعلق ب { يقوم } أي كما يقوم المصروع من جنونه ، وقال ابن قتيبة : يريد إذا بعث الناس من قبورهم خرجوا مسرعين إلا أكلة الربا فإنهم ينهضون ويسقطون كالمصروعين لأنهم أكلوا الربا فأرباه الله في بطونهم فأثقلهم .

وقيل : إنه مأخوذ من قوله تعالى :{ إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا }[ الأعراف : 201 ] وذلك أن الشيطان يدعوه إلى الهوى ، والملك يجره إلى التقوى ، فيقع هناك حركات مضطربة وأفعال مختلفة وهو الخبط ، فإذا مات آكل الربا على ذلك أورثه الخبط في الآخرة وأوقعه في ذلك الحجاب بينه وبين الله تعالى . { ذلك } العقاب بسبب قولهم { إنما البيع مثل الربا } وذلك أنه قد بلغ من اعتقادهم في حل الربا أنهم جعلوه أصلاً وقانوناً في الحل حتى شبهوا به البيع وإلا كان حق النظم في الظاهر أن يعكس فيقال : إنما الربا مثل البيع . لأن الكلام في الربا لا في البيع ، ومن حق القياس أن يشبه محل الخلاف بمحل الوفاق ، ثم إنهم كانوا يعولون في تحليل الربا على هذه الشبهة وهي أن من اشترى ثوباً بعشرة ثم باعه بأحد عشر نقداً أو نسيئة فهذا حلال ، فكذا إذا أعطى العشرة بأحد عشر لا فرق بين الصورتين إذا حصل التراضي من الجانبين ، والبياعات إنما شرعت لدفع الحاجات . ولعل الإنسان يكون صفر اليد في الحال وسيحصل له أموال كثيرة في المآل فإعطاؤه الزيادة عند وجدان المال أسهل عليه من البقاء في الحاجة قبل وجدان المال . فأجاب الله تعالى عنها بحرف واحد وهو قوله : { وأحل الله البيع وحرم الربا } وحاصلة إنكار التسوية وأن النص لا يعارض بالقياس فإن ذلك من عمل إبليس ، أمره الله تعالى بالسجود فعارض النص بالقياس وقال أنا خير منه . ثم ظاهر الآية يدل على أن الوعيد إنما لحقهم باستحلالهم الربا دون الإقدام على أكله مع اعتقاد التحريم ، وعلى هذا التقدير لا يثبت بهذه الآية كون أكل الربا من الكبائر ، ويجب تأويل مقدمة الآية بأن المراد من أكلهم الربا استطابته واستحلاله كما يقال : فلان يأكل مال الله قضماً وهضماً . أي يستحل التصرف فيه إلا أن جمهور المفسرين حملوا الآية على وعيد من يتصرف في مال الربا لا على وعيد من يستحل هذا العقد . قيل : ويحتمل أن يكون قوله { وأحل الله البيع وحرم الربا } من تمام كلام الكفار على سبيل الاستبعاد . وأكثر المفسرين على خلافه لأن جعله من كلام الكفار لا يتم إلا بإضمار هو أن يحمل ذلك على الاستفهام بطريق الإنكار ، أو على الرواية عن قول المسلمين والإضمار خلاف الأصل . وأيضاً لو كان من تمام كلامهم فلم يكشف الله تعالى عن فساد شبهتهم ، فلم يكن قوله بعد ذلك { فمن جاءه موعظة من ربه } لائقاً بالمقام وأيضاً المسلمون لم يزالوا متمسكين في البيع بهذه الآية ، ولولا أنهم علموا أن ذلك كلام الله لا كلام الكفار لم يصح منهم الاستدلال بها .

وههنا بحث للشافعي وهو أن الآية من المجملات التي لا يجوز التمسك بها بناء على أن الاسم المفرد باللام لا يفيد العموم وليس فيه إلا تعريف الماهية فيكفي في العمل به ثبوت صورة واحدة . ولو سلم إفادة العموم فلا شك أن إفادته مما لو قيل : وأحل الله البياعات : بلفظ الجمع . ومع ذلك فقد تطرق إليه تخصيصات خارجة عن الحصر والضبط ، ومثل هذا العموم لا يليق بكلام الله لأنه قريب من الكذب . نعم إطلاق اللفظ المستغرق على الأغلب عرف مشهور ، وأيضاً روي أن عمر قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا وما سألناه عن الربا . ولو كان هذا اللفظ مفيداً للعموم لم يقل ذلك . وأيضاً قوله { وأحل الله البيع } يقتضي أن يكون كل بيع حلالاً ، وقوله : { وحرم الربا } يقتضي أن يكون كل رباً حراماً . لأن الربا هو الزيادة ولا بيع إلا ويقصد به الزيادة ، وإذا تعارضا وتساقطا ووجب الرجوع إلي بيان النبي صلى الله عليه وسلم . { فمن جاءه موعظة } فمن بلغه وعظ { من ربه فانتهى } امتنع من استحلال الربا وتبع النهي { فله ما سلف } فلا يؤاخذ بما مضى منه لأنه أخذ قبل نزول التحريم كقوله { إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف }[ الأنفال : 38 ] عن الزجاج : والتنوين في { موعظة } للتعظيم أو للتقليل أي موعظة بليغة أو شيء من المواعظ . وقيل : النهي المتأخر كيف يؤثر في الفعل المتقدم حتى يكون ما سلف ذنباً ؟ فالمراد له ما أكل من الربا وليس عليه رد ما سلف . عن السدي : والسلوف التقدم ومنه الأمم السالفة ، وسلافة الخمر صفوتها لأنه أول ما يخرج من عصيرها ، { وأمره إلى الله } لأنه إن انتهى عن أكل الربا كما انتهى عن استحلاله فهو المقر بدين الله العامل بتكليفه فيستحق المدح والثواب ، وإن انتهى عن الاستحلال دون الأكل فإن شاء عذبه وإن شاء غفر له لقوله :{ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }[ النساء : 48 ] { ومن عاد } إلى استحلال الربا وأنه مثل البيع { فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } لأنه كفر باستحلال ما هو محرم إجماعاً . وأما القائلون بتخليد الفساق فيقولون : ومن عاد إلى أكل الربا .

/خ281