ولما كان سبحانه وتعالى قد ذكر النفقة مما{[13160]} أفاض عليهم من الرزق من أول السورة إلى هنا في غير آية{[13161]} ، ورغب فيها بأنواع من الترغيب في فنون{[13162]} من الأساليب ، وكان الرزق يشمل الحلال والحرام ، وكان مما{[13163]} يسترزقون به قبل الإسلام الربا ، وهو أخذ مجاناً ، وهو في الصورة زيادة و{[13164]}في الحقيقة نقص وعيب ، ضد ما تقدم الحث عليه من الإعطاء مجاناً ، وهو في الظاهر نقص وفي الباطن زيادة وخير{[13165]} ؛ نهاهم{[13166]} عن تعاطيه ونفرهم منه ، وبين لهم حكمه{[13167]} وأنه خبيث لا يصلح لأكل ولا صدقة ، وجعل ذلك في أسلوب الجواب لمن قال هل تكون{[13168]} النفقة المحبوبة المحثوث عليها من كل مال ؟ فأجاب بقوله :- وقال الحرالي : ولما كان حال المنفق لا سيما المبتغي وجه الله سبحانه وتعالى أفضل الأحوال ، وهو الحال الذي{[13169]} دعوا إليه ؛ نظم به أدنى الأحوال ، وهو الذي يتوسل به{[13170]} إلى الأموال بالربا ، فأفضل الناس المنفق ، وشر الناس المربي ؛ فنظم به خطاب الربا فقال :- { الذين } ولما كان من الصحابة من أكل الربا عبر بالمضارع إشارة إلى أن{[13171]} هذا الجزاء يخص المصر فقال : { يأكلون الربا } وهو الزيادة من جنس المزيد عليه المحدود بوجه ما - انتهى . فجرى على عادة هذا الذكر الحكيم في ذكر أحد{[13172]} الضدين{[13173]} بعد الآخر ، وعبر بالأكل عن التناول ، لأنه أكبر المقاصد وأضرها{[13174]} ويجري من الإنسان مجرى الدم كالشيطان { لا يقومون } أي عند البعث يظهر ثقله في بطونهم فيمنعهم النشاط {[13175]}ويكون ذلك سيماهم يعرفون به بين أهل الموقف{[13176]} هتكاً{[13177]} لهم وفضيحة . وقال الحرالي : في إطلاقه إشعار بحالهم في الدنيا والبرزخ والآخرة ، ففي إعلامه إيذان بأن آكله يسلب{[13178]} عقله ويكون بقاؤه في الدنيا بخرق{[13179]} لا بعقل{[13180]} ، يقبل في محل الإدبار ويدبر في محل الإقبال انتهى{[13181]} . وهو مؤيد بالمشاهدة{[13182]} فإنا لم نر ولم نسمع قط بآكل ربا ينطق بالحكمة ولا يشهر{[13183]} بفضيلة{[13184]} بل هم أدنى الناس وأدنسهم { إلا كما يقوم } المصروع { الذي يتخبطه } أي يتكلف خبطه ويكلفه إياه ويشق به عليه { الشيطان } ولما كان ذلك قد يظن أنه يخبط{[13185]} الفكر بالوسوسة مثلاً قال : { من } أي تخبطاً مبتدئاً{[13186]} من { المس } أي الجنون ، فأشار سبحانه وتعالى بذلك إلى المنع من أن تكون النفقة من حرام و{[13187]}لا سيما الربا ، وإلى أن الخبيث المنهي عن تيمم{[13188]} إنفاقه قسمان{[13189]} : حسي ومعنوي ، والنهي{[13190]} في المعنوي أشد . وقال البيضاوي تبعاً للزمخشري{[13191]} : وهو أي التخبط والمس وارد على ما يزعمون أي العرب أن الشيطان يخبط{[13192]} الإنسان فيصرع وأن الجني يمسه فيختلط عقله - انتهى . وظاهره إنكار ذلك وليس بمنكر بل هو الحق الذي لا مرية فيه ، قال المهدوي{[13193]} في تفسيره : وهذا دليل على من أنكر أن{[13194]} الصرع من جهة الجن وزعم أنه فعل الطبائع .
وقال الشيخ سعد الدين التفتازاني في شرح المقاصد : وبالجملة فالقول بوجود الملائكة والجن والشياطين مما انعقد عليه{[13195]} إجماع الآراء و{[13196]}نطق به كلام الله سبحانه وتعالى وكلام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وحكي مشاهدة الجن عن كثير من العقلاء وأرباب المكاشفات من الأولياء ، فلا وجه لنفيها{[13197]} ؛ وقال : {[13198]}الجن أجسام لطيفة هوائية تتشكل{[13199]} بأشكال مختلفة ويظهر منها أحوال عجيبة ، والشياطين أجسام نارية شأنها إلقاء الناس في الفساد والغواية ؛ ولكون الهواء{[13200]} والنار في غاية اللطافة والتشفيف كانت الملائكة والجن والشياطين يدخلون المنافذ{[13201]} الضيقة حتى أجواف الناس{[13202]} ولا يرون بحس البصر إلا إذا اكتسبوا من الممتزجات - انتهى . وقد ورد في كثير من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن " الشيطان يجري من {[13203]}ابن آدم{[13204]} مجرى الدم " وورد " أنه صلى الله عليه وسلم أخرج الصارع من الجن من جوف المصروع في صورة كلب " ونحو ذلك ؛ وفي كتب الله سبحانه وتعالى المتقدمة{[13205]} ما لا يحصى من مثل ذلك ، فأما{[13206]} مشاهدة المصروع يخبر بالمغيبات وهو مصروع غائب الحس ، وربما كان {[13207]}يلقى في النار{[13208]} وهو لا يحترق ، وربما ارتفع في الهواء{[13209]} من غير رافع ، فكثير جداً لا يحصى مشاهدوه{[13210]} - إلى غير ذلك من الأمور الموجبة للقطع أن ذلك من الجن أو الشياطين ؛ و{[13211]}ها أنا{[13212]} أذكر لك{[13213]} من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ثم{[13214]} من كتب الله القديمة ما فيه مقنع لمن تدبره - والله سبحانه وتعالى الموفق : روى الدارمي في أوائل مسنده بسند حسن عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : " أن امرأة جاءت {[13215]}بابن لها{[13216]} إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ! إن ابني به جنون وإنه يأخذه عند {[13217]}غدائنا وعشائنا{[13218]} فيخبث علينا ، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره ودعا فثعّ ثعة{[13219]} وخرج من صدره مثل الجرو الأسود{[13220]} " فثعّ ثعة{[13221]} بمثلثة ومهملة{[13222]} أي قاء{[13223]} وللدارمي أيضاً وعبد بن حميد بسند صحيح{[13224]} حسن أيضاً عن جابر رضي الله تعالى عنه قال : " خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فركبنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بيننا كأنما على رؤوسنا الطير تظلنا ، فعرضت له امرأة معها صبي{[13225]} لها{[13226]} فقالت{[13227]} : يا رسول الله ! إن ابني هذا يأخذه الشيطان كل يوم ثلاث مرات{[13228]} ، فتناول الصبي فجعله بينه وبين مقدم الرحل{[13229]} ثم قال : اخسأ {[13230]}عدو الله أنا رسول الله ثلاثاً ! ثم دفعه إليها " وأخرجه الطبراني من وجه آخر وبين أن السفر غزوة ذات الرقاع وأن ذلك{[13231]} في حرة واقم{[13232]} ، قال جابر : " فلما قضينا سفرنا مررنا بذلك المكان فعرضت لنا المرأة ومعها{[13233]} صبيها ومعها{[13234]} كبشان تسوقهما فقالت : يا رسول الله ! اقبل مني هديتي ، فوالذي{[13235]} بعثك بالحق ما عاد إليه بعد ذلك{[13236]} ! فقال : خذوا منها واحداً وردوا عليها الآخر "
وروى{[13237]} البغوي في شرح السنة عن يعلى بن مرة رضي الله تعالى عنه . وفي الإنجيل من ذلك كثير جداً ، قال في إنجيل متى ولوقا ومُرقُس{[13238]} يزيد أحدهم على الآخر وقد جمعت بين ألفاظهم : وجاء يعني عيسى عليه الصلاة والسلام إلى عبر{[13239]} البحر إلى كورة الجرجسيين{[13240]} ، وقال في إنجيل لوقا : التي{[13241]} هي مقابل عبر{[13242]} الجليل{[13243]} ، فلما خرج من السفينة استقبله مجنون ، قال لوقا : من المدينة معه شياطين ، وقال متى{[13244]} مجنونان جائيان من المقابر رديئان جداً حتى أنه{[13245]} لم يقدر{[13246]} أحد أن يجتاز من تلك الطريق فصاحا قائلين : ما لنا ولك يا يسوع{[13247]} ! جئت لتعذبنا قبل الزمان ؛ قال لوقا : وكان يربط بالسلاسل والقيود ويحبس ، وكان يقطع الرباط ويقوده{[13248]} الشيطان إلى البراري ، فسأله{[13249]} يسوع{[13250]} : ما اسمك ؟ فقال{[13251]} : لاجاون{[13252]} ، لأنه دخل فيه{[13253]} شياطين كثيرة ؛ وقال مرقس{[13254]} : فقال له : اخرج أيها الروح النجس ! اخرج من الإنسان ، ثم{[13255]} قال له : ما اسمك ؟ فقال : لاجاون اسمي لأنا كثير ، وطلب إليه{[13256]} أن يرسلهم خارجاً{[13257]} من الكورة ؛ وكان هناك نحو{[13258]} الجبل قطيع خنازير كثيرة{[13259]} يرعى بعيداً منهم ، فطلب إليه الشياطين قائلين{[13260]} : إن كنت تخرجنا فأرسلنا إلى قطيع الخنازير {[13261]}فقال لهم : اذهبوا ، وقال مرقس{[13262]} : فأذن لهم يسوع{[13263]} ، فللوقت خرجت الأرواح النجسة ودخلت في الخنازير وقال : متى{[13264]} : فلما خرجوا ومضوا في الخنازير وإذا بقطيع خنازير{[13265]} قد{[13266]} وثب{[13267]} على جرف{[13268]} وتواقع في البحر ومات جميعه في المياه ، وأن الرعاة هربوا ومضوا إلى المدينة وأخبروهم بكل شيء وبالمجنونين ، فخرج كل من في{[13269]} المدينة للقاء يسوع{[13270]} ؛ قال مرقس{[13271]} : وأبصروا ذلك المجنون جالساً لابساً{[13272]} عفيفاً فخافوا ، فلما أبصروه - يعني عيسى عليه الصلاة والسلام - طلبوا إليه أن يتحول عن تخومهم{[13273]} ؛ قال لوقا : لأنهم خافوا عظيماً ، وقال مرقس{[13274]} : فلما صعد السفينة طلب إليه{[13275]} المجنون أن يكون معه فلم يدعه يسوع{[13276]} لكن قال له{[13277]} امض{[13278]} إلى بيتك وعرفهم صنع الرب بك{[13279]} ورحمته إياك ، فذهب وكرز{[13280]} في العشرة مدن ، وقال كل ما صنع به يسوع فتعجب جميعهم ؛ وفي إنجيل لوقا معناه ، وفي آخره : فذهب وكان ينادي في المدينة كلها بكل ما صنعه معه يسوع ؛ {[13281]}وفي إنجيل متى : فلما خرج يسوع{[13282]} من هناك قدموا إليه أخرس به شيطان ، فلما خرج الشيطان تكلم الأخرس ، فتعجب{[13283]} الجميع{[13284]} قائلين : لم يظهر قط هكذا في بني{[13285]} إسرائيل ، فقال الفريسيون{[13286]} : إنه باركون{[13287]} الشياطين يخرج{[13288]} الشياطين .
ثم قال : حينئذ أتى إليه بأعمى به شيطان أخرس ، فأبرأه حتى أن الأخرس تكلم وأبصر{[13289]} ، فبهت الجمع كلهم{[13290]} وقالوا : لعل هذا هو ابن داود ، فتسمع الفريسيون فقالوا : هذا لا يخرج الشياطين إلا {[13291]}بباعل زبول{[13292]} رئيس الشياطين .
وفيه{[13293]} بعد ذلك : فلما جاء إلى الجمع جاء إليه إنسان{[13294]} ساجداً له قائلاً : يا رب ! وفي إنجيل لوقا : يا معلم ! ارحم ابني ، فإنه يعذب في رؤوس الأهلة ، ومراراً{[13295]} كثيرة يريد أن ينطلق في النار ، ومراراً كثيرة في الماء ؛ وفي إنجيل مرقس{[13296]} : قد أتيتك يا بني ! وبه روح نجس{[13297]} وحيث ما أدركه صرعه وأزبده وضرر{[13298]} أسنانه فتركه يابساً{[13299]} ، وفي إنجيل لوقا : أضرع{[13300]} إليك أن تنظر إلى ابني ، لأنه وحيدي ، وروح يأخذه فيصرخ{[13301]} بغتة ويلبطه{[13302]} بجهل ، ويزيد عند انفصاله عنه ويرضضه{[13303]} ، وضرعت{[13304]} لتلاميذك{[13305]} أن يخرجوه فلم يقدروا ؛ وفي إنجيل متى{[13306]} : وقدمته إلى تلاميذك فلم يقدروا أن يبرئوه{[13307]} ، أجاب يسوع{[13308]} : أيها الجيل الأعوج الغير مؤمن{[13309]} ! إلى متى أكون معكم ! وحتى متى{[13310]} أحتملكم ! قدمه إلى هنا{[13311]} ؛ وفي إنجيل لوقا : وفيما هو جاء به{[13312]} طرحه{[13313]} الشيطان ولبطه ؛ وفي إنجيل مرقس{[13314]} : فلما رأته الروح النجسة من ساعته صرعته{[13315]} وسقط على الأرض مضطرباً مزبداً{[13316]} ؛ ثم قال لأبيه : من كم أصابه هذا ؟ فقال : منذ صباه ، ثم قال ما معناه : افعل معه ما استطعت وتحنن{[13317]} علينا ، فقال له يسوع{[13318]} : كل شيء{[13319]} مستطاع للمؤمن ، فصاح أبو الصبي وقال : أنا أومن فأعن ضعف إيماني ، فلما رأى يسوع{[13320]} تكاثر الجمع انتهر الروح النجس وقال : يا{[13321]} أيها الروح الأصم الغير ناطق ! أنا آمرك{[13322]} أن تخرج{[13323]} منه ولا تدخل{[13324]} فيه ، فصرخ{[13325]} ولبطه كثيراً{[13326]} وخرج منه وصار كالميت ، وقال كثير : إنه مات ، فأمسك{[13327]} يسوع{[13328]} بيده وأقامه فوقف ؛ وفي إنجيل متى : فانتهره يسوع{[13329]} فخرج منه الشيطان وبرىء{[13330]} الفتى في تلك الساعة ، حينئذ أتى التلامذة{[13331]} إلى يسوع{[13332]} منفردين وقالوا له{[13333]} : لماذا{[13334]} لم نقدر نحن نخرجه ؟ فقال لهم يسوع{[13335]} : من أجل قلة إيمانكم ، الحق أقول لكم أن لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل لقلتم لهذا الجبل : انتقل من هاهنا إلى هناك ، فينتقل ولا يعسر عليكم شيء{[13336]} ، وهذا الجنس لا يخرج إلا بالصوم والصلاة ؛ وقال مرقس{[13337]} : لا يستطاع أن يخرج بشيء{[13338]} إلا بصلاة وصوم ؛ وقال في إنجيل مرقس{[13339]} : إنه كان يعلم في كفرناحوم مدينة في الجليل{[13340]} ، قال : وكان في مجمعهم رجل فيه روح شيطان نجس فصاح بصوت عظيم قائلاً{[13341]} : ما لنا ولك يا يسوع{[13342]} الناصري ! أتيت لتهلكنا ! قد عرفنا{[13343]} من أنت يا قدوس الله ! فنهره{[13344]} يسوع{[13345]} قائلاً : اسدد فاك واخرج منه ! فأقلقته{[13346]} الروح النجسة وصاح بصوت عظيم وخرج{[13347]} منه{[13348]} ؛ وفي إنجيل لوقا : فطرحه الشيطان في وسطهم وخرج منه ولم يؤلمه وخاف الجمع مخاطبين{[13349]} بعضهم بعضاً قائلين : ما هو هذا العلم الجديد{[13350]} الذي سلطانه{[13351]} يأمر{[13352]} الأرواح النجسة فتطيعه{[13353]} ! وخرج خبره في كل كورة الجليل{[13354]} ؛ وفيه : ثم قام من هناك وذهب إلى تخوم{[13355]} صور{[13356]} وصَيْدا{[13357]} ودخل إلى بيت فأراد{[13358]} أن لا يعلم أحد{[13359]} به ، فلم يقدر أن يختفي ، فلما سمعت امرأة كانت بابنة{[13360]} لها روح نجس جاءت إليه وسجدت قدام قدميه ، وكانت يونانية صورية ، وسألته أن يخرج الشيطان من ابنتها{[13361]} ، فقال لها : دعي البنين حتى يشبعوا أولاً ، لا تحسبنّ{[13362]} أن{[13363]} يؤخذ خبز البنين{[13364]} يدفع للكلاب ، وأجابت بنعم{[13365]} يا رب ! والكلاب أيضاً تأخذ مما يسقط من المائدة من فتات الأطفال ، فقال{[13366]} لها من أجل هذه الكلمة : اذهبي قد خرج{[13367]} الشيطان من ابنتك ، فذهبت إلى بنتها فوجدت الصبية على السرير والشيطان قد خرج منها ؛ وفي آخر{[13368]} إنجيل مرقس{[13369]} : إنه أخرج من مريم المجدلانية{[13370]} سبعة{[13371]} شياطين ؛ وفي إنجيل لوقا : وكان بعد ذلك يسير{[13372]} إلى كل مدينة وقرية ويكرز{[13373]} ويكبر بملكوت الله ومعه الاثنا عشر {[13374]}ونسوة{[13375]} كن أبرأهن من الأمراض والأرواح الخبيثة : مريم التي تدعى المجدلانية{[13376]} التي أخرج منها{[13377]} سبعة شياطين ومرثا{[13378]} امراة{[13379]} خوزي خازن{[13380]} هين{[13381]} ودس وسوسنة{[13382]} وأخوات كثيرات{[13383]} ؛ وفي إنجيل لوقا : وفيما هو يعلم في أحد المجامع في السبت فإذا امرأة معها روح مزمن {[13384]}منذ ثمان عشرة{[13385]} سنة وكانت منحنية{[13386]} لا تقدر{[13387]} أن تستوي البتة ، فنظر إليها يسوع{[13388]} وقال : يا امرأة ! أنت محلولة{[13389]} من مرضك ووضع يده عليها ، فاستقامت للوقت ومجدت الله ، فأجاب رئيس الجماعة وهو مغضب{[13390]} وقال للجميع{[13391]} : لكم ستة أيام ينبغي العمل فيها{[13392]} وفيها تأتون وتستشفعون إلا في السبت ! فقال : يا مراؤون{[13393]} ! واحد منكم{[13394]} يحل ثوره أو حماره من المدود في السبت ويذهب فيسقيه وهذه{[13395]} ابنة إبراهيم كان الشيطان قد ربطها منذ ثمان عشرة سنة ! أما كان يحل أن تطلق من هذا الرباط في يوم السبت ؟ فلما قال هذا الكلام أخزى{[13396]} كل من كان يقاومه .
وكل الشعب كانوا يفرحون بالأعمال الحسنة التي كانت منه - انتهى .
وإنما كتبت هذا مع كون{[13397]} ما نقل عن نبينا صلى الله عليه وسلم كافياً لأنه لا يدفع أن يكون فيه إيناس له ومصادقة تزيد{[13398]} في الإيمان مع أن{[13399]} فيه دلائل رادة على النصارى في ادعائهم التثليث والاتحاد وأحسن ما ردّ{[13400]} على الإنسان من كلامه{[13401]} وبما{[13402]} يعتقده ، وسيأتي إن شاء الله سبحانه وتعالى في المائدة عند قوله سبحانه وتعالى : { وما من إله إلا الله } ما يلتفت إلى بعض هذا ويشرحه شرحاً جيداً نافعاً وكذا في جميع ما أنقله{[13403]} من الإنجيل كما ستراه إن شاء الله تعالى في مواضعه ، وكل ما فيه من متشابه لم تألفه مما يوهم اتحاداً أو تثليثاً{[13404]} فلا تزدد{[13405]} نفرتك منه و{[13406]}راجع ما سيقرر{[13407]} في آل عمران وغيرها يرجع معك إلى المحكم{[13408]} رجوعاً جلياً{[13409]} ، على أن أكثره إذا تؤملت أطرافه وجدته{[13410]} لا شبهة فيه أصلاً ، وإن لم تكن أهلاً للجري في مضمار ما ينسب إلى أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى{[13411]} عنه : كن ممن يعرف الرجال بالحق ولا تكن ممن يعرف الحق بالرجال ، فانظر كتاب الرد الجميل لإلهية عيسى بصريح الإنجيل لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي رحمه الله تعالى تجده أوّل كثيراً{[13412]} مما ذكرته بمثل تأويلي{[13413]} أو قريب منه ، ولم أر كتابه إلا بعد كتابتي{[13414]} لذلك - والله سبحانه وتعالى الموفق .
وفي الآية إشارة إلى أنه سبحانه وتعالى قضى{[13415]} {[13416]}بنزع نور{[13417]} العقل من المربي ودل على ذلك بقوله : { ذلك } أي الأمر البعيد من الصواب { بأنهم } أي المربون { قالوا } جدالاً لأهل الله{[13418]} { إنما البيع } أي الذي تحصرون{[13419]} الحل{[13420]} فيه يا أهل{[13421]} الإسلام { مثل الربا } في أن كلاًّ منهما معاوضة ، فنحن نتعاطى الربا كما تتعاطون أنتم البيع ، فما لكم تنكرونه علينا ؟ فَجعْلهُم الربا أصلاً انسلاخ مما{[13422]} أودعه الله في نور العقل وحكم الشرع وسلامة الطبع من الحكمة ؛ والبيع كما عرفه الفقهاء نقل ملك بثمن . وقال الحرالي : هو رغبة المالك عما في يده إلى ما في يد غيره ، والشراء رغبة المستملك فيما في يد غيره بمعاوضة بما في يده مما رغب عنه ، فلذلك{[13423]} كل{[13424]} شار{[13425]} بائع { وأحل } أي{[13426]} والحال أنه أحل { الله }{[13427]} الذي له تمام العظمة المقتضية للعدل { البيع } أي لما فيه من عدل الانتفاع ، لأنه معاوضة على سبيل النصفة للتراضي من الجانبين ، لأن الغبن{[13428]} فيه غير محقق على واحد منهما ، لأن من اشترى ما يساوي درهماً بدرهمين يمكن أن يبيعه بعد ذلك لرواجه أو وجود راغب فيه لأمر دعاه إليه بثلاثة { وحرم الربا } لما فيه من اختصاص أحد المتعاملين بالضرر والغبن والآخر بالاستئثار{[13429]} على وجه التحقيق ، فإن من أخذ درهماً بدرهمين لا يرجى خير ما فاته من ذلك الوجه أصلاً ، وكذلك{[13430]} ربا المضاعفة وهو ما إذا طلب دينه فكان الغريم معسراً فألزمه بالدفع أو الزيادة في الدين فإنه ليس في مقابلة هذا الزائد شيء ينتفع به المدين . قال الحرالي : فيقع الإيثار قهراً وذلك الجور الذي يقابله العدل الذي{[13431]} غايته الفضل ، فأجور الجور في الأموال{[13432]} الربا ، وأجور الجور في الربا الربا كالذي يقتل{[13433]} بقتيل{[13434]} قتيلين{[13435]} ، وكل من طفف في ميزان فتطفيفه{[13436]} ربا بوجه ما ؛ ولذلك تعددت أبواب الربا وتكثرت{[13437]} ؛ قال{[13438]} قال صلى الله عليه وسلم : " الربا{[13439]} بضع وسبعون باباً ، والشرك مثل ذلك وهذا رأسه " وهو ما كانت تتعامل{[13440]} به أهل الجاهلية ، من قولهم : إما أن تربي{[13441]} وإما أن تقضي ، ثم لحق به سائر أبوابه ، فهو انتفاع للمربي وتضرر للذي يعطي الربا ، وهذا أشد الجور بين العبيد الذين{[13442]} حظهم التساوي في أمر بلغة الدنيا ؛ فكما أعلمهم سبحانه وتعالى أثر حكمة{[13443]} الخير في الإنفاق{[13444]} أعلمهم أثر حكمة الشر في الربا في دار الآخرة وفي غيب أمر الدنيا{[13445]} وكما أنه يعجل للمنفق خلفاً في الدنيا كذلك يعجل للمربي محقاً في الدنيا حسب ما صرح به الخطاب بعد هذا الإشعار - انتهى .
ومادة بيع بجميع تقاليبها التسعة{[13446]} يائية وواوية{[13447]} مهموزة وغير مهموزة : بيع وعيب وعبي{[13448]} وبوع و{[13449]}بعو و{[13450]}وبع ووعب وعبو{[13451]} وعبا - تدور{[13452]} على الاتساع ، فالبيع يدور على التصرف التام بالقوة تارة وبالفعل أخرى ، والذي بالفعل يكون بالملك تارة وبغيره أخرى ، والذي بالملك يكون بالتحصيل تارة وبالإزالة أخرى ، ولا يخفى أن كل ذلك من الاتساع فمن الذي بالقوة : باعه من السلطان سعى به إليه ، وامرأة بائع إذا كانت نافقة{[13453]} لجمالها ، والبياعة السلعة ، والبيّع كسيد{[13454]} : المساوم ، وأبعته{[13455]} بمعنى عرضته للبيع ؛ ومن الذي بالفعل من{[13456]} غير ملك : باع على بيعه أي قام{[13457]} مقامه في المنزلة والرفعة{[13458]} و{[13459]}ظفر به ، وكذا أبعت الرجل فرساً{[13460]} أي أعرته{[13461]} إياه ليغزو عليه ؛ ومن الذي بالملك إزالة : بعته وأبعته أي أزلت ملكي عنه بثمن ، واستباعه سأله أن يبيعه منه ، وانباع نفق ، وانباع لي في سلعته سامح في بيعها و{[13462]}امتد إلى{[13463]} الإجابة إليه ؛ ومن{[13464]} الذي بالملك تحصيلاً{[13465]} : باع الشيء بمعنى اشتراه . قال الفارابي{[13466]} في ديوان الأدب : قال أبو ثروان{[13467]} : بع لي تمراً بدرهم - يريد اشتر ، وهذا الحرف من الأضداد ، وابتاعه : اشتراه . والعيب{[13468]} بمعنى الوصمة{[13469]} توسع{[13470]} الكلام في العرض وسببه توسع الإنسان في قول أو فعل على غير منهاج العقل{[13471]} ، والعيبة{[13472]} وعاء من أدم يوضع فيه المتاع وهي{[13473]} أيضاً الصدر{[13474]} والقلب وموضع السر ، والعائب من اللبن الخادر{[13475]} أي الآخذ طعم حموضة إما من {[13476]}العيب وإما لأنه انتشر عن طعمه الأول ؛ والعباية{[13477]} ضرب من الأكسية لاتساعه عن الأزر{[13478]} ونحوها طولاً وعرضاً والرجل الجافي الثقيل تشبيهاً بها في الخشونة والثقالة ، وتعبئة الجيش{[13479]} تهيئته من موضعه{[13480]} كأن مراكزه{[13481]} عياب{[13482]} له وضعت كل فرقة منه{[13483]} في عيبتها{[13484]} ، وعيبك{[13485]} من الجزور نصيبك{[13486]} ، والتعابي أن يميل رجل مع قوم وآخر مع آخرين لأن ذلك اتساع بالفريقين وانتشار من الرجلين ؛ ومن المهموز العبء - بالكسر وهو الحمل الثقيل من أي شيء كان لأنه بقدر وسع الحامل أو فوق وسعه وهو أوسع{[13487]} مما{[13488]} دونه من الأحمال ، وهو أيضاً العدل لأنه يسع ما يوضع فيه والمثل ، ويفتح لأن{[13489]} الاثنين أوسع من الواحد ، والعبء بالفتح ضياء الشمس وهو واضح في السعة ، وعبأ المتاع والأمر كمنع{[13490]} هيأ{[13491]} كعبأه تعبئة{[13492]} لأنه أعطاه ما يسعه ووضعه في مواضع تسعه{[13493]} ، والطيب صنعه وخلطه فاتسع بالخلط وانتشرت رائحته بالصنعة ؛ والعباء كساء معروف وهو يسع ما يلف به كالعباية{[13494]} ، والأحمق الثقيل الوخم وتقدم تخريجه ويمكن جعله{[13495]} من العبء بمعنى الحمل وبمعنى الثقيل والمعبأة{[13496]} كمكنسة خرقة الحائض لأنها بقدر ما يسعه الفرج ، و{[13497]}المعبأ كمقعد المذهب لاتساعه للذاهب فيه ، وما أعبأ به ما أصنع ، وبفلان : {[13498]}ما أبالي{[13499]} أي ما أوسع الفكر فيه - انتهى المهموز{[13500]} ؛ والباع{[13501]} قدر مد اليدين والشرف والكرم ، والبوع{[13502]} أبعاد خطو الفرس في جريه{[13503]} ، وبسط اليد بالمال ، والمكان المنهضم أي المطمئن في لصب{[13504]} الجبل - واللصب بالكسر الشعب الصغير من الجبل أضيق من اللهب وأوسع من الشقب{[13505]} ، واللهب مهواة{[13506]} ما{[13507]} بين كل جبلين أو الصدع في الجبل أو الشعب الصغير{[13508]} ، والشعب بالعين الطريق في الجبل ومسيل الماء في بطن أرض أو ما انفرج بين الجبلين ، والشقب بالقاف صدع يكون في لهوب الجبال ولصوب الأودية دون الكهف توكر{[13509]} فيه الطير - وباعة الدار ساحتها ، والبائع ولد الظبي إذا باع{[13510]} في مشيه ، و{[13511]}انباع العرق{[13512]} سال ، والحية بسطت{[13513]} نفسها بعد تحوّيها لتساور ؛ والوبّاعة الاست لاتساعها بخروج الخارج منها ، وكذبت وبّاعته أي حبق{[13514]} يعني ضرط ، والوباعة من الصبي ما يتحرك من يافوخه{[13515]} لامتداده إلى الحركة ، ووعبه كوعده أخذه أجمع ، كأوعبه واستوعبه ، وأوعب جمع ، والشيء في الشيء أدخله كله أي وسعه حتى دخل فيه ، والوعب من الطرق : الواسعة ، وبيت وعيب واسع ؛ والبعو الجناية والجرم لأن ذلك يوسع الكلام في العرض ، وهو أيضاً العارية ، وبعاه قمره{[13516]} وأصاب منه ، وبعاه بالعين أصابه بها كأنه{[13517]} وسع لعينه فيه حظاً .
ولما كان الوعظ{[13518]} كما قال الحرالي دعوة الأشياء بما فيها من العبرة{[13519]} للانقياد للإله الحق بما {[13520]}يخوفها ويقبضها{[13521]} في مقابلة التذكير بما يرجيها{[13522]} ويبسطها ، وكان فيما أخبر به سبحانه وتعالى عن حال المربي أتم زاجر لأن أجلّ ما للإنسان بعد روحه عقله سبب عن ذلك قوله : { فمن جاءه } قال الحرالي : أطلق{[13523]} الكلمة من علامة التأنيث النازل الرتبة ترفيعاً لقدر هذه الموعظة الخفية المدرك العظيمة الموقع { موعظة } بناء{[13524]} مبالغة وإعلاء{[13525]} لما أشعرت المفعلة{[13526]} الزائدة الحروف على أصل لفظ الوعظ بما يشعر{[13527]} به الميم{[13528]} من التمام والهاء من الانتهاء ، فوضع الأحكام حكمة ، والإعلام بثمراتها في الآخرة موعظة تشوق{[13529]} النفس إلى رغبتها ورهبتها - انتهى .
ولما كان التخويف من المحسن أردع لأن النفس منه أقبل قال : { من ربه } أي المربي له المحسن إليه بكل ما هو فيه{[13530]} من الخير . قال الحرالي : في إشعاره أن{[13531]} من أصل التربية الحمية من هذا الربا - انتهى . { فانتهى } أي عما كان سبباً للوعظ . قال الحرالي : أتى بالفاء المعقبة فلم يجعل فيه{[13532]} فسحة{[13533]} ولا قراراً{[13534]} عليه لما فيه من خبل{[13535]} العقل الذي هو أصل{[13536]} مزية الإنسانية وإن لم يشعر به حكماء الدنيا ولا أطباؤها - انتهى .
ولما كان السياق بما أرشد إليه التعليل بقوله : { ذلك بأنهم قالوا } دالاً على أن الآية في الكفرة وأن المراد بالأكل الاستحلال أكد ذلك بقوله : { فله ما سلف } أي من قبيح ما ارتكبه بعد أن كان عليه ولا يتبعه شيء{[13537]} من جريرته{[13538]} لأن الإسلام يجب ما قبله وتوبة المؤمن لا تجب المظالم . قال الحرالي : والسلف هو الأمر الماضي بكليته الباقي{[13539]} بخلفه{[13540]} ، وقال : {[13541]}في إعلامه{[13542]} إيذان بتحليل ما استقر في أيديهم من ربا الجاهلية ببركة توبتهم من استئناف العمل به في الإسلام لما كان الإسلام يجب ما قبله{[13543]} ، وفي طيّ إشعاره تعريض برده لمن يأخذ{[13544]} لنفسه{[13545]} بالأفضل ويقوي إشعاره قوله{[13546]} { وأمره إلى الله } انتهى ، أي{[13547]} فهو يعامله{[13548]} بما له من{[13549]} الجلال والإكرام{[13550]} بما يعلمه من نيته{[13551]} من خلوص وغيره .
ولما كان المربون بعد هذه الزواجر بعيدين من رحمة{[13552]} الله عبر عنهم سبحانه وتعالى بأداة البعد في قوله : { ومن عاد } أي إلى تحليل الربا بعد انتهائه عنه نكوباً{[13553]} عن حكمة ربه { فأولئك } أي البعداء من الله { أصحاب النار } ولما كانت نتيجة الصحبة الملازمة قال : { هم فيها خالدون* } .