33- والذين لا يجدون القدرة علي مؤونات الزواج ، فعليهم أن يسلكوا وسيلة أخرى كالصوم والرياضة{[148]} . والأعمال العقلية ، يعفون بها أنفسهم ، حتى يهيئ الله لهم من فضله ما يستطيعون به الزواج ، والأرقاء الذين يطلبون منكم تعاقداً علي دفع عوض مقابل عتقهم ، عليكم أن تجيبوهم إلي ما طلبوا ، إنْ علمتم أنهم سيصدقون في الوفاء ويستطيعون الأداء ، وعليكم أن تساعدوهم علي الوفاء بما تعاقدوا عليه ، وذلك مثلا بتخفيض ما اتفقتم عليه أو إعطائهم بعض المال الذي أنعم الله به عليكم بالزكاة أو الصدقة . ويحرم عليكم أن تجعلوا جواريكم وسيلة للكسب الدنيوي الرخيص باحتراف البغاء وتكرهوهن عليه . كيف تُكرِهُوهُنَّ وهن يردن العفاف ؟ ومن يكرههن عليه فإن الله يغفر لمن يكرهونهن بالتوبة عن الإكراه . لأن الله واسع المغفرة والرحمة .
قوله تعالى : { وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً } أي : ليطلب العفة عن الحرام والزنا الذين لا يجدون مالاً ينكحون به للصداق والنفقة ، { حتى يغنيهم الله من فضله } أي : يوسع عليهم من رزقه . قوله تعالى : { والذين يبتغون الكتاب } أي : يطلبون المكاتبة ، { مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم } سبب نزول هذه الآية ما روي أن غلاماً لحويطب بن عبد العزى سأل مولاه أن يكاتبه فأبى عليه ، فأنزل الله هذه الآية فكاتبه حويطب على مائة دينار ، ووهب له منها عشرين ديناراً فأداها ، وقتل يوم حنين في الحرب . والكتابة أن يقول الرجل لمملوكه : كاتبتك على كذا من المال ، ويسمي مالاً معلوماً ، يؤدي ذلك في نجمين أو نجوم معلومة في كل نجم كذا ، فإذا أديت فأنت حر ، والعبد يقبل ذلك ، فإذا أدى المال عتق ، ويصير العبد أحق بمكاسبه بعد أداء المال ، وإذا أعتق بعد أداء المال فما فضل في يده من المال ، يكون له ، ويتبعه أولاده الذين حصلوا في حال الكتابة في العتق ، وإذا عجز عن أداء المال كان لمولاه أن يفسخ كتابته ويرده إلى الرق ، وما في يده من المال يكون لمولاه ، لما أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنبأنا زاهر بن أحمد ، أنبأنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنبأنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن نافع ، أن عبد الله بن عمر كان يقول : " المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته شيء " . ورواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً : " المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته درهم " . وذهب بعض أهل العلم إلى أن قوله تعالى : { فكاتبوهم } أمر إيجاب ، يجب على المولى أن يكاتب عبده الذي علم فيه خيراً إذا سأل العبد ذلك ، على قيمته أو أكثر ، وإن سأل على أقل من قيمته فلا يجب ، وهو قول عطاء وعمرو بن دينار ، ولما روي أن سيرين سأل أنس بن مالك أن يكاتبه فتلكأ عنه فشكا إلى عمر ، فعلاه بالدرة وأمره بالكتابة فكاتبه . وذهب أكثر أهل العلم إلى أنه أمر ندب واستحباب ولا تجوز الكتابة على أقل من نجمين عند الشافعي ، لأنه عقد جوز إرفاقاً بالعبد ، ومن تتمة الإرفاق أن يكون ذلك المال عليه إلى أجل حتى يؤديه على مهل ، فيحصل المقصود ، كالدية في قتل الخطأ ، وجبت على العاقلة على سبيل المواساة فكانت عليهم مؤجلة منجمة ، وجوز أبو حنيفة الكتابة على نجم واحد وحالة . قوله تعالى : { إن علمتم فيهم خيراً } اختلفوا في معنى الخير ، فقال ابن عمر : قوة على الكسب . وهو قول مالك والثوري ، وقال الحسن ومجاهد والضحاك : مالاً ، كقوله تعالى : { إن ترك خيراً } أي : مالاً ، وروي أن عبداً لسلمان الفارسي قال له كاتبني ، قال : ألك مال ؟ قال : لا . قال : تريد أن تطعمني من أوساخ الناس ، ولم يكاتبه . قال الزجاج : لو أراد به المال لقال : إن علمتم لهم خيراً . وقال إبراهيم وابن زيد وعبيدة : صدقاً وأمانة . وقال طاوس ، وعمرو بن دينار : مالاً وأمانة . وقال الشافعي : وأظهر معاني الخبر في العبد : الاكتساب مع الأمانة ، فأحب أن لا يمنع من كتابته إذا كان هكذا .
أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني ، أنبأنا أبو الحسن بن علي بن شريك الشافعي ، أنبأنا عبد الله بن محمد بن مسلم ، أنبأنا أبو بكر الجورمندي ، أنبأنا يونس بن عبد الأعلى ، أنبأنا ابن وهب أخبرني الليث عن محمد بن عجلان ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاثة حق على الله عونهم : المكاتب الذي يريد الأداء ، والناكح يريد العفاف ، والمجاهد في سبيل الله " . وحكى محمد بن سيرين عن عبيدة : " إن علمتم فيهم خيرا " ً . أي : أقاموا الصلاة . وقيل : هو أن يكون العبد بالغاً عاقلاً ، فأما الصبي والمجنون فلا تصح كتابتهما لأن الابتغاء منهما لا يصح . وجوز أبو حنيفة كتابة الصبي المراهق . قوله عز وجل : { وآتوهم من مال الله الذي آتاكم } اختلفوا فيه ، فقال بعضهم : هذا خطاب للموالي ، يجب على المولى أن يحط عن مكاتبه من مال كتابته شيئاً ، وهو قول عثمان وعلي والزبير وجماعة ، وبه قال الشافعي . ثم اختلفوا في قدره ، فقال قوم : يحط عنه ربع مال الكتابة ، وهو قول علي ، ورواه بعضهم عن علي مرفوعاً ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يحط عنه الثلث . وقال الآخرون : ليس له حد بل عليه أن يحط عنه ما شاء ، وهو قول الشافعي . قال نافع : كاتب عبد الله بن عمر غلاماً له على خمسة وثلاثين ألف درهم فوضع عنه من آخر كتابته خمسة آلاف درهم . وقال سعيد بن جبير : كان ابن عمر إذا كاتب مكاتبه لم يضع عنه شيئاً من أول نجومه مخافة أن يعجز فترجع إليه صدقته ، ووضع من آخر كتابته ما أحب . وقال بعضهم : هو أمر استحباب . والوجوب أظهر . وقال قوم : أراد بقوله : { وآتوهم من مال الله } أي سهمهم الذي جعله الله لهم من الصدقات المفروضات ، بقوله تعالى : ( وفي الرقاب ) وهو قول الحسن وزيد بن أسلم . وقال إبراهيم : هو حث لجميع الناس على معونتهم . ولو مات المكاتب قبل أداء النجوم ، اختلف أهل العلم فيه : فذهب كثير منهم إلى أنه يموت رقيقاً ، وترتفع الكتابة ، سواء ترك مالاً أو لم يترك ، كما لو تلف المبيع قبل القبض يرتفع البيع . وهو قول عمر ، وابن عمر ، وزيد بن ثابت ، وبه قال عمر بن عبد العزيز ، والزهري ، وقتادة ، وإليه ذهب الشافعي وأحمد . وقال قوم : إن ترك وفاء بما بقي عليه من الكتابة كان حراً ، وإن كان فيه فضل ، فالزيادة لأولاده الأحرار ، وهو قول عطاء ، وطاووس ، والنخعي ، والحسن ، وبه قال مالك ، والثوري ، وأصحاب الرأي . ولو كاتب عبده كتابة فاسدة يعتق أداء المال لأن عتقه معلق بالأداء ، وقد وجد وتبعه الأولاد والاكتساب كما في الكتابة الصحيحة ، ويفترقان في بعض الأحكام : وهي أن الكتابة الصحيحة لا يملك المولى فسخها ما لم يعجز المكاتب عن أداء النجوم ، ولا تبطل بموت المولى ، ويعتق بالإبراء عن النجوم ، والكتابة الفاسدة يملك المولى فسخها قبل أداء المال ، حتى لو أدى المال بعد الفسخ لا يعتق ويبطل بموت المولى ، ولا يعتق بالإبراء عن النجوم ، وإذا عتق المكاتب بأداء المال لا يثبت التراجع في الكتابة الصحيحة ، ويثبت في الكتابة الفاسدة ، فيرجع المولى عليه بقيمة رقبته ، وهو يرجع على المولى بما دفع إليه إن كان مالاً . قوله عز وجل : { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً } الآية ، نزلت في عبد الله بن أبي سلول المنافق ، كانت له جاريتان : معاذة ومسيكة ، وكان يكرههما على الزنا بالضريبة يأخذها منهما ، وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية ، يؤاجرون إماءهم ، فلما جاء الإسلام قالت معاذة لمسيكة : إن هذا الأمر الذي نحن فيه لا يخلو من وجهين ، فإن يك خيراً فقد استكثرنا منه ، وإن يك شراً فقد آن لنا أن ندعه ، فأنزل الله هذه الآية . وروي أنه جاءت الجاريتين يوماً ببرد وجاءت الأخرى بدينار ، فقال لهما : ارجعا فازنيا ، قالتا : والله لا نفعل ، قد جاء الإسلام وحرم الزنا ، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكتا إليه ، فأنزل الله هذه الآية : { ولا تكرهوا فتياتكم } إماءكم على البغاء . أي : الزنا { إن أردن تحصناً } أي : إذا أردن ، وليس معناه الشرط ، لأنه لا يجوز إكراههن على الزنا وإن لم يردن تحصناً ، كقوله تعالى : { وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } أي : إذا كنتم مؤمنين وقيل : شرط إرادة التحصن لأن الإكراه إنما يكون عند إرادة التحصن ، فإذا لم ترد التحصن بغت طوعاً ، والتحصن : التعفف . وقال الحسن بن الفضل : في الآية تقديم وتأخير تقديرها : ( وأنكحوا الأيامى منكم ) إن أردن تحصناً ( ولا تكرهوا فتياتكم ) على البغاء . { لتبتغوا عرض الحياة الدنيا } أي : لتطلبوا من أموال الدنيا ، يريد من كسبهن وبيع أولادهن ، { ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم } يعني المكرهات ، والوزر على المكره . وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال : لهن والله لهن .
وفي انتظار قيام الجماعة بتزويج الأيامى يأمرهم بالاستعفاف حتى يغنيهم الله بالزواج : ( وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله ) . . ( والله واسع عليم ) . . لا يضيق على من يبتغي العفة ، وهو يعلم نيته وصلاحه .
وهكذا يواجه الإسلام المشكلة مواجهة عملية ؛ فيهيئ لكل فرد صالح للزواج أن يتزوج ؛ ولو كان عاجزا من ناحية المال . والمال هو العقبة الكؤود غالبا في طريق الإحصان .
ولما كان وجود الرقيق في الجماعة من شأنه أن يساعد على هبوط المستوى الخلقي ، وأن يعين على الترخص والإباحية بحكم ضعف حساسية الرقيق بالكرامة الإنسانية . وكان وجود الرقيق ضرورة إذ ذاك لمقابلة أعداء الإسلام بمثل ما يعاملون به أسرى المسلمين . لما كان الأمر كذلك عمل الإسلام على التخلص من الأرقاء كلما واتت الفرصة . حتى تتهيأ الأحوال العالمية لإلغاء نظام الرق كله ، فأوجب إجابة الرقيق إلى طلب المكاتبة على حريته . وذلك في مقابل مبلغ من المال يؤديه فينال حريته :
( والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم . إن علمتم فيهم خيرا ) . .
وآراء الفقهاء مختلفة في هذا الوجوب . ونحن نراه الأولى ؛ فهو يتمشى مع خط الإسلام الرئيسي في الحرية وفي كرامة الإنسانية . ومنذ المكاتبة يصبح مال الرقيق له ، وأجر عمله له ، ليوفي منه ما كاتب عليه ؛ ويجب له نصيب في الزكاة : ( وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ) . ذلك على شرط أن يعلم المولى في الرقيق خيرا . والخير هو الإسلام أولا . ثم هو القدرة على الكسب . فلا يتركه كلا على الناس بعد تحرره . وقد يلجأ إلى أحط الوسائل ليعيش ، ويكسب ما يقيم أوده . والإسلام نظام تكافل . وهو كذلك نظام واقع . فليس المهم أن يقال : إن الرقيق قد تحرر . وليست العنوانات هي التي تهمه . إنما تهمه الحقيقة الواقعة . ولن يتحرر الرقيق حقا إلا إذا قدر على الكسب بعد عتقه ؛ فلم يكن كلا على الناس ؛ ولم يلجأ إلى وسيلة قذرة يعيش منها ، ويبيع فيها ما هو أثمن من الحرية الشكلية وأغلى ، وهو أعتقه لتنظيف المجتمع لا لتلويثه من جديد ؛ بما هو أشد وأنكى .
وأخطر من وجود الرقيق في الجماعة ، احتراف بعض الرقيق للبغاء . وكان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة أرسلها تزني ؛ وجعل عليها ضريبة يأخذها منها - وهذا هو البغاء في صورته التي ما تزال معروفة حتى اليوم - فلما أراد الإسلام تطهير البيئة الإسلامية حرم الزنا بصفة عامة ؛ وخص هذه الحالة بنص خاص :
( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء . إن أردن تحصنا . لتبتغوا عرض الحياة الدنيا . ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم ) .
فنهى الذين يكرهون فتياتهم على هذا المنكر ، ووبخهم على ابتغاء عرض الحياة الدنيا من هذا الوجه الخبيث . ووعد المكرهات بالمغفرة والرحمة ، بعد الإكراه الذي لا يد لهن فيه .
قال السدي : أنزلت هذه الآية الكريمة في عبد الله بن أبي بن سلول ، رأس المنافقين ، وكانت له جارية تدعى معاذة . وكان إذ نزل به ضيف أرسلها إليه ليواقعها ، إرادة الثواب منه ، والكرامة له . فأقبلت الجارية إلى أبي بكر - رضي الله عنه - فشكت إليه ذلك ؛ فذكره أبو بكر للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] فأمره بقبضها . فصاح عبد الله بن أبي : من يعذرنا من محمد ? يغلبنا على مملوكتنا ! فأنزل الله فيهم هذا .
هذا النهي عن إكراه الفتيات على البغاء - وهن يردن العفة - ابتغاء المال الرخيص كان جزءا من خطة القرآن في تطهير البيئة الإسلامية ، وإغلاق السبل القذرة للتصريف الجنسي . ذلك أن وجود البغاء يغري الكثيرين لسهولته ؛ ولو لم يجدوه لانصرفوا إلى طلب هذه المتعة في محلها الكريم النظيف .
ولا عبرة بما يقال من أن البغاء صمام أمن ، يحمي البيوت الشريفة ؛ لأنه لا سبيل لمواجهة الحاجة الفطرية إلا بهذا العلاج القذر عند تعذر الزواج . أو تهجم الذئاب المسعورة على الأعراض المصونة ، إن لم تجد هذا الكلأ المباح !
إن في التفكير على هذا النحو قلبا للأسباب والنتائج . فالميل الجنسي يجب أن يظل نظيفا بريئا موجها إلى إمداد الحياة بالأجيال الجديدة . وعلى الجماعات أن تصلح نظمها الاقتصادية بحيث يكون كل فرد فيها في مستوى يسمح له بالحياة المعقولة وبالزواج . فإن وجدت بعد ذلك حالات شاذة عولجت هذه الحالات علاجا خاصا . . وبذلك لا تحتاج إلى البغاء ، وإلى إقامة مقاذر إنسانية ، يمر بها كل من يريد أن يتخفف من أعباء الجنس ، فيلقي فيها بالفضلات ، تحت سمع الجماعة وبصرها !
إن النظم الاقتصادية هي التي يجب أن تعالج ، بحيث لا تخرج مثل هذا النتن . ولا يكون فسادها حجة على ضرورة وجود المقاذر العامة ، في صور آدمية ذليلة .
وهذا ما يصنعه الإسلام بنظامه المتكامل النظيف العفيف ، الذي يصل الأرض بالسماء ، ويرفع البشرية إلى الأفق المشرق الوضيء المستمد من نور الله .
«استعف » وزنه استفعل ومعناه طلب أن يكون عفيفاً ، فأمر الله تعالى في هذه الآية كل من يتعذر عليه النكاح ولا يجده بأي وجه تعذر أن يستعف ، ثم لما كان أغلب الموانع على النكاح عدم المال وعد بالإغناء من فضله ، فعلى هذا التأويل يعم الأمر بالاستعفاف كل من تعذر عليه النكاح بأي وجع تعذر ، وقالت جماعة من المفسرين «النكاح » في هذه الآية اسم ما يمهر وينفق في الزواج كاللحاف واللباس لما يلتحف به ويلبس ، قال القاضي وحملهم على هذا قوله : { حتى يغنيهم الله من فضله } ، فظنوا أن المأمور بالاستعفاف إنما هو من عدم المال الذي يتزوج به ، وفي هذا القول تخصيص المأمورين بالاستعفاف وذلك ضعيف{[8708]} ، ثم أمر الله تعالى المؤمنين كافة أن يكاتب منهم كل من له مملوك ، وطلب المملوك الكتابة وعلم سيده منه { خيراً } ، قال النقاش سببها أن غلاماً لحويطب بن عبد العزى سأل مولاه الكتابة فأبى عليه ، وقال مكي هو صبيح القبطي غلام حاطب بن أبي بلتعة ، ولفظ { الكتاب } في الآية مصدر كالقتال والجلاد ونحوه من مصادر فاعل ، والمكاتبة مفاعلة من حيث هذا يكتب على نفسه وهذا على نفسه ، واختلف الناس هل هذا الأمر بالكتابة على الوجوب أو على الندب على قولين ، فمذهب مالك رحمه الله أن ذلك على الندب ، وقال عطاء ذلك واجب وهو ظاهر قول عمر لأنس بن مالك في سيرين حين سأل سيرين الكتابة فتلكأ أنس فقال عمر كاتبه أو لأضربنك بالدرة ، وهو قول عمرو بن دينار والضحاك{[8709]} ، واختلف الناس في المراد ب «الخير » ، فقالت فرقة : هو المال ولم تر على سيد عبد أن يكاتب إلا إذا علم أن له مالاً يؤدي منه أو من التجر فيه{[8710]} ، وروي عن ابن عمر وسلمان أنهما أبيا من كتابة عبدين رغبا في الكتابة ووعدا باسترفاق الناس ، فقال كل واحد منهما لعبده أتريد أن تطعمني أوساخ الناس ، وقال مالك إنه ليقال «الخير » القوة والأداء ، وقال الحسن بن أبي الحسن «الخير » هو صدق الموعد وقلة الكذب والوفاء وإن لم يكن للعبد مال ، وقال عبيدة السلماني «الخير » هو الصلاح في الدين عَ وهذا في ضمنه القول الذي قبله ، والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم ، وحرمة العتق إنما يتلبس بها بعد الأداء هذا قول جمهور الأمة ، وقال ابن مسعود إذا أدى ثلث الكتابة فهو عتيق غريم ، وقال علي بن أبي طالب العتاقة تجري فيه بأول نجم يؤديه{[8711]} ، وقوله تعالى : { وآتوهم } ، قال المفسرون هو أمر لكل مكاتب أن يضع للعبد من مال كتابته ، واستسحن ذلك علي بن أبي طالب أن يكون ذلك ربع الكتابة ، قال الزهراوي وروي ذلك عن النبي عليه السلام{[8712]} ، واستحسن الحسن بن أبي الحسن وابن مسعود ثلثها وقال قتادة عشرها ، ورأى عمر بن الخطاب أن يكون ذلك من أول نجومه مباردة إلى الخير خوف أن لا يدرك آخرها ، ورأى مالك رحمه الله وغيره أن يكون الوضع من آخر نجم ، وعلة ذلك أنه إذا وضع من أول نجم ربما عجز العبد ، فرجع هو وماله إلى السيد ، فعادت إليه وضيعته ، وهي شبه الصدقة ، وهذا قول عبد الله بن عمر ، ورأى مالك رحمه الله هذا الأمر على الندب ولم ير لقدر الوضيعة حداً ، ورأى الشافعي وغيره الوضيعة واجبة يحكم بها الحاكم على المكاتب وعلى ورثته ، وقال الحسن والنخعي ، وبريدة إنما الخطاب بقوله تعالى : { وآتوهم } للناس أجمعين في أن يتصدقوا على المكاتبين وأن يعينوهم في فكاك رقابهم ، وقال زيد بن أسلم إنما الخطاب لولاة الأمور بأن يعطوا المكاتبين من مال الصدقة حظهم وهو الذي تضمنه قوله تعالى :
{ وفي الرقاب }{[8713]} [ البقرة : 177 ] .
{ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ ءَايَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِين }
روي أن سبب هذه الآية هو أن عبد الله بن أبي ابن سلول كانت له أمة تسمى مسيكة ، وقيل معادة{[8714]} ، فكان يأمرها بالزنا والكسب به ، فشكت ذلك إلى النبي عليه السلام ، فنزلت الآية فيه وفيمن فعل فعله من المنافقين وقوله : { إن أردن تحصناً } راجع إلى «الفتيات » ، وذلك أن الفتاة إذا أرادت التحصن فحينئذ يتصور ويمكن أن يكون السيد مكرهاً ، ويمكن أن ينهى عن الإكراه وإذا كانت الفتاة لا تريد التحصن ، فلا يتصور أن يقال للسيد لا تكرهها لأن الإكراه لا يتصور فيها هي مريدة للزنا ، فهذا أمر في سادة وفتيات{[8715]} حالهم هذه ، وذهب هذا النظر عن كثير من المفسرين فقال بعضهم قوله : { إن أردن } راجع إلى { الأيامى } [ النور : 32 ] في قوله : { وأنكحوا الأيامى منكم } ، وقال بعضهم هذا الشرط في قوله : { إن أردن } ملغى ونحو هذا مما ضعف والله الموفق للصواب برحمته ، وعرض { الحياة الدنيا } ، في هذه الآية الشيء الذي تكتسبه الأمة بفرجها ومعنى باقي الآية بين { فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم } ، بهن ، وقد يتصور الغفران والرحمة بالمكرهين بعد أن تقع التوبة من ذلك ، فالمعنى { غفور } لمن تاب ، وقرأ ابن مسعود وجابر بن عبد الله وابن جبير «لهن غفور رحيم » بزيادة «لهن » .