7- ما رده الله على رسوله من أموال أهل القرى بغير إيجاف خيل أو ركوب ، فهو لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ؛ كيلا تكون الأموال متداولة بين الأغنياء منكم خاصة ، وما جاءكم به الرسول من الأحكام فتمسكوا به ، وما نهاكم عنه فاتركوه ، واجعلوا لكم وقاية من غضب الله . إن الله شديد العقاب .
قوله عز وجل : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } يعني من أموال كفار أهل القرى ، قال ابن عباس : هي قريظة والنضير وفدك وخيبر وقرى عرينة ، { فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } ، قد ذكرنا في سورة الأنفال حكم الغنيمة وحكم الفيء . إن مال الفيء كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته يضعه حيث يشاء وكان ينفق منه على أهله نفقة سنتهم ويجعل ما بقي مجعل الله . واختلف أهل العلم في مصرف الفيء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال قوم : هو للأئمة بعده ، وللشافعي فيه قولان : أحدهما- هو للمقاتلة ، والثاني : لمصالح المسلمين ، ويبدأ بالمقاتلة ثم بالأهم فالأهم من المصالح . واختلفوا في تخميس مال الفيء : فذهب بعضهم إلى أنه يخمس ، فخمسه لأهل الغنيمة ، وأربعة أخماسه للمقاتلة وللمصالح ، وذهب الأكثرون إلى أنه لا يخمس بل مصرف جميعه واحد ، ولجميع المسلمين فيه حق ، قرأ عمر بن الخطاب :{ ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى }( الحشر 7-12 ) ، حتى بلغ : { للفقراء المهاجرين والذين جاؤوا من بعدهم } ثم قال : هذه استوعبت المسلمين عامة ، وقال : ما على وجه الأرض مسلم إلا له في هذا الفيء حق إلا ما ملكت أيمانكم . { كيلا يكون دولةً } قرأ العامة بالياء دولة نصب أي لكيلا يكون الفيء دولة ، وقرأ أبو جعفر : تكون بالتاء " دولة " بالرفع على اسم كان ، أي : كيلا يكون الأمر إلى دولة ، وجعل الكينونة بمعنى الوقوع وحينئذ لا خبر له . والدولة اسم للشيء الذي يتداوله القوم بينهم ، { بين الأغنياء منكم } يعني بين الرؤساء والأقوياء ، معناه كيلا يكون الفيء دولة بين الأغنياء والأقوياء فيغلبوا عليه الفقراء والضعفاء ، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا اغتنموا غنيمة أخذ الرئيس ربعها لنفسه ، وهو المرباع ، ثم يصطفي منها بعد المرباع ما شاء ، فجعله الله لرسوله صلى الله عليه وسلم يقسمه فيما أمر به ، ثم قال : { وما آتاكم } أعطاكم ، { الرسول } من الفيء والغنيمة ، { فخذوه وما نهاكم عنه } من الغلول وغيره ، { فانتهوا } وهذا نازل في أموال الفيء ، وهو عام في كل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ونهى عنه .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال : ( لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله ) ، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب ، فجاءت فقالت : إنه بلغني أنك كيت وكيت ، فقال : وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله تعالى ؟ فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول : قال : لئن كنت قرأته لقد وجدته أما قرأت : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا }( الحشر- 7 ) ؟ قالت : بلى ، قال : فإنه قد نهى عنه . { واتقوا الله إن الله شديد العقاب } .
( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل . . كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم . وما آتاكم الرسول فخذوه . وما نهاكم عنه فانتهوا . واتقوا الله إن الله شديد العقاب ) . .
وتبين هذه الآية الحكم الذي أسلفنا تفصيلا . ثم تعلل هذه القسمة فتضع قاعدة كبرى من قواعد التنظيم الاقتصادي والإجتماعي في المجتمع الإسلامي : ( كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم ) . . كما تضع قاعدة كبرى في التشريع الدستوري للمجتمع الإسلامي : ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) . . ولو أن هاتين القاعدتين جاءتا بمناسبة هذا الفيء وتوزيعه ، إلا أنهما تتجاوزان هذا الحادث الواقع إلى آماد كثيرة في أسس النظام الاجتماعي الإسلامي .
والقاعدة الأولى ، قاعدة التنظيم الاقتصادي ، تمثل جانبا كبيرا من أسس النظرية الاقتصادية في الإسلام . فالملكية الفردية معترف بها في هذا النظرية . ولكنها محددة بهذه القاعدة . قاعدة ألا يكون المال دولة بين الأغنياء ، ممنوعا من التداول بين الفقراء . فكل وضع ينتهي إلى أن يكون المال دولة بين الإغنياء وحدهم هو وضع يخالف النظرية الاقتصادية الإسلامية كما يخالف هدفا من أهداف التنظيم الاجتماعي كله . وجميع الارتباطات والمعاملات في المجتمع الإسلامي يجب أن تنظم بحيث لا تخلق مثل هذا الوضع أو تبقي عليه إن وجد .
ولقد أقام الإسلام بالفعل نظامه على أساس هذه القاعدة . ففرض الزكاة . وجعل حصيلتها في العام اثنين ونصفا في المئة من أصل رؤوس الأموال النقدية ، وعشرة أو خمسة في المئة من جميع الحاصلات . وما يعادل ذلك في الأنعام . وجعل الحصيلة في الركاز وهو كنوز الأرض مثلها في المال النقدي . وهي نسب كبيرة . ثم جعل أربعة أخماس الغنيمة للمجاهدين فقراء وأغنياء بينما جعل الفيء كله للفقراء . وجعل نظامه المختار في إيجار الأرض هو المزارعة - أي المشاركة في المحصول الناتج بين صاحب الأرض وزارعها . وجعل للإمام الحق في أن يأخذ فضول أموال الأغنياء فيردها على الفقراء . وأن يوظف في أموال الأغنياء عند خلو بيت المال . وحرم الاحتكار . وحظر الربا . وهما الوسيلتان الرئيسيتان لجعل المال دولة بين الأغنياء .
وعلى الجملة أقام نظامه الاقتصادي كله بحيث يحقق تلك القاعدة الكبرى التي تعد قيدا أصيلا على حق الملكية الفردية بجانب القيود الأخرى .
ومن ثم فالنظام الإسلامي نظام يبيح الملكية الفردية ، ولكنه ليس هو النظام الرأسمالي ، كما أن النظام الرأسمالي ليس منقولا عنه ، فما يقوم النظام الرأسمالي إطلاقا بدون ربا وبدون احتكار ، إنما هو نظام خاص من لدن حكيم خبير . نشأ وحده . وسار وحده ، وبقي حتى اليوم وحده . نظاما فريدا متوازن الجوانب ، متعادل الحقوق والواجبات ، متناسقا تناسق الكون كله . مذ كان صدوره عن خالق الكون . والكون متناسق موزون !
فأما القاعدة الثانية - قاعدة تلقي الشريعة من مصدر واحد : ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) . . فهي كذلك تمثل النظرية الدستورية الإسلامية . فسلطان القانون في الإسلام مستمد من أن هذا التشريع جاء به الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] قرآنا أو سنة . والأمة كلها والإمام معها لا تملك أن تخالف عما جاء به الرسول . فإذا شرعت ما يخالفه لم يكن لتشريعها هذا سلطان ، لأنه فقد السند الأول الذي يستمد منه السلطان . . وهذه النظرية تخالف جميع النظريات البشرية الوضعية ، بما فيها تلك التي تجعل الأمة مصدر السلطات ، بمعنى أن للأمة أن تشرع لنفسها ما تشاء ، وكل ما تشرعه فهو ذو سلطان . فمصدر السلطات في الإسلام هو شرع الله الذي جاء به الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] والأمة تقوم على هذه الشريعة وتحرسها وتنفذها - والإمام نائب عن الأمة في هذا - وفي هذا تنحصر حقوق الأمة . فليس لها أن تخالف عما آتاها الرسول في أي تشريع .
فأما حين لا توجد نصوص فيما جاء به الرسول بخصوص أمر يعرض للأمة فسبيلها أن تشرع له بما لا يخالف أصلا من أصول ما جاء به الرسول . وهذا لا ينقض تلك النظرية ، إنما هو فرع عنها . فالمرجع في أي تشريع هو أن يتبع ما جاء به الرسول إن كان هناك نص . وألا يخالف أصلا من أصوله فيما لا نص فيه . وتنحصر سلطة الأمة - والإمام النائب عنها - في هذه الحدود . وهو نظام فريد لا يماثله نظام آخر مما عرفته البشرية من نظم وضعية . وهو نظام يربط التشريع للناس بناموس الكون كله . وينسق بين ناموس الكون الذي وضعه الله له والقانون الذي يحكم البشر وهو من الله . كي لا يصطدم قانون البشر بناموس الكون ، فيشقى الإنسان أو يتحطم أو تذهب جهوده أدراج الرياح !
وتربط الآية هاتين القاعدتين في قلوب المؤمنين بمصدرهما الأول . . وهو الله . . فتدعوهم إلى التقوى وتخوفهم عقاب الله : ( واتقوا الله إن الله شديد العقاب ) . . وهذا هو الضمان الأكبر الذي لا احتيال عليه ، ولا هروب منه . فقد علم المؤمنون أن الله مطلع على السرائر ، خبير بالأعمال ، وإليه المرجع والمآب . وعلموا أنه شديد العقاب . وعلموا أنهم مكلفون ألا يكون المال دولة بينهم ، وأن يأخذوا ما آتاهم الرسول عن رضى وطاعة ، وأن ينتهوا عما نهاهم عنه في غير ترخص ولا تساهل وأمامهم يوم عصيب . .
ولقد كان توزيع ذلك الفيء - فيء بني النضير - على المهاجرين وحدهم عدا رجلين من الأنصار إجراء خاصا بهذا الفيء ، تحقيقا لقاعدة : ( كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم ) . . فأما الحكم العام ، فهو أن يكون للفقراء عامة . من المهاجرين ومن الأنصار وممن يأتي بعدهم من الأجيال . وهذا ما تضمنته الآيات التالية في السياق .
{ أهل القرى } المذكورون في هذه الآية هم أهل الصفراء والينبوع ووادي القرى ، وما هنالك من قرى العرب التي تسمى قرى عربية ، وحكمها مخالف لبني النضير ، ولم يحبس من هذه رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه شيئاً بل أمضاها لغيره ، وذلك أنها في ذلك الوقت فتحت ، واختلف الناس في صفة فتحها فقيل : عن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعث بعثاً إلى كل مكان فطاع وأعطاه أهله فكان مما لم يوجف عليه ، وكان حكمه حكم خمس الغنائم ، وليس في الآية نسخ على هذا التأويل ، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع ذلك للمهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئاً . وقال قتادة وزيد بن رومان : كانت هذه القرى قد أوجف عليها ، ولكن هذا حكم ما يوجف عليه ، ثم نسخ الله تعالى هذا الحكم بآية الأنفال فجعل فيها الخمس لهذه الأصناف وبقيت الأربعة الأخماس للمقاتلة ، وآية هذه السورة لم يكن فيها للمقاتلة شيء ، وهذا القول يضعف ، لأن آية الأنفال نزلت إثر بدر وقبل بني النضير وقبل أمر هذه القرى بسنة ونيف . و { القربى } في هذه الآية قرابة النبي صلى الله عليه وسلم منعوا الصدقة وعوضوا من الفيء .
وقوله تعالى : { كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم } مخاطبة للأنصار لأنه لم يكن في المهاجرين في ذلك الوقت غني ، وقرأ جمهور الناس «يكون » بالياء ، وقرأ أبو جعفر وابن مسعود وهشام عن ابن عامر : بالتاء وهي كان التامة . وقرأ جمهور الناس : «دُولةً » بضم الدال ونصب الهاء . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي : «دَولةً » بفتح الدال ونصب الهاء . وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وهشام عن ابن عامر : «دُولةٌ » بضم الدال والهاء . وقال عيسى بن عمر هما بمعنى واحد . وقال الكسائي وحذاق النظرة الفتح في المُلك : بضم الميم لأنها الفعلة في الدهر والضم في المِلك بكسر الميم . والمعنى أنها كالعواري فيتداول ذلك المال الأغنياء بتصرفاتهم ويبقى المساكين بلا شيء ولا حظ في شيء من هذه الأموال ليتيم غني ولا لابن سبيل حاضر المال ، وقد مضى القول في الغنائم في سورة الأنفال ، وروي : أن قوماً من الأنصار تكلموا في هذه القرى المفتتحة وقالوا : لنا منها سهمنا فنزل قوله تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه } الآية ، مؤدباً في ذلك وزاجراً ثم اطرد بعد معنى الآية في أوامر النبي صلى الله عليه وسلم ونواهيه حتى قال قوم إن الخمر محرمة في كتاب الله بهذه الآية ، وانتزع منها ابن مسعود : لعنة الواشمة والمستوشمة الحديث{[11023]} . ورأى محرماً في ثيابه المخيطة . فقال له : اطرح هذا عنك ، فقال له الرجل : أتقرأ علي بذلك آية من كتاب الله تعالى فقال ابن مسعود : نعم ، وتلا هذه الآية .