فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِ كَيۡ لَا يَكُونَ دُولَةَۢ بَيۡنَ ٱلۡأَغۡنِيَآءِ مِنكُمۡۚ وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (7)

{ ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } هذا بيان لمصارف الفيء بعد بيان أنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، خاصة ، والتكرير لقصد التقرير والتأكيد ، ووضع أهل القرى موضع منهم أي من بني النضير للإشعار بأن هذا الحكم لا يختص ببني النضير وحدهم بل هو حكم على كل قرية يفتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، صلحا ولم يوجف عليها المسلمون بخيل ولا ركاب قيل : والمراد بالقرى بنو النضير وقريظة وهما بالمدينة وفدك وهي على ثلاثة أميال من المدينة وخيبر وقرى عرينة وينبع وقد تكلم أهل العلم في هذه الآية والتي قبلها هل معناها متفق أو مختلف ؟ فقيل : متفق ، كما ذكرنا وقيل : مختلف ، وفي ذلك كلام طويل لأهل العلم .

قال ابن العربي : لا إشكال أنها ثلاثة معان في ثلاث آيات ، أما الآية الأولى وهي قوله : { وما أفاء الله على رسوله منهم } فهي خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم ، خالصة له وهي أموال بني النضير ، وما كان مثلها وأما الآية الثانية وهي { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } فهذا كلام مبتدأ غير الأول لمستحق غير الأول وإن اشتركت هي والأولى في أن كل واحدة منهما تضمنت شيئا أفاءه الله على رسوله واقتضت الآية الأولى أنه حاصل بغير قتال ، واقتضت آية الأنفال وهي الآية الثالثة أنه حصل بقتال ، وعريت الآية الثانية وهي ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى عن ذكر حصوله بقتال أو بغير قتال ، فنشأ الخلاف من ههنا ، فطائفة قالت : هي ملحقة بالأولى وهي مال الصلح ، وطائفة قالت : هي ملحقة بالثالثة وهي آية الأنفال ، والذين قالوا إنها ملحقة بآية الأنفال اختلفوا هل هي منسوخة أو محكمة ؟ هذا حاصل كلامه .

وقال مالك : إن الآية الأولى من هذه السورة خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم ، والآية الثانية هي في نبي قريظة ، ويعني أن معناها يعود إلى آية الأنفال ، ومذهب الشافعي أن سبيل خمس الفيء سبيل خمس الغنيمة ، وأن أربعة أخماسه كانت للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهي بعده لمصالح المسلمين .

{ فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } المراد بقوله : { لله } أنه يحكم فيه بما يشاء للرسول يكون ملكا له ، { ولذي القربى } وهم بنو هاشم وبنو المطلب ، لأنهم قد منعوا من الصدقة ، فجعل لهم حقا في الفيء قيل : تكون القسمة في هذا المال على أن تكون أربعة أخماسه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخمسه يقسم أخماسا للرسول خمس ، ولكل صنف من الأصناف الأربعة المذكورة خمس ، وقيل : يقسم أسدادا ، السادس سهم الله سبحانه ، ويصرف إلى وجه القرب ، كعمارة المساجد ونحو ذلك .

وعن ابن عباس قال : كان ما أفاء الله على رسوله من خيبر نصف لله ورسوله ، والنصف الآخر للمسلمين فكان الذي لله ورسوله من ذلك الكثبة والوطيح والسلالم ووحدوه وكان الذي للمسلمين الشق ، والشق ثلاثة عشر سهما ، ونطاة خمسة أسهم ، ولم يقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من خيبر لأحد من المسلمين إلا لمن شهد الحديبية ولم يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد من المسلمين تخلف عنه عند مخرجه الحديبية أن يشهد معه خيبر إلا جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري .

واخرج أبو داود عن عمر بن الخطاب قال : " كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، صفايا في النضير وخيبر وفدك ، فأما بنو النضير فكانت حبسا لنوائبه ، وأما فدك فكان لابن السبيل . وأما خيبر فجزأها ثلاثة أجزاء ، قسم منها جزءين بين المسلمين ، وحبس جزءا لنفسه ولنفقة أهله ، فما فضل عن نفقة أهله رده على فقراء المهاجرين " ، قال البقاعي : ومن زعم أن شيئا مما في هذه السورة نسخ بشيء مما في سورة الأنفال فقد أخطأ ، لأن الأنفال نزلت في بدر ، وهي قبل هذه بمدة .

{ كيلا يكون } الفيء { دولة بين الأغنياء منكم } دون الفقراء ، والدولة اسم لشيء يتداوله القوم بينهم ، يكون لهذا مرة ، ولهذا مرة ، قال مقاتل : المعنى أنه يغلب الأغنياء الفقراء فيقسمونه بينهم ، قرأ الجمهور يكون بالتحتية ، ودولة بالنصب ، وقرئ بالفوقية ودولة بالرفع ، أي كيلا تقع أو توجد دولة ، وكان تامة ، وقرأ الجمهور دولة بضم الدال ، وقرئ بفتحها ، قال عيسى بن عمر ، ويونس ، والأصمعي : هما لغتان بمعنى واحد ، وقال أبو عمرو بن العلاء : الدولة بالفتح الذي يتداول من الأموال ، وبالضم الفعل وكذا قال أبو عبيدة وجمع المفتوح دول مثل قطعة وقصع ، وجمع المضموم دول مثل غرفة وغرف ، وقيل : بالضم في المال ، وبالفتح في الحرب ، ودالت الأيام تدول مثل دارت الأيام تدور وزنا ومعنى ، وقيل : بالفتح من الملك بضم الميم ، وبالضم من الملك بكسر الميم ، قال عمر بن الخطاب ما على وجه الأرض مسلم إلا وله حق في هذا الفيء ، إلا ما ملكت أيمانكم .

ثم لما بين سبحانه مصارف هذا المال أمرهم بالاقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم فقال :{ وما آتاكم الرسول } أي ما أعطاكم من مال الغنيمة والفيء ، { فخذوه وما نهاكم عنه } أي عن أخذه { فانتهوا } عنه ولا تأخذوه ، قال الحسن والسدي : ما أعطاكم من مال الفيء فاقبلوه ، وما منعكم منه فلا تطلبوه ، وقال ابن جريج : ما أعطاكم من طاعتي فافعلوه ، وما نهاكم من معصيتي فاجتنبوه والحق أن هذه الآية عامة في كل شيء يأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن أمر أو نهي ، أو قول أو فعل ، وإن كان السبب خاصا فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وكل شيء أتانا به من الشرع فقد أعطانا إياه وأوصله إلينا ، وما أنفع هذه الآية أكثر فائدتها ، قال الماوردي : إنه محمول على العموم في جميع أوامره ونواهيه ، لا يأمر إلا بإصلاح ، ولا ينهي إلا عن فساد قال المهدوي : هذا يوجب أن كل ما أمر به النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر من الله تعالى ، وإن كانت الآية خاصة بالغنائم : فجميع أوامره ونواهيه داخلة فيها ، ذكره القرطبي .

أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن " ابن مسعود قال : لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله ، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب فجاءت إليه فقالت : بلغني أنك لعنت كيت وكيت ، قال : وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو في كتاب الله قالت : لقد قرأت ما بين الدفتين فما وجدت فيه شيئا من هذا ، قال : لئن كنت قرأته لقد وجدته ، أما قرأت { ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عهنه فانتهوا } ؟ قالت : بلى ، قال : فإنه قد نهى عنه " . ثم لما أمرهم بأخذ ما أمرهم بأخذه الرسول ، وترك ما نهاهم عنه ، أمرهم بتقواه ، وخوفهم شدة عقوبته ، فقال :{ واتقوا الله إن الله شديد العقاب } فهو معاقب من لم يأخذ ما أتاه الرسول ، ولم يترك ما نهاه عنه .