فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِ كَيۡ لَا يَكُونَ دُولَةَۢ بَيۡنَ ٱلۡأَغۡنِيَآءِ مِنكُمۡۚ وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (7)

{ مَّا أَفَاء الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى } هذا بيان لمصارف الفيء بعد بيان أنه لرسول الله خاصة ، والتكرير لقصد التقرير والتأكيد ، ووضع { أهل القرى } موضع قوله : { مِنْهُمْ } أي من بني النضير للإشعار بأن هذا الحكم لا يختصّ ببني النضير وحدهم ، بل هو حكم على كل قرية يفتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم صلحاً ولم يوجف عليها المسلمون بخيل ولا ركاب . قيل : والمراد بالقرى : بنو النضير وقريظة وفدك وخيبر . وقد تكلم أهل العلم في هذه الآية والتي قبلها ، هل معناهما متفق أو مختلف ؟ فقيل : معناهما متفق كما ذكرنا ، وقيل : مختلف ، وفي ذلك كلام لأهل العلم طويل . قال ابن العربي : لا إشكال أنها ثلاثة معانٍ في ثلاث آيات . أما الآية الأولى ، وهي قوله : { وَمَا أَفَاء الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ } فهي خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة له وهي أموال بني النضير وما كان مثلها .

وأما الآية الثانية ، وهي قوله : { مَّا أَفَاء الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى } فهذا كلام مبتدأ غير الأوّل بمستحق غير الأول وإن اشتركت هي والأولى في أن كل واحدة منهما تضمنت شيئًا أفاءه الله على رسوله واقتضت الآية الأولى أنه حاصل بغير قتال ، واقتضت آية الأنفال ، وهي الآية الثالثة أنه حاصل بقتال ، وعريت الآية الثانية ، وهي قوله : { مَّا أَفَاء الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى } عن ذكر حصوله بقتال أو بغير قتال ، فنشأ الخلاف من هاهنا ، فطائفة قالت : هي ملحقة بالأولى وهي مال الصلح . وطائفة قالت : هي ملحقة بالثالثة وهي آية الأنفال . والذين قالوا : إنها ملحقة بآية الأنفال اختلفوا هل هي منسوخة أو محكمة ؟ هذا معنى حاصل كلامه . وقال مالك : إن الآية الأولى من هذه السورة خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم ، والآية الثانية : هي في بني قريظة ، ويعني أن معناها يعود إلى آية الأنفال . ومذهب الشافعي أن سبيل خمس الفيء سبيل خمس الغنيمة ، وأنّ أربعة أخماسه كانت للنبيّ صلى الله عليه وسلم وهي بعده لصالح المسلمين { فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } المراد بقوله : { لِلَّهِ } أنه { يحكم فيه بما يشاء } { وَلِلرَّسُولِ } يكون ملكاً له { وَلِذِي القربى } وهم بنو هاشم وبنو المطلب لأنهم قد منعوا من الصدقة فجعل لهم حقاً في الفيء . قيل : تكون القسمة في هذا المال على أن يكون أربعة أخماسه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخمسه يقسم أخماساً . للرّسول خمس ، ولكل صنف من الأصناف الأربعة المذكورة خمس ، وقيل : يقسم أسداساً . السادس : سهم الله سبحانه ويصرف إلى وجوه القرب ، كعمارة المساجد ونحو ذلك { كيلاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغنياء مِنكُمْ } أي كيلا يكون الفيء دولة بين الأغنياء دون الفقراء ، والدولة : اسم للشيء يتداوله القوم بينهم ، يكون لهذا مرّة ، ولهذا مرّة . قال مقاتل : المعنى : أنه يغلب الأغنياء الفقراء فيقسمونه بينهم . قرأ الجمهور : { يكون } بالتحتية { دُوْلَةً } بالنصب : أي كيلا يكون الفيء دولة . وقرأ أبو جعفر والأعرج وهشام وأبو حيان : ( تَكُونَ ) بالفوقية «دُوْلَةٌ » بالرفع : أي كيلا تقع أو توجد دولة ، وكان تامة . وقرأ الجمهور : «دولة » بضم الدال . وقرأ أبو حيوة والسلمي بفتحها . قال عيسى بن عمر ويونس والأصمعي : هما لغتان بمعنى واحد . وقال أبو عمرو بن العلاء : الدولة بالفتح الذي يتداول من الأموال ، وبالضم الفعل . وكذا قال أبو عبيدة . ثم لما بيّن لهم سبحانه مصارف هذا المال أمرهم بالاقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم فقال : { وَمَا ءاتاكم الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنْهُ فانتهوا } أي ما أعطاكم من مال الغنيمة فخذوه . وما نهاكم عن أخذه فانتهوا عنه ولا تأخذوه . قال الحسن والسديّ : ما أعطاكم من مال الفيء فاقبلوه ، وما منعكم منه فلا تطلبوه .

وقال ابن جريج : ما آتاكم من طاعتي فافعلوا ، وما نهاكم عنه من معصيتي فاجتنبوه . والحقّ أن هذه الآية عامة في كل شيء يأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر أو نهي أو قول أو فعل . وإن كان السبب خاصاً فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . وكل شيء أتانا به من الشرع فقد أعطانا إياه وأوصله إلينا . وما أنفع هذه الآية وأكثر فائدتها . ثم لما أمرهم بأخذ ما أمرهم به الرّسول وترك ما نهاهم عنه أمرهم بتقواه وخوفهم شدّة عقوبته . فقال : { واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ } فهو معاقب من لم يأخذه ما آتاه الرّسول ولم يترك ما نهاه عنه .

/خ7