ثم بين تعالى مصرف الفيء بقوله تعالى : { ما أفاء الله } أي : الذي اختص بالعزة والقدرة والحكمة { على رسوله من أهل القرى } أي : قرية بني النضير وغيرها من وادي القرى والصفراء وينبع ، وما هنالك من قرى العرب التي تسمى قرى عربية ، فيخمس ذلك خمسة أخماس وإن لم يكن في الآية تخميس ، فإنه مذكور في آية الغنيمة فحمل المطلق على المقيد ، وكان صلى الله عليه وسلم يقسم له أربعة أخماسه وخمس خمسة ، ولكل من الأربعة المذكورين معه خمس خمس وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة محضة ، وورش بين اللفظين ، والباقون بالفتح فقوله تعالى : { فلله } أي : الملك الأعلى الذي كله بيده ذلك للتبرّك ، فإنّ كل أمر لا يبدأ فيه به فهو أجذم { وللرسول } أي : الذي عظمته من عظمته تعالى ، وقد تقدم ما كان له صلى الله عليه وسلم وأمّا بعده صلى الله عليه وسلم فيصرف ما كان له من خمس الخمس لمصالح المسلمين ، وسد ثغور ، وقضاة ، وعلماء بعلوم تتعلق بمصالح المسلمين كتفسير وقراءة ، والمراد بالقضاة غير قضاة العسكر أمّا قضاته وهم الذين يحكمون لأهل الفيء في مغزاهم فيرزقون من الأخماس الأربعة لا من خمس الخمس ، يقدّم وجوباً الأهمّ فالأهمّ . وأمّا الأربعة المذكورة معه صلى الله عليه وسلم فأولها المذكور في قوله تعالى : { ولذي القربى } أي : منه ، وهم مؤمنو بني هاشم وبني المطلب لاقتصاره صلى الله عليه وسلم في القسم عليهم مع سؤال غيرهم من بني عميهم نوفل وعبد شمس له ، ولقوله صلى الله عليه وسلم «أما بنو هاشم وبنو المطلب فشيء واحد ، وشبك بين أصابعه » فيعطون ولو أغنياء لأنه صلى الله عليه وسلم أعطى العباس وكان غنياً ، ويفضل الذكر على الأنثى كالإرث فله سهمان ولها سهم ، لأنه عطية من الله تعالى يستحق بقرابة الأب كالإرث سواء الكبير والصغير ، والعبرة بالانتساب إلى الآباء فلا يعطى أولاد البنات من بني هاشم والمطلب شيئاً لأنه صلى الله عليه وسلم لم يعط الزبير وعثمان مع أن أم كل منهما كانت هاشمية .
وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة ، وورش بالفتح وبين اللفظين ، وأبو عمرو بين بين ، والباقون بالفتح ، وخالفهم أبو عمرو في واليتامى . ثانيها : المذكور في قوله تعالى : { واليتامى } أي : الفقراء منا لأن لفظ اليتيم يشعر بالحاجة لأنه مال أو نحوه أخذ من الكفار فاختص كسهم المصالح ، واليتيم صغير ولو أنثى لخبر «لا يتم بعد احتلام » رواه أبو داود وحسنه النووي وإن ضعفه غيره لا أب له ، وإن كان له أمّ . وحد اليتيم في البهائم من فقد أمّه ، وفي الطير من فقد أباه وأمّه ، ومن فقد أمّه فقط من الآدميين يقال له : منقطع . ثالثها : المذكور في قوله تعالى : { والمساكين } الصادقين بالفقراء ، وهم أهل الحاجة منا وتقدّم تعريفهما في سورة الأنفال ، وكذا تعريف الرابع المذكور في قوله تعالى : { ابن السبيل } أي : الطريق الفقير منا ذكوراً كانوا أو إناثاً ، ولو اجتمع في واحد من هذا الأصناف يتم ومسكنة أعطي باليتم فقط ، لأنه وصف لازم والمسكنة زائلة ، وللإمام التسوية والتفضيل بحسب الحاجة ويعم الإمام ولو بنائبه الأصناف الأربعة الأخيرة بالإعطاء وجوباً لعموم الآية فلا يخص الحاضر بموضع حصول الفيء ، ولا من في كل ناحية منهم بالحاصل فيها نعم لو كان الحاصل لا يسد مسدّاً بالتعميم قدم الأحوج فالأحوج ، ولا يعمّ للضرورة .
ومن فقد من الأربعة صرف نصيبه للباقين منهم ، وأمّا الأخماس الأربعة فهي للمرتزقة ، وهم المرصدون للجهاد بتعيين الإمام لهم بعمل الأولين به بخلاف المتطوّعة فلا يعطون من الفيء بل من الزكاة عكس المرتزقة ، ويشرك المرتزقة قضاتهم كما مرّ وأئمتهم ومؤذنوهم وعمالهم ، ويجب على الإمام أن يعطي كل من المرتزقة بقدر حاجة ممونه من نفسه ، وغيرها كزوجاته ليتفرّغ للجهاد ويراعي في الحاجة الزمان والمكان والرخص والغلاء ، وعادة الشخص مروأة وضدّها ويزادان زادت حاجته بزيادة ولد ، أو حدوث زوجة فأكثر ومن لا عبد له يعطى من العبيد ما يحتاجه للقتال معه ، أو لخدمته إن كان ممن يخدم ، ويعطي مؤنته .
ومن يقاتل فارساً ولا فرس له يعطي من الخيل ما يحتاجه للقتال ، ويعطى مؤنته بخلاف الزوجات يعطى لهنّ مطلقاً لانحصارهن في أربع ، ثم ما يدفعه إليه لزوجته وولده الملك فيه لهما حاصل من الفيء .
وقيل : يملكه هو ويصير إليهما من جهته ، فإن مات أعطى الإمام أصوله وزوجاته وبناته إلى أن يستغنوا ، ويسنّ أن يضع الإمام ديواناً وهو الدفتر الذي يثبت فيه أسماء المرتزقة وأوّل من وضعه عمر رضي الله عنه وأن ينصب لكل جمع عريفاً ، وأن يقدّه في اسم وإعطاء قريشاً لشرفهم بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ولخبر قدّموا قريشاً ، وأن يقدم منهم بني هاشم وبني المطلب فبني عبد شمس فبني عبد العزى فسائر بطون العرب الأقرب فالأقرب إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فسائر العرب فالعجم ، ولا يثبت في الديوان من لا يصلح ، ومن مرض فكصحيح وإن لم يرج برؤه ، ويمحى اسم كل من لم يرج ، وما فضل عنهم وزع عليهم بقدر مؤنتهم وللإمام صرف بعضه في ثغور وسلاح وخيل ونحوها ، وله وقف عقار فيء أو بيعه وقسم غلته أو ثمنه كقسم المنقول أربعة أخماسه للمرتزقة وخمسة للمصالح ، وله أيضاً : قسمه كالمنقول لكن خمس الخمس الذي للمصالح لا سبيل إلى قسمته .
ولما حكم سبحانه هذا الحكم في الفيء المخالف لما كانوا عليه في الجاهلية من اختصاص الأغنياء به بين علته المظهرة لعظمته بقوله تعالى : { كي لا يكون } أي : الفيء الذي يسره الله تعالى بقوّته من قذف الرعب في قلوب أعدائه ، ومن حقه أن يعطاه الفقراء { دولة } أي : متداولاً { بين الأغنياء منكم } أي : يتداوله الأغنياء ويدور بينهم كما كان في الجاهلية ، فإنهم كانوا يقولون : من عزيز ، ومنه قول الحسن : اتخذوا عباد الله خولاً ، ومال الله دولاً ، يريد : من غلب منهم أخذه واستأثر به . وقرأ هشام بخلاف عنه تكون بالتأنيث دولة بالرفع ، والباقون بالتذكير والنصب ، فأمّا الرفع فعلى أن كان تامّة ، وأمّا التأنيث والتذكير فواضحان ؛ لأنه تأنيث مجازي ، وأما النصب فعلى إنها الناقصة واسمها ضمير عائد على الفيء . والتذكير واجب لتذكير المرفوع ، ودولة خبرها ، وقيل : دولة عائد على ما اعتباراً بلفظها ، وكي لا هنا مقطوعة في الرسم .
{ وما آتاكم الرسول } أي : وكل شيء أحضره لكم الكامل في الرسالة من الغنيمة ، أو مال الفيء أو غيره { فخذوه } أي : فاقبلوه لأنه حلال لكم ، وتمسكوا به فإنه واجب الطاعة { وما نهاكم عنه } أي : من جميع الأشياء { فانتهوا } لأنه لا ينطق عن الهوى ، ولا يقول ولا يفعل إلا ما أمر ربه عز وجل .
تنبيه : هذه الآية تدل على أنّ كل ما أمر به النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر من الله تعالى لأنّ الآية ، وإن كانت في الغنائم فجميع أوامره صلى الله عليه وسلم ونواهيه داخل فيها . قال عبد الرحمن بن زيد : لقي ابن مسعود رجلاً محرماً وعليه ثيابه ، فقال : انزع عنك هذا ، فقال الرجل : تقرأ عليّ بهذا آية من كتاب الله تعالى ، قال : نعم { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } ، وقال عبد الله بن محمد بن هارون الفريابي : سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول : سلوني عما شئتم أخبركم من كتاب الله تعالى ، وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم قال : فقلت له : أصلحك الله ما تقول في المحرم يقتل الزنبور ، قال : فقال : بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } وحدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن خراش عن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر » حدثنا سفيان بن عيينة عن مسعر بن كدام عن قيس بن أسلم عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب : أنه أمر بقتل الزنبور . وهذا الجواب في غاية الحسن أفتى بقتل الزنبور في الإحرام ، وبين أنه يقتدى فيه بعمر ، وأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بالاقتداء به ، وأنّ الله تعالى أمر بقبول ما يقوله صلى الله عليه وسلم فجواز قتله من الكتاب والسنة .
وسئل عكرمة عن أمّهات الأولاد هل هنّ أحرار ؟ فقال : في سورة النساء في قوله تعالى : { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } [ النساء : 59 ] وفي صحيح مسلم وغيره عن علقمة عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لعن الله الواشمات والمستوشمات ، والمتنمصات ، والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله تعالى » فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها : أم يعقوب فجاءت فقالت : بلغني أنك لعنت كيت وكيت ، فقال وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله تعالى فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول فقال : لئن كنت قرأتيه فقد وجدتيه أما قرأت { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } قالت : بلى ، قال : فإنه قد نهى عنه الحديث .
فائدة : الوشم : هو غرز العضو من الإنسان بالإبرة ، ثم يحشى بالكحل . والمستوشمة ، هي التي تطلب أن يفعل بها ذلك ، والنامصة : هي التي تنتف الشعر من الوجه ، والمتفلجة : هي التي تتكلف تفريج ما بين ثناياها بصناعة ، وقيل : تتفلج في مشيها في كل شيء منهي عنه . وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة ، وورش بالفتح وبين اللفظين ، والباقون بالفتح والهمزة ممدودة بلا خلاف لأنها بمعنى الإعطاء . { واتقوا الله } أي : واجعلوا لكم بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاية من عذاب الملك الأعظم المحيط علماً وقدرة ، وعلل ذلك بقوله تعالى : { إن الله } أي : الذي له الجلال والإكرام على الإطلاق { شديد العقاب } أي : العذاب الواقع بعد الذنب . قال البقاعي ومن زعم أن شيئاً مما في هذه السورة نسخ بشيء مما في سورة الأنفال فقد أخطأ ، لأنّ الأنفال نزلت في بدر ، وهي قبل هذه بمدّة .