السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِ كَيۡ لَا يَكُونَ دُولَةَۢ بَيۡنَ ٱلۡأَغۡنِيَآءِ مِنكُمۡۚ وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (7)

ثم بين تعالى مصرف الفيء بقوله تعالى : { ما أفاء الله } أي : الذي اختص بالعزة والقدرة والحكمة { على رسوله من أهل القرى } أي : قرية بني النضير وغيرها من وادي القرى والصفراء وينبع ، وما هنالك من قرى العرب التي تسمى قرى عربية ، فيخمس ذلك خمسة أخماس وإن لم يكن في الآية تخميس ، فإنه مذكور في آية الغنيمة فحمل المطلق على المقيد ، وكان صلى الله عليه وسلم يقسم له أربعة أخماسه وخمس خمسة ، ولكل من الأربعة المذكورين معه خمس خمس وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة محضة ، وورش بين اللفظين ، والباقون بالفتح فقوله تعالى : { فلله } أي : الملك الأعلى الذي كله بيده ذلك للتبرّك ، فإنّ كل أمر لا يبدأ فيه به فهو أجذم { وللرسول } أي : الذي عظمته من عظمته تعالى ، وقد تقدم ما كان له صلى الله عليه وسلم وأمّا بعده صلى الله عليه وسلم فيصرف ما كان له من خمس الخمس لمصالح المسلمين ، وسد ثغور ، وقضاة ، وعلماء بعلوم تتعلق بمصالح المسلمين كتفسير وقراءة ، والمراد بالقضاة غير قضاة العسكر أمّا قضاته وهم الذين يحكمون لأهل الفيء في مغزاهم فيرزقون من الأخماس الأربعة لا من خمس الخمس ، يقدّم وجوباً الأهمّ فالأهمّ . وأمّا الأربعة المذكورة معه صلى الله عليه وسلم فأولها المذكور في قوله تعالى : { ولذي القربى } أي : منه ، وهم مؤمنو بني هاشم وبني المطلب لاقتصاره صلى الله عليه وسلم في القسم عليهم مع سؤال غيرهم من بني عميهم نوفل وعبد شمس له ، ولقوله صلى الله عليه وسلم «أما بنو هاشم وبنو المطلب فشيء واحد ، وشبك بين أصابعه » فيعطون ولو أغنياء لأنه صلى الله عليه وسلم أعطى العباس وكان غنياً ، ويفضل الذكر على الأنثى كالإرث فله سهمان ولها سهم ، لأنه عطية من الله تعالى يستحق بقرابة الأب كالإرث سواء الكبير والصغير ، والعبرة بالانتساب إلى الآباء فلا يعطى أولاد البنات من بني هاشم والمطلب شيئاً لأنه صلى الله عليه وسلم لم يعط الزبير وعثمان مع أن أم كل منهما كانت هاشمية .

وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة ، وورش بالفتح وبين اللفظين ، وأبو عمرو بين بين ، والباقون بالفتح ، وخالفهم أبو عمرو في واليتامى . ثانيها : المذكور في قوله تعالى : { واليتامى } أي : الفقراء منا لأن لفظ اليتيم يشعر بالحاجة لأنه مال أو نحوه أخذ من الكفار فاختص كسهم المصالح ، واليتيم صغير ولو أنثى لخبر «لا يتم بعد احتلام » رواه أبو داود وحسنه النووي وإن ضعفه غيره لا أب له ، وإن كان له أمّ . وحد اليتيم في البهائم من فقد أمّه ، وفي الطير من فقد أباه وأمّه ، ومن فقد أمّه فقط من الآدميين يقال له : منقطع . ثالثها : المذكور في قوله تعالى : { والمساكين } الصادقين بالفقراء ، وهم أهل الحاجة منا وتقدّم تعريفهما في سورة الأنفال ، وكذا تعريف الرابع المذكور في قوله تعالى : { ابن السبيل } أي : الطريق الفقير منا ذكوراً كانوا أو إناثاً ، ولو اجتمع في واحد من هذا الأصناف يتم ومسكنة أعطي باليتم فقط ، لأنه وصف لازم والمسكنة زائلة ، وللإمام التسوية والتفضيل بحسب الحاجة ويعم الإمام ولو بنائبه الأصناف الأربعة الأخيرة بالإعطاء وجوباً لعموم الآية فلا يخص الحاضر بموضع حصول الفيء ، ولا من في كل ناحية منهم بالحاصل فيها نعم لو كان الحاصل لا يسد مسدّاً بالتعميم قدم الأحوج فالأحوج ، ولا يعمّ للضرورة .

ومن فقد من الأربعة صرف نصيبه للباقين منهم ، وأمّا الأخماس الأربعة فهي للمرتزقة ، وهم المرصدون للجهاد بتعيين الإمام لهم بعمل الأولين به بخلاف المتطوّعة فلا يعطون من الفيء بل من الزكاة عكس المرتزقة ، ويشرك المرتزقة قضاتهم كما مرّ وأئمتهم ومؤذنوهم وعمالهم ، ويجب على الإمام أن يعطي كل من المرتزقة بقدر حاجة ممونه من نفسه ، وغيرها كزوجاته ليتفرّغ للجهاد ويراعي في الحاجة الزمان والمكان والرخص والغلاء ، وعادة الشخص مروأة وضدّها ويزادان زادت حاجته بزيادة ولد ، أو حدوث زوجة فأكثر ومن لا عبد له يعطى من العبيد ما يحتاجه للقتال معه ، أو لخدمته إن كان ممن يخدم ، ويعطي مؤنته .

ومن يقاتل فارساً ولا فرس له يعطي من الخيل ما يحتاجه للقتال ، ويعطى مؤنته بخلاف الزوجات يعطى لهنّ مطلقاً لانحصارهن في أربع ، ثم ما يدفعه إليه لزوجته وولده الملك فيه لهما حاصل من الفيء .

وقيل : يملكه هو ويصير إليهما من جهته ، فإن مات أعطى الإمام أصوله وزوجاته وبناته إلى أن يستغنوا ، ويسنّ أن يضع الإمام ديواناً وهو الدفتر الذي يثبت فيه أسماء المرتزقة وأوّل من وضعه عمر رضي الله عنه وأن ينصب لكل جمع عريفاً ، وأن يقدّه في اسم وإعطاء قريشاً لشرفهم بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ولخبر قدّموا قريشاً ، وأن يقدم منهم بني هاشم وبني المطلب فبني عبد شمس فبني عبد العزى فسائر بطون العرب الأقرب فالأقرب إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فسائر العرب فالعجم ، ولا يثبت في الديوان من لا يصلح ، ومن مرض فكصحيح وإن لم يرج برؤه ، ويمحى اسم كل من لم يرج ، وما فضل عنهم وزع عليهم بقدر مؤنتهم وللإمام صرف بعضه في ثغور وسلاح وخيل ونحوها ، وله وقف عقار فيء أو بيعه وقسم غلته أو ثمنه كقسم المنقول أربعة أخماسه للمرتزقة وخمسة للمصالح ، وله أيضاً : قسمه كالمنقول لكن خمس الخمس الذي للمصالح لا سبيل إلى قسمته .

ولما حكم سبحانه هذا الحكم في الفيء المخالف لما كانوا عليه في الجاهلية من اختصاص الأغنياء به بين علته المظهرة لعظمته بقوله تعالى : { كي لا يكون } أي : الفيء الذي يسره الله تعالى بقوّته من قذف الرعب في قلوب أعدائه ، ومن حقه أن يعطاه الفقراء { دولة } أي : متداولاً { بين الأغنياء منكم } أي : يتداوله الأغنياء ويدور بينهم كما كان في الجاهلية ، فإنهم كانوا يقولون : من عزيز ، ومنه قول الحسن : اتخذوا عباد الله خولاً ، ومال الله دولاً ، يريد : من غلب منهم أخذه واستأثر به . وقرأ هشام بخلاف عنه تكون بالتأنيث دولة بالرفع ، والباقون بالتذكير والنصب ، فأمّا الرفع فعلى أن كان تامّة ، وأمّا التأنيث والتذكير فواضحان ؛ لأنه تأنيث مجازي ، وأما النصب فعلى إنها الناقصة واسمها ضمير عائد على الفيء . والتذكير واجب لتذكير المرفوع ، ودولة خبرها ، وقيل : دولة عائد على ما اعتباراً بلفظها ، وكي لا هنا مقطوعة في الرسم .

{ وما آتاكم الرسول } أي : وكل شيء أحضره لكم الكامل في الرسالة من الغنيمة ، أو مال الفيء أو غيره { فخذوه } أي : فاقبلوه لأنه حلال لكم ، وتمسكوا به فإنه واجب الطاعة { وما نهاكم عنه } أي : من جميع الأشياء { فانتهوا } لأنه لا ينطق عن الهوى ، ولا يقول ولا يفعل إلا ما أمر ربه عز وجل .

تنبيه : هذه الآية تدل على أنّ كل ما أمر به النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر من الله تعالى لأنّ الآية ، وإن كانت في الغنائم فجميع أوامره صلى الله عليه وسلم ونواهيه داخل فيها . قال عبد الرحمن بن زيد : لقي ابن مسعود رجلاً محرماً وعليه ثيابه ، فقال : انزع عنك هذا ، فقال الرجل : تقرأ عليّ بهذا آية من كتاب الله تعالى ، قال : نعم { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } ، وقال عبد الله بن محمد بن هارون الفريابي : سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول : سلوني عما شئتم أخبركم من كتاب الله تعالى ، وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم قال : فقلت له : أصلحك الله ما تقول في المحرم يقتل الزنبور ، قال : فقال : بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } وحدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن خراش عن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر » حدثنا سفيان بن عيينة عن مسعر بن كدام عن قيس بن أسلم عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب : أنه أمر بقتل الزنبور . وهذا الجواب في غاية الحسن أفتى بقتل الزنبور في الإحرام ، وبين أنه يقتدى فيه بعمر ، وأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بالاقتداء به ، وأنّ الله تعالى أمر بقبول ما يقوله صلى الله عليه وسلم فجواز قتله من الكتاب والسنة .

وسئل عكرمة عن أمّهات الأولاد هل هنّ أحرار ؟ فقال : في سورة النساء في قوله تعالى : { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } [ النساء : 59 ] وفي صحيح مسلم وغيره عن علقمة عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لعن الله الواشمات والمستوشمات ، والمتنمصات ، والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله تعالى » فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها : أم يعقوب فجاءت فقالت : بلغني أنك لعنت كيت وكيت ، فقال وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله تعالى فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول فقال : لئن كنت قرأتيه فقد وجدتيه أما قرأت { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } قالت : بلى ، قال : فإنه قد نهى عنه الحديث .

فائدة : الوشم : هو غرز العضو من الإنسان بالإبرة ، ثم يحشى بالكحل . والمستوشمة ، هي التي تطلب أن يفعل بها ذلك ، والنامصة : هي التي تنتف الشعر من الوجه ، والمتفلجة : هي التي تتكلف تفريج ما بين ثناياها بصناعة ، وقيل : تتفلج في مشيها في كل شيء منهي عنه . وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة ، وورش بالفتح وبين اللفظين ، والباقون بالفتح والهمزة ممدودة بلا خلاف لأنها بمعنى الإعطاء . { واتقوا الله } أي : واجعلوا لكم بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاية من عذاب الملك الأعظم المحيط علماً وقدرة ، وعلل ذلك بقوله تعالى : { إن الله } أي : الذي له الجلال والإكرام على الإطلاق { شديد العقاب } أي : العذاب الواقع بعد الذنب . قال البقاعي ومن زعم أن شيئاً مما في هذه السورة نسخ بشيء مما في سورة الأنفال فقد أخطأ ، لأنّ الأنفال نزلت في بدر ، وهي قبل هذه بمدّة .