المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ ٱلۡحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حَتَّىٰ يُعۡطُواْ ٱلۡجِزۡيَةَ عَن يَدٖ وَهُمۡ صَٰغِرُونَ} (29)

29- يا أيها الذين آمنوا ، قاتلوا الكافرين من أهل الكتاب الذين لا يؤمنون إيماناً صحيحاً بالله ولا يقرون بالبعث والجزاء إقراراً صحيحاً ، ولا يلتزمون الانتهاء عما نهي الله ورسوله عنه ، ولا يعتنقون الدين الحق وهو الإسلام . قاتلوهم حتى يؤمنوا ، أو يؤدوا إليكم الجزية{[80]} خاضعين طائعين غير متمردين . ليسهموا في بناء الميزانية الإسلامية .


[80]:الجزية من الموارد الهامة في ميزانية الدولة الإسلامية، وكانت هذه الضريبة تتراوح ما بين ثمانية وأربعين درهما، واثني عشر درهما للفرد الواحد، تؤخذ من اليهود والنصارى ومن حكمهم، وكانت واجبة على الذكر البالغ الصحيح الجسم والعقل. بشرط أن يكون له مال يدفع منه ما فرض عليه، وأعفي منها النساء والأطفال والشيوخ، لأن الحرب لا تعلن عليهم، ولا يدفعها العمي والمقعدون إلا إذا كانوا أغنياء، وكذلك الفقراء والمساكين والأرقاء، ولم يكن يطالب بها الرهبان إذا كانوا في عزلة عن الناس. وكان الأساس في فرض ضريبة الجزية حماية أهل الذمة ودفع العدوان عنهم، لأن أهل الكتاب ومن في حكمهم لم يكلفوا الحرب أو الدفاع عن أنفسهم أو غيرهم، فكان من العدالة أن يدفعوا هذه الضريبة نظير الحماية والمنفعة ونظير تمتعهم بمرافق الدولة العامة، وأنها في مقابل ما يؤخذ من المسلم، فإن المسلم يؤخذ منه خمس الغنائم والزكاة وصدقة الفطر والكفارات المختلفة للذنوب، فكان لا بد أن يؤخذ من غير المسلم ما يقابل القدر الذي يؤخذ من المسلم، وهي تنفق في المصالح العامة وعلى الفقراء أهل الذمة الذين يدفعونها، ولا يقصد بهذه الضريبة الإذلال أو العقوبة، لأن هذا لا يتفق وعدالة الإسلام ولا يتمشى مع غايته السامية.
 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ ٱلۡحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حَتَّىٰ يُعۡطُواْ ٱلۡجِزۡيَةَ عَن يَدٖ وَهُمۡ صَٰغِرُونَ} (29)

قوله تعالى { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله } ، قال مجاهد : نزلت هذه الآية حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال الروم ، فغزا بعد نزولها غزوة تبوك . وقال الكلبي : نزلت في قريظة والنضير من اليهود ، فصالحهم وكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام ، وأول ذل أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين . قال الله تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } ، فإن قيل : أهل الكتاب يؤمنون بالله واليوم الآخر ؟ قيل : لا يؤمنون كإيمان المؤمنين ، فإنهم إذا قالوا عزير ابن الله والمسيح ابن الله ، لا يكون ذلك إيمانا بالله .

قوله تعالى : { ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق } ، أي : لا يدينون الدين الحق ، أضاف الاسم إلى الصفة . وقال قتادة : الحق هو الله ، أي : لا يدينون دين الله ، ودينه الإسلام . وقال أبو عبيدة : معناه لا يطيعون الله تعالى طاعة أهل الحق .

قوله تعالى : { من الذين أوتوا الكتاب } ، يعنى : اليهود والنصارى .

قوله تعالى : { حتى يعطوا الجزية } ، وهى الخراج المضروب على رقابهم ،

قوله تعالى : { عن يد } ، عن قهر وذل . قال أبو عبيدة : يقال لكل من أعطى شيئا كرها من غير طيب نفس : أعطاه عن يد . وقال ابن عباس : يعطونها بأيديهم ولا يرسلون بها على يد غيرهم . وقيل : عن يد أي : عن نقد لا نسيئة . وقيل : عن إقرار بإنعام المسلمين عليهم بقبول الجزية منهم ، " وهم صاغرون " ، أذلاء مقهورون . قال عكرمة : يعطون الجزية عن قيام ، والقابض جالس . وعن ابن عباس قال : تؤخذ منه ويوطأ عنقه . وقال الكلبي : إذا أعطى صفع في قفاه . وقيل : يؤخذ بلحيته ويضرب في لهزمته . وقيل : يلبب ويجر إلى موضع الإعطاء بعنف . وقيل : إعطاؤه إياها هو الصغار . وقال الشافعي رحمه الله : الصغار هو جريان أحكام الإسلام عليهم . واتفقت الأمة على جواز أخذ الجزية من أهل الكتابين ، وهم اليهود والنصارى إذا لم يكونوا عربا . واختلفوا في الكتابي العربي وفى غير أهل الكتاب من كفار العجم ، فذهب الشافعي : إلى أن الجزية على الأديان لا على الأنساب ، فتؤخذ من أهل الكتاب عربا كانوا أو عجما ، ولا تؤخذ من أهل الأوثان بحال ، واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من أكيدر دومة ، وهو رجل من العرب يقال : إنه من غسان ، وأخذ من أهل ذمة اليمن ، وعامتهم عرب . وذهب مالك والأوزاعي : إلى أنها تؤخذ من جميع الكفار إلا المرتد . وقال أبو حنيفة تؤخذ من أهل الكتاب على العموم ، وتؤخذ من مشركي العجم ، ولا تؤخذ من مشركي العرب . وقال أبو يوسف : لا تؤخذ من العربي ، كتابيا كان أو مشركا ، وتؤخذ من العجمي كتابيا كان أو مشركا . وأما المجوس : فاتفقت الصحابة رضي الله عنهم على أخذ الجزية منهم .

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا سفيان عن عمرو بن دينار سمع بجالة يقول : لم يكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس فقال : ما أدري كيف أصنع في أمرهم ؟ فقال عبد الرحمن بن عوف : أشهد لسمعت رسول الله صلى عليه وسلم يقول : سنوا بهم سنة أهل الكتاب . وفى امتناع عمر رضي الله عنه عن أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر ، دليل على أن رأي الصحابة كان على أنها لا تؤخذ من كل مشرك ، وإنما تؤخذ من أهل الكتاب . واختلفوا في أن المجوس : هل هم من أهل الكتاب أم لا ؟ فروي عن علي رضي الله عنه قال : كان لهم كتاب يدرسونه فأصبحوا ، وقد أسري على كتابهم ، فرفع من بين أظهرهم . واتفقوا على تحريم ذبائح المجوس ومناكحتهم بخلاف أهل الكتابين . أما من دخل في دين اليهود والنصارى من غيرهم من المشركين نظر : إن دخلوا فيه قبل النسخ والتبديل يقرون بالجزية ، وتحل مناكحتهم وذبائحهم ، وإن دخلوا في دينهم بعد النسخ بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم لا يقرون بالجزية ، ولا تحل مناكحتهم وذبائحهم ، ومن شككنا في أمرهم أنهم دخلوا فيه بعد النسخ أو قبله : يقرون بالجزية تغليبا لحقن الدم ، ولا تحل مناكحتهم وذبائحهم تغليبا للتحريم ، فمنهم نصارى العرب من تنوخ وبهراء بني تغلب ، أقرهم عمر رضي الله عنه على الجزية ، وقال : لا تحل لنا ذبائحهم . وأما قدر الجزية : فأقله دينار ، لا يجوز أن ينقص منه ، ويقبل الدينار من الفقير والغني والوسط لما أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي ، أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي ، حدنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي ، حدنا أبو عيسى الترمذي ، حدنا محمود بن غيلان ، ثنا عبد الرزاق أخبرنا سفيان عن الأعمش عن أبي وائل عن مسروق عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافر " . فالنبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يأخذ من كل حالم ، أي بالغ دينار أو لم يفصل بين الغني والفقير والوسط ، وفيه دليل على أنها لا تجب على الصبيان وكذلك لا تجب على النسوان ، إنما تؤخذ من الأحرار العاقلين البالغين من الرجال . وذهب قوم إلى أنه على كل موسر أربعة دنانير ، وعلى كل متوسط ديناران ، وعلى كل فقير دينار ، وهو قول أصحاب الرأي .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ ٱلۡحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حَتَّىٰ يُعۡطُواْ ٱلۡجِزۡيَةَ عَن يَدٖ وَهُمۡ صَٰغِرُونَ} (29)

29

إن هذه الآية تأمر المسلمين بقتال أهل الكتاب { الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } . . والذي يقول ببنوة عزير لله أو بنوة المسيح لله لا يمكن أن يقال عنه : إنه يؤمن بالله . وكذلك الذي يقول : إن الله هو المسيح ابن مريم . أو إن الله ثالث ثلاثة . أن إن الله تجسد في المسيح . . . إلى آخر التصورات الكنسية التي صاغتها المجامع المقدسة على كل ما بينها من خلاف ! .

والذين يقولون : إنهم لن يدخلوا النار إلا أياماً معدودات مهما ارتكبوا من آثام بسبب أنهم أبناء الله وأحباؤه وشعب الله المختار ، والذين يقولون : إن كل معصية تغفر بالاتحاد بالمسيح وتناول العشاء المقدس ؛ وأنه لا مغفرة إلا عن هذا الطريق ! هؤلاء وهؤلاء لا يقال : إنهم يؤمنون باليوم الآخر . .

وهذه الآية تصف أهل الكتاب هؤلاء بأنهم { لا يحرمون ما حرم الله ورسوله } . وسواء كان المقصود بكلمة { رسوله } هو رسولهم الذي أرسل إليهم ، أو هو النبي - صلى الله عليه وسلم - فالفحوى واحدة . ذلك أن الآيات التالية فسرت هذا بأنهم يأكلون أموال الناس بالباطل . وأكل أموال الناس بالباطل محرم في كل رسالة وعلى يد كل رسول . . وأقرب النماذج لأكل أموال الناس بالباطل هو المعاملات الربوية . وهو ما يأخذه رجال الكنيسة مقابل " صك الغفران " ! وهو الصد عن دين الله والوقوف في وجهه بالقوة وفتنة المؤمنين عن دينهم . وهو تعبيد العباد لغير الله وإخضاعهم لأحكام وشرائع لم ينزلها الله . . فهذا كله ينطبق عليه : { ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله } . . وهذا كله قائم في أهل الكتاب ، كما كان قائماً يومذاك !

كذلك تصفهم الآية بأنهم { لا يدينون دين الحق } . . وهذا واضح مما سبق بيانه . فليس بدين الحق أي اعتقاد بربوبية أحد مع الله . كما أنه ليس بدين الحق التعامل بشريعة غير شريعة الله ، وتلقي الأحكام من غير الله ، والدينونة لسلطان غير سلطان الله . وهذا كله قائم في أهل الكتاب ، كما كان قائماً فيهم يومذاك . .

والشرط الذي يشترطه النص للكف عن قتالهم ليس أن يسلموا . . فلا إكراه في الدين . ولكن أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون . . فما حكمة هذا الشرط ، ولماذا كانت هذه هي الغاية التي ينتهي عندها القتال ؟

إن أهل الكتاب بصفاتهم تلك حرب على دين الله اعتقاداً وسلوكاً ؛ كما أنهم حرب على المجتمع المسلم بحكم طبيعة التعارض والتصادم الذاتيين بين منهج الله ومنهج الجاهلية الممثلة في عقيدة أهل الكتاب وواقعهم - وفق ما تصوره هذه الآيات - كما أن الواقع التاريخي قد أثبت حقيقة التعارض وطبيعة التصادم ؛ وعدم إمكان التعايش بين المنهجين ؛ وذلك بوقوف أهل الكتاب في وجه دين الله فعلاً ، وإعلان الحرب عليه وعلى أهله بلا هوادة خلال الفترة السابقة لنزول هذه الآية ( وخلال الفترة اللاحقة لها إلى اليوم أيضاً ! ) .

والإسلام - بوصفه دين الحق الوحيد القائم في الأرض - لا بد أن ينطلق لإزالة العوائق المادية من وجهه ؛ ولتحرير الإنسان من الدينونة بغير دين الحق ؛ على أن يدع لكل فرد حرية الاختيار ، بلا إكراه منه ولا من تلك العوائق المادية كذلك .

وإذن فإن الوسيلة العملية لضمان إزالة العوائق المادية ، وعدم الإكراه على اعتناق الإسلام في الوقت نفسه ، هي كسر شوكة السلطات القائمة على غير دين الحق ؛ حتى تستسلم ؛ وتعلن استسلامها بقبول إعطاء الجزية فعلاً .

وعندئذ تتم عملية التحرير فعلاً ، بضمان الحرية لكل فرد أن يختار دين الحق عن اقتناع . فإن لم يقتنع بقي على عقيدته ، وأعطى الجزية . لتحقيق عدة أهداف :

أولها : أن يعلن بإعطائها استسلامه وعدم مقاومته بالقوة المادية للدعوة إلى دين الله الحق .

وثانيها : أن يساهم في نفقات الدفاع عن نفسه وماله وعرضه وحرماته التي يكفلها الإسلام لأهل الذمة ( الذين يؤدون الجزية فيصبحون في ذمة المسلمين وضمانتهم ) ويدفع عنها من يريد الاعتداء عليها من الداخل أو من الخارج بالمجاهدين من المسلمين .

وثالثها : المساهمة في بيت مال المسلمين الذي يضمن الكفالة والإعاشة لكل عاجز عن العمل ، بما في ذلك أهل الذمة ، بلا تفرقة بينهم وبين المسلمين دافعي الزكاة .

ولا نحب أن نستطرد هنا إلى الخلافات الفقهية حول من تؤخذ منهم الجزية ومن لا تؤخذ منهم . ولا عن مقادير هذه الجزية . ولا عن طرق ربطها ومواضع هذا الربط . . ذلك أن هذه القضية برمتها ليست معروضة علينا اليوم ، كما كانت معروضة علىعهود الفقهاء الذين أفتوا فيها واجتهدوا رأيهم في وقتها .

إنها قضية تعتبر اليوم " تاريخية " وليست " واقعية " . . إن المسلمين اليوم لا يجاهدون ! . . ذلك أن المسلمين اليوم لا يوجدون ! . . إن قضية " وجود " الإسلام ووجود المسلمين هي التي تحتاج اليوم إلى علاج !

والمنهج الإسلامي - كما قلنا من قبل مراراً - منهج واقعي جاد ؛ يأبى أن يناقش القضايا المعلقة في الفضاء ؛ ويرفض أن يتحول إلى مباحث فقهية لا تطبق في عالم الواقع - لأن الواقع لا يضم مجتمعاً مسلماً تحكمه شريعة الله ، ويصرّف حياته الفقه الإسلامي - ويحتقر الذين يشغلون أنفسهم ويشغلون الناس بمثل هذه المباحث في أقضية لا وجود لها بالفعل ؛ ويسميهم " الأرأيتيين " الذين يقولون : " أرأيت لو أن كذا وقع فما هو الحكم ؟ " .

إن نقطة البدء الآن هي نقطة البدء في أول عهد الناس برسالة الإسلام . . أن يوجد في بقعة من الأرض ناس يدينون دين الحق ؛ فيشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . . ومن ثم يدينون لله وحده بالحاكمية والسلطان والتشريع ؛ ويطبقون هذا في واقع الحياة . . ثم يحاولون أن ينطلقوا في الأرض بهذا الإعلان العام لتحرير الإنسان . . ويومئذ - ويومئذ فقط - سيكون هناك مجال لتطبيق النصوص القرآنية والأحكام الإسلامية في مجال العلاقات بين المجتمع المسلم وغيره من المجتمعات . . ويومئذ - ويومئذ فقط - يجوز الدخول في تلك المباحث الفقهية ، والاشتغال بصياغة الأحكام ، والتقنين للحالات الواقعة التي يواجهها الإسلام بالفعل ، لا في عالم النظريات !

وإذا كنا قد تعرضنا لتفسير هذه الآية - من ناحية الأصل والمبدأ - فإنما فعلنا هذا لأنها تتعلق بمسألة اعتقادية وترتبط بطبيعة المنهج الإسلامي . وعند هذا الحد نقف ، فلا نتطرق وراءه إلى المباحث الفقهية الفرعية احتراماً لجدية المنهج الإسلامي وواقعيته وترفعه على هذا الهزال !

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ ٱلۡحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حَتَّىٰ يُعۡطُواْ ٱلۡجِزۡيَةَ عَن يَدٖ وَهُمۡ صَٰغِرُونَ} (29)

{ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } أي لا يؤمنون بهما على ما ينبغي كما بيناه في " أول البقرة " فإن إيمانهم كلا إيمان . { ولا يحرمون ما حرّم الله ورسوله } ما ثبت تحريمه بالكتاب والسنة وقيل رسوله هو الذي يزعمون اتباعه والمعنى أنهم يخالفون أصل دينهم المنسوخ اعتقادا وعملا . { ولا يدينون دين الحق } الثابت الذي هو ناسخ سائر الأديان ومبطلها . { من الذين أوتوا الكتاب } بيان للذين لا يؤمنون . { حتى يُعطوا الجزية } ما تقرر عليهم أن يعطوه مشتق من جزى دينه إذا قضاه . { عن يدٍ } حال من الضمير أي عن يد مؤاتية بمعنى منقادين ، أو عن يدهم بمعنى مسلمين بأيديهم غير باعثين بأيدي غيرهم ولذلك منع من التوكيل فيه ، أو عن غنى ولذلك قيل : لا تؤخذ من الفقير ، أو عن يد قاهرة عليهم بمعنى عاجزين أذلاء أو من الجزية بمعنى نقدا مسلمة عن يد إلى يد أو عن إنعام عليهم فإن إبقاءهم بالجزية نعمة عظيمة . { وهم صاغرون } أذلاء وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : تؤخذ الجزية من الذمي وتوجأ عنقه . ومفهوم الآية يقتضي تخصيص الجزية بأهل الكتاب ويؤيده أن عمر رضي الله تعالى عنه لم يكن يأخذ الجزية من المجوس حتى شهد عنده عبد الرحمان بن عوف رضي الله تعالى عنه ، أنه صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر . وأنه قال : " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " وذلك لأنهم لهم شبهة كتاب فألحقوا بالكتابيين ، وأما سائر الكفرة فلا تؤخذ منهم الجزية عندنا ، وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى تؤخذ منهم إلا مشركي العرب لما روى الزهري أنه صلى الله عليه وسلم صالح عبدة الأوثان إلا من كان من العرب ، وعند مالك رحمه الله تعالى تؤخذ من كل كافر إلا المرتد ، وأقلها في كل سنة دينار سواء فيه الغني والفقير ، وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى على الغني ثمانية وأربعون درهما وعلى المتوسط نصفها وعلى الفقير الكسوب ربعها ولا شيء على الفقير غير الكسوب .