15- قل يا أيها النبي : أأخبركم بما هو خير من ذلك الذي زُيِّن للناس في الدنيا ؟ إن للذين اتقوا ثواباً مضموناً - عند ربهم ، هو جنات تجري من تحت ظلال أشجارها الأنهار ، يتمتعون بالحياة الطيبة فيها لا يساورهم خوف من زوال نعيمها إذ كتب لهم الخلود فيها ، وأزواج طاهرة نقية من كل ما يشين نساء الدنيا ، ورضاء من الله يشعرون في ظله بنعيم أكبر ، والله مطلع على أحوال عباده لا يخفى عليه أمر أو سر من أمورهم وأسرارهم .
قوله تعالى : { قل أؤنبئكم } أي أخبركم .
قوله تعالى : { بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله } قرأ العامة بكسر الراء ، وروى أبو بكر عن عاصم بضم الراء ، وهما لغتان كالعدوان والعدوان .
أخبرنا عبد الواحد بن احمد المليحي ، أنا احمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد ابن إسماعيل ، أنا يحيى بن سليمان ، حدثني ابن وهب حدثني مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة ، فيقولون : لبيك ربنا وسعديك والخير كله في يديك ، فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : يا رب وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك ؟ فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ فيقولون : يا رب ، وأي شيء أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً " .
فأما من أراد الذي هو خير . . خير من ذلك كله . خير لأنه أرفع في ذاته . وخير لأنه يرفع النفس ويصونها من الاستغراق في الشهوات ، والإنكباب على الأرض دون التطلع إلى السماء . . من أراد الذي هو خير فعند الله من المتاع ما هو خير . وفيه عوض كذلك عن تلك الشهوات :
( قل : أؤنبئكم بخير من ذلكم ؟ للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار - خالدين فيها - وأزواج مطهرة ، ورضوان من الله ، والله بصير بالعباد ) . .
وهذا المتاع الأخروي الذي تذكره الآية هنا ، ويؤمر الرسول [ ص ] أن يبشر به المتقين ، هو نعيم حسي في عمومه . . ولكن هنالك فارقا أساسيا بينه وبين متاع الدنيا . . إنه متاع لا يناله إلا الذين اتقوا . الذين كان خوف الله وذكره في قلوبهم . وشعور التقوى شعور مهذب للروح والحس جميعا . شعور ضابط للنفس أن تستغرقها الشهوات ، وأن تنساق فيها كالبهيمة . فالذين اتقوا ربهم حين يتطلعون إلى هذا المتاع الحسي الذي يبشرون به يتطلعون إليه في شفافية مبرأة من غلظة الحس ! وفي حساسية مبرأة من بهيمية الشهوة ! ويرتفعون بالتطلع إليه - وهم في هذه الأرض - قبل أن ينتهي بهم المطاف إلى قرب الله . .
وفي هذا المتاع النظيف العفيف عوض كامل عن متاع الدنيا . . وفيه زيادة . .
فإذا كان متاعهم في الدنيا حرثا معطيا مخصبا ، ففي الآخرة جنات كاملة تجري من تحتها الأنهار . وهي فوق هذا خالدة وهم خالدون فيها ، لا كالحرث المحدود الميقات !
وإذا كان متاعهم في الدنيا نساء وبنين ، ففي الآخرة أزواج مطهرة . وفي طهارتها فضل وارتفاع على شهوات الأرض في الحياة !
فأما الخيل المسومة والأنعام . وأما القناطير المقنطرة من الذهب والفضة . فقد كانت في الدنيا وسائل لتحقيق متاع . فأما في نعيم الآخرة فلا حاجة إلى الوسائل لبلوغ الغايات !
ثم . . هنالك ما هو أكبر من كل متاع . . هنالك ( رضوان من الله ) . رضوان يعدل الحياة الدنيا والحياة الأخرى كليهما . . ويرجح . . رضوان . بكل ما في لفظه من نداوة . وبكل ما في ظله من حنان .
بصير بحقيقة فطرتهم وما ركب فيها من ميول ونوازع . بصير بما يصلح لهذه الفطرة من توجيهات وإيحاءات . بصير بتصريفها في الحياة وما بعد الحياة .
أي : قل يا محمد للناس : أأخبركم بخير مما زين للناس في هذه الحياة الدنيا من زهرتها ونعيمها ، الذي هو زائل لا محالة . ثم أخبر عن ذلك ، فقال : { لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } أي : تنخرق بين جوانبها وأرجائها الأنهار ، من أنواع الأشربة ؛ من العسل واللبن والخمر والماء وغير ذلك ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .
{ خَالِدِينَ فِيهَا } أي : ماكثين فيها أبد الآباد{[4886]} لا يبغون{[4887]} عنها حِوَلا .
{ وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ } أي : من الدَّنَس ، والخَبَث ، والأذى ، والحيض ، والنفاس ، وغير ذلك مما يعتري نساء الدنيا .
{ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ } أي : يحل عليهم رضوانه ، فلا يَسْخَط عليهم بعده أبدا ؛ ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى التي في براءة : { وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ } [ التوبة : 72 ] أي : أعظم مما أعطاهم من النعيم المقيم ، ثم قال [ تعالى ]{[4888]} { وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } أي : يعطي كلا بحسب ما يستحقه من العطاء .
في هذه الآية تسلية عن الدنيا وتقوية لنفوس تاركيها ، وذكر تعالى حال الدنيا وكيف استقر تزيين شهواتها ، ثم جاء الإنباء بخير من ذلك ، هازاً للنفوس وجامعاً لها لتسمع هذا النبأ المستغرب النافع لمن عقل ، وأنبىء : معناه أخبر ، وذهبت فرقة من الناس إلى أن الكلام الذي أمر النبي صلى عليه السلام بقوله تم في قوله تعالى : { عند ربهم } و{ جنات } على هذا مرتفع بالابتداء المضمر تقديره : ذلك جنات ، وذهب آخرون إلى أن الكلام تم في قوله : { من ذلكم } وأن قوله { للذين } خبر متقدم ، و{ جنات } رفع بالابتداء ، وعلى التأويل الأول يجوز في { جنات } الخفض بدلاً من خير ، ولا يجوز ذلك على التأويل الثاني ، والتأويلان محتملان ، وقوله { من تحتها } يعني من تحت أشجارها وعلوها من الغرف ونحوها و{ خالدين } نصب على الحال ، وقوله : { وأزواج } عطف على الجنات وهو جمع زوج وهي امرأة الإنسان ، وقد يقال زوجة ، ولم يأت في القرآن ، و { مطهرة } ، معناه من المعهود في الدنيا من الأقذار والريب وكل ما يصم في الخلق والخلق ، ويحتمل أن يكون الأزواج الأنواع والأشباه ، والرضوان ، مصدر من الرضى وفي الحديث عن النبي عليه السلام : أن أهل الجنة إذا استقروا فيها وحصل لكل واحد منهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر قال الله لهم : أتريدون أن أعطيكم ما هو أفضل من هذا ؟ قالوا يا ربنا وأي شيء أفضل من هذا ؟ فيقول الله تعالى : «أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً »{[3019]} ، هذا سياق الحديث ، وقد يجيء مختلف الألفاظ والمعنى قريب بعضه من بعض ، وفي قوله تعالى : { والله بصير بالعباد } وعد ووعيد .
استئناف بياني ، فإنّه نشأ عن قوله : { زين للناس } [ آل عمران : 14 ] المقتضي أنّ الكلام مسوق مساق الغضّ من هذه الشهوات . وافتتح الاستئناف بكلمة { قل } للاهتمام بالمقول ، والمخاطب بقل النبي صلى الله عليه وسلم والاستفهام للعرض تشويقاً من نفوس المخاطبين إلى تلقّي ما سيقصّ عليهم كقوله تعالى : { هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم } [ الصف : 10 ] الآية .
وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمر ، وأبو جعفر ، ورُويس عن يعقوبَ : { أُونّبئكم } بتسهيل الهمزة الثانية واوَا . وقرأه ابن عامر ، وحمزة ، وعاصم ، والكسائي ، ورَوح عن يعقوب ، وخلفٌ : بتخفيف الهمزتين .
وجملة { للذين اتقوا عند ربهم جنات } مستأنفة وهي المنبَّأ به . ويجوز أن يكون { للذين اتقوا } متعلقاً بقوله : « خيرٍ » و « جنّات » مبتدأ محذوف الخبر : أي لهم ، أو خبراً لمبتدأ محذوف . وقد ألغي ما يقابل شهوات الدنيا في ذكر نعيم الآخرة ؛ لأنّ لذة البنين ولذة المال هنالك مفقودة ، للاستغناء عنها ، وكذلك لذة الخيل والأنعام ؛ إذ لا دوابّ في الجنة ، فبقي ما يقابل النساء والحرث ، وهو الجنّات وَالأزواج ، لأنّ بهما تمام النعيم والتأنّس ، وزيد عليهما رضوان الله الذي حرُمه من جعل حظّه لذّات الدنيا وأعرض عن الآخرة . ومعنى المطهّرة المنزّهة ممّا يعتري نساء البشر ممّا تشمئزّ مِنه النفوس ، فالطهارة هنا حسية لا معنوية .
وعطف { رضوانٌ من الله } على ما أعدّ للذين اتّقوا عند الله : لأنّ رضوانه أعظم من ذلك النعيم المادي ؛ لأنّ رضوان الله تقريب رُوحاني قال تعالى : { ورضوان من الله أكبر } [ التوبة : 72 ] وقرأ الجمهور : { رِضوان } بكسر الراء وقرأه أبو بكر عن عاصم : بضم الراء وهما لغتان .
وأظهر اسم الجلالة في قوله : { ورضوان من الله } ، دون أن يقول ورضوان منه أي من ربّهم : لما في اسم الجلالة من الإيماء إلى عظمة ذلك الرضوان .
وجملة { والله بصير بالعباد } اعتراض لبيان الوعد أي أنّه عليم بالذين اتّقوا ومراتبِ تقواهم ، فهو يجازيهم ، ولتضمّن بصير معنى عليم عدي بالباء . وإظهار اسم الجلالة في قوله : { واللَّه بصير بالعباد } لقصد استقلال الجملة لتكون كالمَثَل .