قوله تعالى : { من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون } قوله تعالى :{ إن الذي فرض عليك القرآن } أي : أنزل عليك القرآن على قول أكثر المفسرين ، وقال عطاء :أوجب عليك العمل بالقرآن ، { لرادك إلى معاد } إلى مكة ، وهي رواية العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وهو قول مجاهد . قال القتيبي : معاد الرجل : بلده ، لأنه ينصرف ثم يعود إلى بلده ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من الغار مهاجراً إلى المدينة سار في غير الطريق مخافة الطلب ، فلما آمن ورجع إلى الطريق نزل الجحفة بين مكة والمدينة وعرف الطريق إلى مكة اشتاق إليها ، فأتاه جبريل وقال : أتشتاق إلى بلدك ومولدك ؟ قال : نعم ، قال : فإن الله تعالى يقول : { إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد } وهذه الآية نزلت بالجحفة ليست بمكية ولا مدنية . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما : { لرادك إلى معاد } إلى الموت . وقال الزهري وعكرمة : إلى القيامة . وقيل : إلى الجنة . { قل ربي أعلم من جاء بالهدى } أي : يعلم من جاء بالهدى ، وهذا جواب لكفار مكة لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إنك لفي ضلال ، فقال الله عز وجل : قل لهم ربي أعلم من جاء بالهدى ، أي : يعلم من جاء بالهدى يعني نفسه{ ومن هو في ضلال مبين } يعني المشركين ، ومعناه : أعلم بالفريقين .
والآن وقد انتهى القصص ، وانتهت التعقيبات المباشرة على ذلك القصص . الآن يتوجه الخطاب إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ومن خلفه القلة المسلمة التي كانت يومها بمكة . يتوجه الخطاب إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو مخرج من بلده ، مطارد من قومه ، وهو في طريقه إلى المدينة لم يبلغها بعد ، فقد كان بالجحفة قريبا من مكة ، قريبا من الخطر ، يتعلق قلبه وبصره ببلده الذي يحبه ، والذي يعز عليه فراقه ، لولا أن دعوته أعز عليه من بلده وموطن صباه ، ومهد ذكرياته ، ومقر أهله . يتوجه الخطاب إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو في موقفه ذاك :
( إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ) . .
فما هو بتاركك للمشركين ، وقد فرض عليك القرآن وكلفك الدعوة . ما هو بتاركك للمشركين يخرجونك من بلدك الحبيب إليك ، ويستبدون بك وبدعوتك ، ويفتنون المؤمنين من حولك . إنا فرض عليك القرآن لينصرك به في الموعد الذي قدره ، وفي الوقت الذي فرضه ؛ وإنك اليوم لمخرج منه مطارد ، ولكنك غدا منصور إليه عائد .
وهكذا شاءت حكمة الله أن ينزل على عبده هذا الوعد الأكيد في ذلك الظرف المكروب ، ليمضي [ صلى الله عليه وسلم ] في طريقه آمنا واثقا ، مطمئنا إلى وعد الله الذي يعلم صدقه ، ولا يستريب لحظة فيه .
وإن وعد الله لقائم لكل السالكين في الطريق ؛ وإنه ما من أحد يؤذى في سبيل الله ، فيصبر ويستيقن إلا نصره الله في وجه الطغيان في النهاية ، وتولى عنه المعركة حين يبذل ما في وسعه ، ويخلي عاتقه ، ويؤدي واجبه .
( إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ) . ولقد رد موسى من قبل إلى الأرض التي خرج منها هاربا مطاردا . رده فأنقذ به المستضعفين من قومه ، ودمر به فرعون وملأه ، وكانت العاقبة للمهتدين . . فامض إذن في طريقك ، ودع أمر الحكم فيما بينك وبين قومك لله الذي فرض عليك القرآن :
يقول تعالى آمرًا رسولَه ، صلوات الله وسلامه عليه ، ببلاغ الرسالة وتلاوة القرآن على الناس ، ومخبرًا له بأنه سيرده إلى معاد ، وهو يوم القيامة ، فيسأله عما استرعاه من أعباء النبوة ؛ ولهذا قال : { إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } أي : افترض عليك أداءه إلى الناس ، { لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } أي : إلى يوم القيامة فيسألك عن ذلك ، كما قال تعالى : { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } [ الأعراف : 6 ] ، وقال { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ [ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ ]{[22457]} } [ المائدة : 109 ] [ وقال ] :{[22458]} { وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ } [ الزمر : 69 ] .
وقال السدي عن أبي صالح ، عن{[22459]} ابن عباس : { إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } ، يقول : لرادُّك إلى الجنة ، ثم سائلك عن القرآن . قال السدي : وقال أبو سعيد مثلها .
وقال الحكم بن أَبان ، عن عِكْرمِة ، [ و ]{[22460]} عن ابن عباس ، رضي الله عنهما : { لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } قال : إلى يوم القيامة . ورواه مالك ، عن الزهري .
وقال الثوري ، عن الأعمش ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس{[22461]} : { لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } : إلى الموت .
ولهذا طُرُقٌ عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، وفي بعضها : لرادك إلى معدنك من الجنة .
وقال مجاهد : يحييك يوم القيامة . وكذا روي عن عكرمة ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، وأبي قَزَعَةَ ، وأبي مالك ، وأبي صالح .
وقال الحسن البصري : أي والله ، إن له لمعادًا{[22462]} ، يبعثه الله يوم القيامة ثم يدخله الجنة .
وقد رُوي عن ابن عباس غير ذلك ، كما قال البخاري في التفسير من صحيحه{[22463]} :
حدثنا محمد بن مقاتل ، أنبأنا يعلى ، حدثنا سفيان العُصْفُريّ ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : { لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } قال : إلى مكة .
وهكذا رواه النسائي في تفسير سننه ، وابن جرير من حديث يعلى - وهو ابن عبيد الطَّنَافِسيّ - به{[22464]} . وهكذا روى العَوْفيّ ، عن ابن عباس : { لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } أي : لرادك إلى مكة كما أخرجك منها .
وقال محمد بن إسحاق ، عن مجاهد في قوله : { لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } : إلى مولدك بمكة .
قال ابن أبي حاتم : وقد روى عن ابن عباس ، ويحيى بن الجزار ، وسعيد بن جبير ، وعطية ، والضحاك ، نحو ذلك .
[ وحدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر قال : قال سفيان : فسمعناه من مقاتل منذ سبعين سنة ، عن الضحاك ]{[22465]} قال : لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة ، فبلغ الجُحْفَة ، اشتاق إلى مكة ، فأنزل الله عليه : { إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } إلى مكة .
وهذا من كلام الضحاك يقتضي أن هذه الآية مدنية ، وإن كان مجموع السورة مكيا ، والله أعلم .
وقد قال عبد الرزاق : حدثنا مَعْمَر ، عن قتادة في قوله : { لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } قال : هذه مما كان ابن عباس يكتمها ، وقد رَوَى ابنُ أبي حاتم بسنده عن نعيم القارئ أنه قال في قوله : { لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } قال : إلى بيت المقدس .
وهذا - والله أعلم - يرجع إلى قول من فسر ذلك بيوم القيامة ؛ لأن بيت المقدس هو أرض المحشر والمنشر ، والله الموفق للصواب .
ووجه الجمع بين هذه الأقوال أن ابن عباس فسر ذلك تارة برجوعه إلى مكة ، وهو الفتح الذي هو عند ابن عباس أمارة على اقتراب أجله ، صلوات الله وسلامه عليه{[22466]} ، كما فسره ابن عباس بسورة { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } أنه أجَلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم نُعي إليه ، وكان ذلك بحضرة عمر بن الخطاب ، ووافقه عمر على ذلك ، وقال : لا أعلم منها غير الذي تعلم . ولهذا فسر ابن عباس تارة أخرى قوله : { لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } بالموت ، وتارة بيوم القيامة الذي هو بعد الموت ، وتارة بالجنة التي هي جزاؤه ومصيره على أداء رسالة الله وإبلاغها إلى الثقلين : الجن والإنس ، ولأنه أكمل خلق الله ، وأفصح{[22467]} خلق الله ، وأشرف خلق الله على الإطلاق .
وقوله : { قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } أي : قل - لِمَنْ خالفك وكذبك يا محمد من قومك من المشركين ومَنْ تبعهم على كفرهم - قل : ربي أعلم بالمهتدي منكم ومني ، وستعلمون لمن تكون عاقبة الدار ، ولِمَنْ تكون العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة .
{ إن الذي فرض عليك القرآن } أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه . { لرادك إلى معاد } أي معاد وهو المقام المحمود الذي وعدك أن يبعثك فيه ، أو مكة التي اعتدت بها أنه من العادة رده إليها يوم الفتح ، كأنه لما حكم بأن { العاقبة للمتقين } وأكد ذلك بوعد المحسنين ووعيد المسيئين وعده بالعاقبة الحسنى في الدارين . روي أنه لما بلغ جحفة في مهاجره اشتاق إلى مولده ومولده آبائه فنزلت . { قل ربي أعلم من جاء بالهدى } وما يستحقه من الثواب والنصر ومن منتصب بفعل يفسره أعلم . { ومن هو في ضلال مبين } وما استحقه من العذاب والإذلال يعني به نفسه والمشركين ، وهو تقرير للوعد السابق وكذا قوله : { وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب } .
ابتداء كلام للتنويه بشأن محمد صلى الله عليه وسلم وتثبيت فؤاده ووعده بحسن العاقبة في الدنيا والآخرة ، وأن إنكار أهل الضلال رسالته لا يضيره لأن الله أعلم بأنه على هدى وأنهم على ضلال بعد أن قدم لذلك من أحوال رسالة موسى عليه السلام ما فيه عبرة بالمقارنة بين حالي الرسولين وما لقياه من المعرضين .
وافتتاح الكلام بحرف التأكيد للاهتمام به . وجيء بالمسند إليه اسم موصول دون اسمه تعالى العَلَم لما في الصلة من الإيماء إلى وجه بناء الخبر . وأنه خبر الكرامة والتأييد أي أن الذي أعطاك القرآن ما كان إلا مقدِّراً نصرك وكرامتك ؛ لأن إعطاء القرآن شيء لا نظير له فهو دليل على كمال عناية الله بالمعطى . قال كعب بن زهير :
مَهْلاً هداك الذي أعطاك نافلة ال *** قرآن فيها مواعيظ وتفصيل
وفيه إيماء إلى تعظيم شأن الرسول صلى الله عليه وسلم .
ومعنى { فرض عليك القرآن } اختاره لك من قولهم : فرض له كذا ، إذا عيَّن له فرضاً ، أي نصيباً . ولما ضمن { فرض } معنى ( أنزل ) لأن فرض القرآن هو إنزاله ، عُدِّي فرض بحرف ( على ) .
والردّ : إرجاع شيء إلى حاله أو مكانه . والمعاد : اسم مكان العَوْدِ ، أي الأوْلِ كما يقتضيه حرف الانتهاء . والتنكير في { معاد } للتعظيم كما يقتضيه مقام الوعد والبشارة ، وموقعُهما بعد قوله { من جاء بالحسنة فله خير منها } [ القصص : 84 ] ، أي إلى معاد أيَّ معاد .
والمعاد يجوز أن يكون مستعملاً في معنى آخر أحوال الشيء وقراره الذي لا انتقال منه تشبيهاً بالمكان العائد إليه بعد أن صدر منه أو كناية عن الأخارة فيكون مراداً به الحياة الآخرة . قال ابن عطية : وقد اشتهر يوم القيامة بالمعاد لأنه معاد الكل اه . أي فأبشر بما تلقى في معادك من الكرامة التي لا تعادلها كرامة والتي لا تُعطى لأحد غيرك . فتنكير { معاد } أفاد أنه عظيم الشأن ، وترتبه على الصلة أفاد أنه لا يعطى لغيره مثله كما أن القرآن لم يفرض على أحد مثله .
ويجوز أن يراد بالمعاد معناه المشهود القريب من الحقيقة . وهو ما يعود إليه المرء إن غاب عنه ، فيراد به هنا بلدهُ الذي كان به وهو مكة . وهذا الوجه يقتضي أنه كناية عن خروجه منه ثم عوده إليه لأن الرد يستلزم المفارقة . وإذ قد كانت السورة مكية ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة فالوعد بالرد كناية عن الخروج منه قبل أن يُردّ عليه . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أُرِيَ في النوم أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل كما في حديث البخاري ، وكان قال له ورقةُ ابن نَوفل : يا ليتني أكون معك إذ يُخرجك قومُك وإن يُدركْني يومُك أنصرْك نصراً مؤزَّراً ، فما كان ذلك كله ليغيب عن علم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه قد قيل : إن هذه الآية نزلت عليه وهو في الجُحْفة في طريقه إلى الهجرة كما تقدم في أول السورة فوعد بالرد عليها وهو دخوله إليها فاتحاً لها ومتمكناً منها .
فقد روي عن ابن عباس تفسيرُ المعاد بذلك وكلا الوجهين يصح أن يكون مراداً على ما تقرر في المقدمة التاسعة .
ثم تكون جملة { قل ربي أعلم من جاء بالهُدى } بالنسبة إلى الوجه الأول بمنزلة التفريع على جملة { لرادّك إلى معاد } ، أي رادّك إلى يوم المعاد فمُظهرٌ المهتدي والضالين ، فيكون علم الله بالمهتدي والضالّ مكنى به عن اتضاح الأمر بلا ريب لأن علم الله تعالى لا يعتريه تلبيس وتكون هذه الكناية تعريضاً بالمشركين أنهم الضالون . وأن النبي صلى الله عليه وسلم هو المهتدي .
ولهذه النكتة عبّر عن جانب المهتدي بفعل { من جاء } للإشارة إلى أن المهتدي هو الذي جاء بهدي لم يكن معروفاً من قبل كما يقتضيه : جاء بكذا . وعبر عن جانب الضالين بالجملة الإسمية المقتضية ثبات الضلال المشعر بأن الضلال هو أمرهم القديم الراسخ فيهم مع ما أفاده حرف الظرفية من انغماسهم في الضلال وإحاطته بهم . ويكون المعنى حينئذ على حد قوله تعالى { وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } [ سبأ : 24 ] لظهور أن المبلغ لهذا الكلام لا يفرض في حقه أن يكون هو الشق الضال فيتعين أن الضال من خالفه .
وبالنسبة إلى الوجه الثاني تكون بمنزلة الموادعة والمتاركة وقطع المجادلة . فالمعنى : عدِّ عن إثبات هداك وضلالهم وكِلْهم إلى يوم ردك إلى معادك يوم يتبين أن الله نصرك وخذلهم . وعلى المعنيين فجملة { قل ربي أعلم } مستأنفة استئنافاً بيانياً عن جملة { إن الذي فرض عليك القرآن } جواباً لسؤال سائل يثيره أحد المعنيين .
وفي تقديم جملة { إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد } على جملة { قل ربي أعلم من جاء بالهدى } إعداد لصلاحية الجملة الثانية للمعنيين المذكورين . فهذا من الدلالة على معاني الكلام بمواقعه وترتيب نظامه وتقديم الجمل عن مواضع تأخيرها لتوفير المعاني .