وقوله تعالى : { ويدع الإنسان } ، حذف الواو لفظاً لاستقبال اللام الساكنة كقوله : { سندع الزبانية } [ العلق – 18 ] ، وحذف في الخط أيضاً وهي غير محذوفة في المعنى . ومعناه : ويدعو الإنسان على ماله وولده ونفسه ، { بالشر } ، فيقول عند الغضب : اللهم العنه وأهلكه ونحوهما ، { دعاءه بالخير } ، أي : كدعائه ربه بالخير أن يهب له النعمة والعافية ولو استجاب الله دعاءه على نفسه لهلك ، ولكن الله لا يستجيب بفضله { وكان الإنسان عجولاً } بالدعاء على ما يكره أن يستجاب له فيه . قال جماعة من أهل التفسير ، وقال ابن عباس : ضجراً ، لا صبر له على السراء والضراء .
( ويدعو الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا ) . .
ذلك أنه لا يعرف مصائر الأمور وعواقبها . ولقد يفعل الفعل وهو شر ، ويعجل به على نفسه وهو لا يدري . أو يدري ولكنه لا يقدر على كبح جماحه وضبط زمامه . . فأين هذا من هدى القرآن الثابت الهادى ء الهادي?
ألا إنهما طريقان مختلفان : شتان شتان . هدى القرآن وهوى الإنسان !
يخبر تعالى عن عجلة الإنسان ، ودعائه في بعض الأحيان على نفسه أو ولده أو ماله { بِالشَّرِّ } أي : بالموت أو الهلاك والدمار واللعنة ونحو ذلك ، فلو استجاب له ربه لهلك بدعائه ، كما قال تعالى : { وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } [ يونس : 11 ] ، وكذا فسره ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وقد تقدم في الحديث : " لا تدعوا على أنفسكم ولا على أموالكم ، أن توافقوا من الله ساعة إجابة يستجيب فيها " .
وإنما يحمل ابن آدم على ذلك عجلته وقلقه ؛ ولهذا قال تعالى { وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا }
وقد ذكر سلمان الفارسي وابن عباس - رضي الله عنهما - هاهنا قصة آدم ، عليه السلام ، حين همّ بالنهوض قائمًا قبل أن تصل الروح إلى رجليه ، وذلك أنه جاءته النفخة من قبل رأسه ، فلما وصلت إلى دماغه عطس ، فقال : الحمد لله . فقال الله : يرحمك ربك يا آدم . فلما وصلت إلى عينيه فتحهما ، فلما سرت إلى أعضائه وجسده جعل ينظر إليه ويعجبه ، فهمّ بالنهوض قبل أن تصل إلى رجليه فلم يستطع{[17237]} وقال : يا رب عجل{[17238]} قبل الليل .
{ ويدع الإنسان بالشّر } ويدعو الله تعالى عند غضبه بالشر على نفسه وأهله وماله ، أو يدعوه بما حسبه خيرا وهو شر . { دعاءه بالخير } مثل دعائه بالخير . { وكان الإنسان عجولاً } يسارع إلى كل ما يخطر بباله لا ينظر عاقبته . وقيل المراد آدم عليه الصلاة والسلام فإنه لما انتهى الروح إلى سرته ذهب لينهض فسقط . روي : أنه عليه السلام دفع أسيرا إلى سودة بنت زمعة فحرمته لأنينه فأخرت كتافه ، فهرب فدعا عليها بقطع اليد ثم ندم فقال عليه السلام : اللهم إنما أنا بشر فمن دعوت عليه فاجعل دعائي رحمة له فنزلت . ويجوز أن يريد بالإنسان الكافر وبالدعاء استعجاله بالعذاب استهزاء كقول النضر بن الحارث : اللهم انصر خير الحزبين ، { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك } الآية . فأجيب له فضرب عنقه صبرا يوم بدر .
وقوله { ويدع الإنسان } الآية ، سقطت الواو من { يدع } في خط المصحف لأنهم كتبوا المسموع ، وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد : هذه الآية نزلت ذامة لما يفعله الناس من الدعاء على أموالهم وأبنائهم في وقت الغضب والضجر ، فأخبر الله أنهم يدعون بالشر في ذلك الوقت كما تدعون بالخير في وقت التثبت ، فلو أجاب الله دعاءهم أهلكهم ، لكنه يصفح ولا يجيب دعاء الضجر المستعجل ، ثم عذر بعض العذر في أن الإنسان له عجلة فطرية ، و { الإنسان } هنا قيل يريد به الجنس بحسب ما في الخلق من ذلك قاله مجاهد وغيره ، وقال سلمان الفارسي وابن عباس : إشارته إلى آدم في أنه لما نفخ الروح في رأسه عطس وأبصر فلما مشى الروح في بدنه قبل ساقيه أعجبته نفسه فذهب ليمشي مستعجلاً لذلك فلم يقدر وأشارت ألفاظ هذه الآية إلى هذا والمعنى فأنتم ذووعجلة موروثة من أبيكم ، ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل أسيراً في قيْد في بيت سودة بنت زمعة فسمعت سودة أنينه فأشفقت فقالت له ما بالك ؟ فقال : ألم القيد ، فقالت : فأرخت من ربطه فسكت ، ثم نامت ، فتحيل في الانحلال وفر ، فطلبه رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصبح ، فأخبر الخبر ، فقال قطع الله يدها ففزعت سودة ورفعت يديها نحو السماء وهي تخاف الإجابة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«إن الله قد جعل دعائي في مثل هذا رحمة على المدعو عليه ، لأني بشر أغضب وأعجل ، فلترد سودة يديها »{[7484]} ، وقالت فرقة هذه الآية نزلت في شأن قريش الذين قالوا { اللهم إن كان الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء }{[7485]} [ الأنفال : 32 ] ، وكان الأولى أن يقولوا فاهدنا إليه وارحمنا به فذمهم الله تعالى في هذه الآية بهذا ، وقالت فرقة : معنى هذه الآية : معاتبة الناس على أنهم إذا نالهم شر وضرعوا وألحوا في الدعاء الذي كان يجب أن يدعوه في حالة الخير ويلتزمه من ذكر الله وحمده والرغبة إليه ، لكنه يقصر حينئذ ، فإذا مسه ضر ألح واستعجل الفرج ، فالآية على هذا من نحو قوله تعالى : { وإذا مس الإنسان الضر دعَانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضُر مسه }{[7486]} [ يونس : 12 ] .
موقع هذه الآية هنا غامض ، وانتزاع المعنى من نظمها وألفاظها أيضاً ، ولم يأت فيها المفسرون بما ينثلج له الصدر . والذي يظهر لي أن الآية التي قبلها لما اشتملت على بشارة وإنذار وكان المنذرون إذا سمعوا الوعيد والإنذار يستهزئون به ويقولون : { متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } [ يس : 48 ] عُطف هذا الكلام على ما سبق تنبيهاً على أن لذلك الوعد أجلاً مسمى . فالمراد بالإنسان الإنسان الذي لا يؤمن بالآخرة كما هو في قوله تعالى : { ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حياً } و { أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئاً } [ مريم : 66 67 ] وإطلاق الإنسان على الكافر كثير في القرآن .
وفعل يدعو } مستعمل في معنى يطلب ويبتغي ، كقول لبيد
ادْعُو بهن لعَاقر أو مُطْفِل *** بُذِلَت لجيران الجميع لِحَامُها
وقوله : { دعاءه بالخير } مصدر يفيد تشبيهاً ، أي يستعجل الشر كاستعجاله الخير ، يعني يستبطىء حلول الوعيد كما يستبطىء أحد تأخر خير وعد به .
وقوله : { وكان الإنسان عجولاً } تذييل ، فالإنسان هنا مراد به الجنس لأنه المناسب للتذييل ، أي وما هؤلاء الكافرون الذين لا يؤمنون بالآخرة إلا من نوع الإنسان ، وفي نوع الإنسان الاستعجال فإن ( كان ) تدل على أن اسمها متصف بخبرها اتصافاً متمكناً كقوله تعالى : { وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً } [ الكهف : 54 ] .
والمقصود من قوله : { وكان الإنسان عجولاً } الكناية عن عدم تبصره وأن الله أعلم بمقتضى الحكمة في توقيت الأشياء { ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم } [ يونس : 11 ] ، ولكنه دَرّج لهم وصول الخير والشر لطفاً بهم في الحالين .
والباء في قوله : بالشر وبالخير لتأكيد لصوق العامل بمعموله كالتي في قوله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] ؛ أو لتضمين مادة الدعاء معنى الاستعجال ، فيكون كقوله تعالى : { يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها } [ الشورى : 18 ] .
وعجول : صيغة مبالغة في عاجل . يقال : عجل فهو عاجل وعجول .
وكتب في المصحف { ويدع } بدون واو بعد العين إجراء لرسم الكلمة على حالة النطق بها في الوصل كما كتب { سَنْدُع الزبانية } [ العلق : 18 ] ونظائرها . قال الفراء : لو كتبت بالواو لكان صواباً .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره مذكرا عباده أياديه عندهم، ويدعو الإنسان على نفسه وولده وماله بالشرّ، فيقول: اللهمّ أهلكه والعنه عند ضجره وغضبه، كدعائه بالخير: يقول: كدعائه ربه بأن يهب له العافية، ويرزقه السلامة في نفسه وماله وولده، يقول: فلو استجيب له في دعائه على نفسه وماله وولده بالشرّ كما يستجاب له في الخير هلك، ولكن الله بفضله لا يستجيب له في ذلك... عن ابن عباس، قوله:"وَيَدْعُ الإنْسانُ بالشّرّ دعاءَه بالخَيْرِ وكانَ الإنْسان عَجُولاً" يعني قول الإنسان: اللهمّ العنه واغضب عليه، فلو يُعَجل له ذلك كما يُعجِل له الخير، لهلك... عن مجاهد "وَيَدْعُ الإنْسانُ بالشّرّ دُعاءَهُ بالخَيْرِ وكانَ الإنْسانُ عَجولاً "قال: ذلك دعاء الإنسان بالشرّ على ولده وعلى امرأته، فيعجل: فيدعو عليه، ولا يحب أن يصيبه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... إن كان ذلك الإنسان هو الكافر، فهو يدعو على الاستهزاء كقوله: {فأمطر علينا حجارة من السماء} الآية (الأنفال: 32) وكذلك قوله: {سأل سائل بعذاب واقع} (المعارج: 1) ونحوه. وإن كان مسلما فهو يدعو بالشر على نفسه وأهله عند الغضب على علم منه أنه (منه) ويدعو أيضا بالشر على السهو والغفلة منه نحو ما يسأل الأموال والنكاح، ولعل ذلك شر له.
{وكان الإنسان عجولا}... كل الإنسان خلق في الطبع من الأصل عجولا؛ ألا ترى أنه لا يصبر على أمر واحد ولا على شيء واحد، وإن كان نعمة لم يصبر عليها، ولكن يمل عنها، وكذلك في أدنى شدة وبلاء إذ بلي به، لم يصبر عليه، فأبدا يريد الانتقال من حال إلى حال.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً}... ضجراً لا صبر له على سراء ولا ضرّاء.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
العجلة: طلب الشيء قبل وقته الذي لا يجوز تقديمه عليه أو ليس بأولى فيه. والسرعة عمل الشيء في أول وقته الذي هو أولى به...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
من الأدب في الدعاء أَلاَّ يسألَ العبدُ إلاَّ عند الحاجة، ثم ينظر فإنْ كان شيءٌ لا يعنيه ألا يتعرَّضَ له؛ فإنَّ في الخبر:"مِن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" ثم من آداب الداعي إذا سأل من اللَّهِ حاجَته ورأى تأخيراً في الإجابة ألا يَتَّهم الحقَّ -سبحانه- ويجب أن يعلم أن الخير في ألا يجيبَه، والاستعجالُ- فيما يختاره العبد- غيرُ محمود، وأوْلى الأشياءِ السكونُ والرضا بحُكْمِه سبحانه، إن لم يساعدْه الصبر وسَأَلَ فالواجبُ تَرْكُ الاستعجال، والثقةُ بأنَّ المقسومَ لا يفوته، وأَنَّ اختيارَ الحقِّ للعبد خيرٌ له من اختياره لنفسه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَكَانَ الإنسان عَجُولاً} يتسرع إلى طلب كل ما يقع في قلبه ويخطر بباله، لا يتأنى فيه تأني المتبصر... ويجوز أن يريد بالإنسان الكافر، وأنه يدعو بالعذاب استهزاء ويستعجل به، كما يدعو بالخير إذا مسته الشدّة...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد: هذه الآية نزلت ذامة لما يفعله الناس من الدعاء على أموالهم وأبنائهم في وقت الغضب والضجر، فأخبر الله أنهم يدعون بالشر في ذلك الوقت كما تدعون بالخير في وقت التثبت، فلو أجاب الله دعاءهم أهلكهم، لكنه يصفح ولا يجيب دعاء الضجر المستعجل، ثم عذر بعض العذر في أن الإنسان له عجلة فطرية...
أقول: يحتمل أن يكون المراد: أن الإنسان قد يبالغ في الدعاء طلبا لشيء يعتقد أن خيره فيه، مع أن ذلك الشيء يكون منبع شره وضرره، وهو يبالغ في طلبه لجهله بحال ذلك الشيء، وإنما يقدم على مثل هذا العمل لكونه عجولا مغترا بظواهر الأمور غير متفحص عن حقائقها وأسرارها...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذكر سبحانه ما لكلامه من الدعاء إلى الأقوام، أتبعه ما عليه الإنسان من العوج الداعي له إلى العدول عن التمسك بشرائعه القويمة والإقدام على ما لا فائدة فيه، تنبيهاً على ما يجب عليه من التأني للنظر فيما يدعو إليه نفسه ووزنِه بمعيار الشرع، فقال تعالى: {ويدع} حذف واوه -الذي هو لام الفعل -... مشير إلى أنه يدعو بالشر لسفهه وقلة عقله، وهو لا يريد علو الشر عليه- بما أشير إليه بحذف ما معناه عند أهل الله الرفعة والعلو، وإلى أن غاية فعله الهلاك إلى أن يتداركه الله، وقد ذكرت حكم الوقف عليه وعلى أمثاله في سورة القمر {الإنسان} أي عند الغضب ونحوه على نفسه وعلى من يحبه، لما له من الأنس بنفسه والنسيان لما يصلحه {بالشر} أي ينادي ربه ويتضرع إليه بسبب إيقاع الشر به {دعاءه} أي مثل دعائه {بالخير} أي بحصول الخير له ولمن يحبه؛ ثم نبه على الطبع الذي هو منبع ذلك، فقال تعالى: {وكان الإنسان} أي هذا النوع بما له من قلة التدبر لاشتغاله بالنظر في عطفيته والأنس بنفسه، كوناً هو مجبول عليه {عجولاً} أي مبالغاً في العجلة يتسرع إلى طلب كل ما يقع في قلبه ويخطر بباله من غير أن يتأنى فيه تأني المتبصر الذي لا يريد أن يوقع شيئاً إلا في أتم مواقعه، ولذلك يستعجل العذاب لنفسه استهزاء، ولغيره استشفاء...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
وكان الإنسان عجولاً غيرَ متبصّر لا يتدبر في أموره حقَّ التدبر ليتحقق ما هو خيرٌ حقيقٌ بالدعاء به وما هو شرٌّ جديرٌ بالاستعاذة منه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ذلك أنه لا يعرف مصائر الأمور وعواقبها. ولقد يفعل الفعل وهو شر، ويعجل به على نفسه وهو لا يدري. أو يدري ولكنه لا يقدر على كبح جماحه وضبط زمامه.. فأين هذا من هدى القرآن الثابت الهادئ الهادي؟ ألا إنهما طريقان مختلفان: شتان شتان. هدى القرآن وهوى الإنسان!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
موقع هذه الآية هنا غامض، وانتزاع المعنى من نظمها وألفاظها أيضاً، ولم يأت فيها المفسرون بما ينثلج له الصدر. والذي يظهر لي أن الآية التي قبلها لما اشتملت على بشارة وإنذار، وكان المنذرون إذا سمعوا الوعيد والإنذار يستهزئون به ويقولون: {متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} [يس: 48] عُطف هذا الكلام على ما سبق تنبيهاً على أن لذلك الوعد أجلاً مسمى. فالمراد بالإنسان الإنسان الذي لا يؤمن بالآخرة كما هو في قوله تعالى: {ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حياً} و {أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئاً} [مريم: 66 67] وإطلاق الإنسان على الكافر كثير في القرآن.
وفعل {يدعو} مستعمل في معنى يطلب ويبتغي...
وقوله: {دعاءه بالخير} مصدر يفيد تشبيهاً، أي يستعجل الشر كاستعجاله الخير، يعني يستبطئ حلول الوعيد كما يستبطئ أحد تأخر خير وعد به.
وقوله: {وكان الإنسان عجولاً} تذييل، فالإنسان هنا مراد به الجنس لأنه المناسب للتذييل، أي وما هؤلاء الكافرون الذين لا يؤمنون بالآخرة إلا من نوع الإنسان، وفي نوع الإنسان الاستعجال فإن (كان) تدل على أن اسمها متصف بخبرها اتصافاً متمكناً كقوله تعالى: {وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً} [الكهف: 54].
والمقصود من قوله: {وكان الإنسان عجولاً} الكناية عن عدم تبصره وأن الله أعلم بمقتضى الحكمة في توقيت الأشياء {ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم} [يونس: 11]، ولكنه دَرّج لهم وصول الخير والشر لطفاً بهم في الحالين.
والباء في قوله:"بالشر" و"بالخير "لتأكيد لصوق العامل بمعموله كالتي في قوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} [المائدة: 6]؛ أو لتضمين مادة الدعاء معنى الاستعجال، فيكون كقوله تعالى: {يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها} [الشورى: 18].
وعجول: صيغة مبالغة في عاجل. يقال: عجل فهو عاجل وعجول.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ} ويطلبه في واقع أمره، تخلّصاً من حالات الترقب والانتظار والتفكير، التي تربطه بالمستقبل الذي قد يأتي بعد وقت طويل، وبذلك يقع في كثيرٍ من الخسائر والهزائم والمشاكل، لأنه لم ينتظر الشروط الواقعية التي تنقذه منها أو من سلبيتها، أو تبدّلها إلى حالات أفضل. {دُعَآءهُ بِالْخَيْرِ} كما يدعو بالخير في شوقٍ ولهفةٍ واستعجالٍ ليحصل على لذته ومنفعته في أقرب وقت. ولكن الإنسان لا يعي ما معنى استعجال العذاب الذي يدمّر مصيره، ويحطّم كل معنى للحياة فيه، ولذلك يظل سادراً في غيّه، فيرى أنه لا يمثل الحقيقة لأنه اعتاد على أن يكون مقياسها السرعة في الوجود بشكلٍ مباشر...
{وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً} تلك هي طبيعته التي يتحرك من خلالها، وهي الأساس للكثير من أخطائه وانحرافاته ومشاكله التي يتخبّط فيها، ولكن ذلك لا يعني أنها الطبيعة الثابتة المتصلة بالتكوين الذاتي لوجوده، بحيث يكون التخلص منها تخلّصاً من جزءٍ من ذاته، بل هي الطبيعة المتحركة الناشئة من ارتباطه بعالم الحسّ في حركة حياته، فيمكن لها أن تهتز وتتراجع إذا أخذ الإنسان بأسباب الفكر، وتعامل مع الحياة بمنطق الواقع، ودرسها من خلال سنن الله في الكون التي تفرض الانتظار سنة في بعض الأمور، وعدة سنين في بعضٍ آخر، كما قد تفرض الانتظار مدة الحياة في ما يأتي في نهايتها أو بعدها...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إِنَّ كلمة «دعا» هُنا تنطوي على معنى واسع يشمل كل طلب ورغبة للإِنسان، سواء أعلن عنها بلسانه وكلامه، أو سعى إِليها بعمله وجهده وسلوكه... إِنَّ استعجال الإِنسان واندفاعه في سبيل تحصيل المنافع لِنفسه، تقوده إلى النظرة السطحية للأُمور بحيثُ أنَّهُ لا يحيط الأشياء بالدراسة الشاملة المعمّقة ممّا يفوّت عليه تشخيص خيره الحقيقي ومنفعته الواقعية، وهكذا بنتيجة تعجّله واندفاعه المُضطرب يَضيع عليه وجه الحقيقة، ويتغيَّر مضمونها بنظره، فيقود نفسه باتجاه الشر والأعمال السيئة الضارّة. وهكذا ينتهي الإِنسان نتيجة سوء تشخيصه واضطراب مقياسه في رؤية الخير والحقيقة إلى أن يطلب من اللّه الشر، تماماً كما يطلب مِنُه الخير، وأن يسعى وراء الأعمال السيئة، كسعيه وراء الأعمال الحسنة. وهذا الاضطراب وفقدان الموازين هي أسوأ بلاء يصاب به الإِنسان ويحول بينهُ وبين السعادة الحقيقية... مِن هنا يتّضح كما أشرنا سابقاً أنَّ معنى «دعا» لا يقتصر لا على الرغبات التي يظهرها الإِنسان على لسانه، ولا على تلك الرغبات التي يسعى لتحقيقها بسلوكه وبما يبذل لها مِن جهد؛ وإِنّما المعنى يشمل محصلة الاثنين معاً. وأمّا ما ذهب إِليه بعض المفسّرين من حصر المعنى في أحدهما فليس ثمّة دليل عليه...
أمّا ما يظهر من بعض الرّوايات مِن اقتصار المعنى على الدعاء اللفظي، فإِنَّ ذلك مِن قبيل بيان المصداق لا كل المفهوم من قبيل الرّواية التي يقول فيها الإِمام الصادق (عليه السلام): «واعرف طريق نجاتك وهلاكك، كي لا تدعو اللّه بشيء عسى فيه هلاكك، وأنت تظن أنّ فيه نجاتك، قال اللّه تعالى: (ويدع الإِنسان بالشر دعائه بالخير وكانَ الإِنسان عجولا). مِن هنا يتبيّن أنّ أفضل طريق لوصول الإِنسان إلى الخير والسعادة، هو أن يكون الفرد في كل خطوة وموقف على غاية قصوى من الدقّة والحيطة والحذر، وأن يتجنب الاندفاع والعجلة والتسرُّع، ويدرس الموقف مِن جميع جوانبه، ويجانب الأحكام المتعجِّلة الممزوجة بالهوى والعاطفة، وأن يستعين باللّه العزيز ويستمده القوة والعون...