اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَيَدۡعُ ٱلۡإِنسَٰنُ بِٱلشَّرِّ دُعَآءَهُۥ بِٱلۡخَيۡرِۖ وَكَانَ ٱلۡإِنسَٰنُ عَجُولٗا} (11)

في الباءين ثلاثة أوجه :

أحدها : أنهما متعلقتان بالدُّعاء على بابهما ؛ نحو : " دَعوْتُ بكذا " والمعنى : أنَّ الإنسان في حال ضجره قد يدعو بالشَّر ، ويلحُّ فيه ، كما يدعو بالخير ويلحُّ فيه .

والثاني : أنهما بمعنى " في " بمعنى أنَّ الإنسان إذا أصابه ضرٌّ ، دعا وألحَّ في الدعاءِ ، واستعجل الفرجَ ؛ مثل الدعاءِ الذي كان يحبُّ أن يدعوهُ في حالة الخير ، وعلى هذا : فالمدعوُّ به ليس الشرَّ ولا الخير ، وهو بعيدٌ .

الثالث : أن تكون للسَّبب ، ذكره أبو البقاء{[20240]} ، والمعنى لا يساعده ، والمصدر مضافٌ لفاعله .

وحذفت الواو ولفظها الاستقبال باللام الساكنة ؛ كقوله تعالى : { سَنَدْعُ الزبانية } [ العلق : 18 ] وحذف في الخط أيضاً ، وهي غير محذوفة في المعنى .

فصل في نظم الآية

وجه النَّظم : أن الإنسان بعد أن أنزل الله - تعالى - عليه هذا القرآن ، وخصه بهذه النعم العظيمة ، قد يعدل على التمسُّك بشرائعه ، والرُّجوع إلى بيانه ، ويقدم على ما لا فائدة فيه ، فقال : { وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير } .

واختلفوا في المراد من دعاء الإنسان بالشرِّ ، فقيل : المراد منه النضر بن الحارث ، حيث قال : اللهُم ، إن كان هذا هو الحقَّ من عندكَ . فأجاب الله دعاءه ، وضُربَتْ رَقَبتهُ ، وكان بعضهم يقول : ائْتِنَا بعذابِ الله ، وآخرون يقولون : مَتَى هذا الوعد إن كنتم صَادقِينَ ، وإنَّما فعلوا ذلك ؛ للجَهْلِ ، ولاعتقادِ أن محمَّداً - صلوات الله وسلامه عليه - كاذبٌ فيما يقول .

وقيل : المراد أنَّ الإنسان في وقت الضجر يلعنُ نفسه ، وأهله وولده ، وماله ؛ كدعائه ربَّه أن يهب له النعمة والعافية ، ولو استجاب الله دعاءه على نفسه في الشرِّ ، كما يستجيب{[20241]} له في الخير ، لهلك ، ولكنَّ الله لا يستجيبُ ؛ لفضله .

رُوِيَ أن النبي المصطفى - صلوات الله وسلامه عليه - " دفع إلى سودةَ بنت زَمْعةٍ أسيراً ، فأقبل يَئِنُّ باللَّيْلِ ، فقالت له : مَا لَكَ تَئِنُّ ؟ فَشَكَى ألم القدِّ ، فأرْخَتْ لهُ مِنْ كتافه ، فلمَّا نَامَتْ أخرجَ يدهُ ، وهَربَ{[20242]} فلمَّا أصْبحَ النبي صلى الله عليه وسلم دعا بِهِ ، فأعْلمَ بِشأنهِ ، فقال صلوات الله وسلامه عليه : اللَّهُمَّ اقطعْ يَدهَا ، فَرفَعتْ سَوْدَةُ - رضي الله عنها - يَدهَا تتَوقَّعُ أن يَقْطعَ الله يَدهَا ، فقَال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : إنِّي سَألتُ الله أنْ يَجْعلَ دُعائِي على مَنْ لا يَسْتحقُّ عَذاباً مِنْ أهْلِي رَحْمةً ؛ لأنِّي بَشرٌ أغْضَبُ كَمَا تَغْضَبُونَ " {[20243]} .

وقيل : يحتمل أن يكون المرادُ أنَّ الإنسان قد يبالغُ في الدُّعاء طلباً للشَّيء ، يعتقد أنَّ خيره فيه ، مع أنَّ ذلك الشيء منبع لشرِّه وضرره ، وهو يبالغ في طلبه ؛ لجهله بحال ذلك الشَّيء ، وإنما يقدم على مثل هذا العمل ؛ لكونه عجولاً مُغْتَرًّا بظواهر الأمور غير متفحِّصٍ عن حقائقها ، وأسرارها .

ثم قال تعالى : { وَكَانَ الإنسان عَجُولاً } .

قيل : المراد بهذا الإنسان آدم -صلوات الله وسلامه عليه- لأنه لمَّا انتهت الروح إلى سُرَّته ، نظر إلى جسده ، فأعجبه ما رأى ، فذهب لينهض ، فلم يقدر ، فهو قوله جل ذكره : { وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً } .

وقيل : المراد الجنس ؛ لأنَّ أحداً من النَّاس لا يعرى عن عجلةٍ ، ولو تركها ، لكان تركها أصلح له في الدِّين والدُّنيا ، ومعنى القولين واحدٌ ؛ لأنَّا إذا حملنا الإنسان على آدم - صلوات الله وسلامه عليه - فهو أبُو البشر وأصلهم ، فإذا وصف بالعجلة ، كانت الصفة لازمةً لأولاده .

وقال ابنُ عبَّاسٍ - رضي الله عنه- : " عَجُولاً " ضَجُوراً لا صبر له على سرَّاء ولا ضرَّاء{[20244]} .


[20240]:ينظر: الإملاء 2/89.
[20241]:في أ: يستجاب.
[20242]:سقط من: أ.
[20243]:ذكره الزمخشري في الكشاف 2/651.
[20244]:أخرجه الطبري في "تفسيره " (8/45) وذكر البغوي في "تفسيره" (3/107).