{ وَيَدْعُ الإنسان بالشر } قال شيخ الإسلام : بيان لحال المهدي إثر بيان حال الهادي وإظهار لما بينهما من التباين والمراد بالإنسان الجنس أسند إليه حال بعض أفراده وهو الكافر ، وإليه يشير كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو حكى عنه حاله في بعض أحيانه كما يقتضيه ما روى عن الحسن . ومجاهد فالمعنى على الأول أن القرآن يدعو الإنسان إلى الخير الذي لا خير فوقه من الأجر الكبير ويحذره من الشر الذي لا شر وراءه من العذاب الأليم وهو أي بعض أفراده أعني الكافر يدعو لنفسه بما هو الشر من العذاب المذكور إما بلسانه حقيقة كدأب من قال منهم : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] ومن قال : { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } [ الأعراف : 70 ] إلى غير ذلك مما حكى عنهم ، وإما بأعمالهم السيئة المفضية إليه الموجبة له مجازاً كما هو ديدن كلهم . وبعضهم جعل الدعاء باللسان مجازاً أيضاً عن الاستعجال استهزاء .
{ دُعَاءهُ } أي دعاء كدعائه فحذف الموصوف وحرف التشبيه وانتصب المجرور على المصدرية وهو مراد من قال : مثل دعائه { بالخير } المذكور فرضاً لا تحقيقاً فإنه بمعزل عن الدعاء به ، وفيه رمز إلى أنه اللائق بحاله .
{ وَكَانَ الإنسان } أي من أسند إليه الدعاء المذكور من أفراده { عَجُولاً } يسارع إلى طلب كل ما يخطر بباله متعامياً عن ضرره أو مبالغاً في العجلة يستعجل الشر والعذاب وهو آتيه لا محالة ففيه نوع تهكم به ، وعلى تقدير حمل الدعاء على أعمالهم تجعل العجولة على اللج والتمادي في استيجاب العذاب بتلك الأعمال( {[555]} ) ، والمعنى على الثاني أن القرآن يدعو الإنسان إلى ما هو خير وهو في بعض أحيانه كما عند الغضب يدعه ويدعو الله تعالى لنفسه وأهله وماله بما هو شر وكان الإنسان بحسب جبلته عجولاً ضجراً لا يتأنى إلى أن يزول عنه ما يعتريه .
أخرج الواقدي في المغازي عن عائشة رضي الله تعالى عنها : «أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها باسير وقال لها : احتفظي به قالت : فلهوت مع امرأة فخرج ولم أشعر فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فسأل عنه فقلت : والله لا أدري وغفلت عنه فخرج فقال : قطع الله يدك ثم خرج عليه الصلاة والسلام فصاح به فخرجوا في طلبه حتى وجدوه ثم دخل علي فرآني وأنا أقرب يدي فقال : ما لك ؟ قلت : انتظر دعوتك فرفع يديه وقال : اللهم إنما أنا بشر آسف وأغضب كما يغضب البشر فأيما مؤمن أو مؤمنة دعوتك عليه بدعوة فاجعلها له زكاة وطهراً »
أو يدعو بما هو شر ويحسبه خيراً وكان عجولاً غير مستبصر لا يتدبر في أموره حق التدبر ليتحقق ما هو خير حقيق بالدعاء به وهو شر جدير بالاستعاذة منه اه مع بعض زيادة وتغيير .
واختار إرادة الكافر من الإنسان الأول بعض المحققين وذكر في وجه ربط الآيات أنه تعالى لما شرح ما خص به نبيه صلى الله عليه وسلم من الإسراء وإيتاء موسى عليه السلام التوراة وما فعله بالعصاة المتمردين من تسليط البلاء عليهم كان ذلك تنبيهاً على أن طاعة الله تعالى توجب كل خير وكرامة ومعصية سبحانه توجب كل بلية وغرامة لا جرم قال : { إِنَّ هذا القرآن يهدى } [ الإسراء : 9 ] الخ ثم عطف عليه { وَجَعَلْنَا اليل } [ الإسراء : 12 ] الخ بجامع دليل العقل والسمع أو نعمتي الدين والدنيا ، وأما اتصال قوله تعالى : { وَيَدْعُ الإنسان } الخ فهو أنه سبحانه لما وصف القرآن حتى بلغ به الدرجة القصوى في الهداية أتى بذكر من أفرط في كفران هذه النعمة العظمة قائلاً { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ } [ الأنفال : 32 ] الخ .
ومثل هذا ما قيل إنه تعالى بعد إن وصف القرآن بما وصف ذم قريشاً بعدم سؤالهم الهداية به وطلبهم إنزال الحجارة عليهم أو إيتاء العذاب الأليم إن كان حقاً ، وفي «الكشف » أن قوله تعالى : { وَيَدْعُ الإنسان } الخ بيان أن القرآن يهديهم للتي هي أقوم ويأبون إلا التي هي ألوم وهو وجه للربط مطلقاً وكل ما ذكروه في ذلك متقارب .
ويرد على حمل الدعاء على الدعاء بالأعمال والعجولية على اللج والتمادي في استيجاب العذاب بتلك الأعمال خلاف المتبادر كما لا يخفى ، وفسر بعضهم الإنسان الثاني بآدم عليه السلام لما أخرج ابن جرير . وابن المنذر . وغيرهما عن سليمان الفارسي قال : أول ما خلق الله تعالى من آدم عليه السلام رأسه فجعل ينظر وهو يخلق وبقيت رجلاه ، فلما كان بعد العصر قال : يا رب أعجل قبل الليل فذلك قوله تعالى : { وَكَانَ الإنسان عَجُولاً } ، وروى نحوه عن مجاهد وروى القرطبي والعهدة عليه أنه لما وصلت الروح لعينيه نظر إلى ثمار الجنة فلما دخلت جوفه اشتهاها فوثب عجلاً إليها فسقط ، ووجه ارتباط { وَكَانَ الإنسان } الخ على هذا القول إفادته أن عجلته بالدعاء لضجره أو لعدم تأمله من شأنه وأنه موروث له من أصله وشنشنة يعرفها من أخزم فهو اعتراض تذييلي وكلام تعليلي والأولى إرادة الجنس وإن كان ألفاظ الآية لا تنبو عن إرادة آدم عليه السلام كما زعم أبو حيان ثم أن الباء في الموضعين على ظاهرها صلة الدعاء ، وقيل : إنها بمعنى في والمعنى يدعو في حالة الشر والضر كما كان يدعو في حالة الخير فالمدعو به ليس الشر والخير ، وقيل : إنها للسببية أي يدعو بسبب ذلك وكلا القولين( {[556]} ) مخالفين للظاهر لا يعول عليهما ، واستدل بالآية على بعض الاحتمالات على المنع من دعاء الرجل على نفسه أو على ماله أو على أهله وقد جاء النهي عن ذلك صريحاً في بعض الأخبار .
فقد أخرج أبو داود والبزار عن جابر عن قال : «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدعو على أنفسكم لا تدعوا على أولادكم لا تدعو على أموالكم لئلا توافقوا من الله تعالى ساعة فيها إجابة فيستجيب لكم » وبه يرد على ما قيل من أن الدعاء بذلك لا يستجاب فضلاً من الله تعالى وكرماً . واستشكل بأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على أهله كما سمعت في حديث الواقدي ، وأجيب عن ذلك بأنه كان للزجر وإن كان وقت الغضب وقد اشترط صلى الله عليه وسلم على ربه سبحانه في مثل ذلك أن يكون رحمة فقد صح أنه عليه الصلاة والسلام قال : «إني اشترطت على ربي فقلت إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر وأغضب كما يغضب البشر فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن تجعلها له طوراً وزكاة وقربة » وذكر النووي في جواب ما يقال : إن ظاهر الحديث أن الدعاء ونحوه كان بسبب الغضب ما قال المازري من أنه يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن دعاءه وسبه ونحوهما كان مما يخير فيه بين أمرين أحدهما هذا الذي فعله والثاني زجره بأمر آخر فحمله الغضب لله تعالى على أحد الأمرين المخير فيهما وليس ذلك خارجاً عن حكم الشرع ، والمراد من قوله عليه الصلاة والسلام ليس لها بأهل ليس لها بأهل عند الله تعالى وفي باطن الأمر ولكنه في الظاهر مستوجب لذلك ، وقد يستدل على ذلك بإمارات شرعية وهو مأمور صلى الله عليه وسلم بالحكم بالظاهر والله تعالى يتولى السرائر ، وقيل : إن ما وقع منه عليه الصلاة والسلام من الدعاء ونحوه ليس بمقصود بل هو مما جرت به عادة العرب في وصل كلامهما بلا نية كتربت يمينك وعقري حلقي لكن خاف صلى الله عليه وسلم أن يصادف شيء من ذلك إجابة فسأل ربه سبحاته وتعالى ورغب إليه في أن يجعل ذلك زكاة وقربة ، نعم في ذكر حديث الواقدي ونحوه كالحديث الذي ذكره البيضاوي في المقام الذي ذكر فيه لا يخلو عن شيء فتأمل ، ثم إن القياس إثبات الواو في { يَدُعُّ } الإنسان إذ لا جازم تحذف له لكن نقل القرآن العظيم كما يمع ولم يتصرف فيه الناقل بمقدار فهمه وقوة عقله .
( ومن باب الإشارة ) :{ وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَاءهُ بالخير وَكَانَ الإنسان عَجُولاً } [ الإسراء : 11 ] فيه إشارة إلى أدب من آداب الدعاء وهو عدم الاستعجال فينبغي للسالك أن يصبر حتى يعرف ما يليق بحاله فيدعو به ، وقال سهل : أسلم الدعوات الذكر وترك الاختيار لأن في الذكر الكفاية وربما يسأل الإنسان ما فيه هلاكه ولا يشعر ، وفي الأثر يقول الله تعالى شأنه من شغله ذكري عن مسألتين أعطيه أفضل ما أعطى السائلين
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.