قوله تعالى : { والذين إذا فعلوا فاحشة } . قال ابن مسعود : قال المؤمنون :يا رسول الله كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منا ، كان أحدهم إذا أذنب أصبح وكفارة ذنبه مكتوبة في عتبة بابه ، اجدع أنفك أو أذنك ، افعل كذا وكذا ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . وقال عطاء : نزلت في تيهان التمار ، وكنيته أبو معبد ، أتته امرأة حسناء ، تبتاع منه تمراً فقال لها ، إن هذا التمر ليس بجيد وفي البيت أجود منه ، فذهب بها إلى بيته فضمها إلى نفسه وقبلها ، فقالت له : اتق الله ، فتركها وندم على ذلك ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر ذلك له ، فنزلت هذه الآية . وقال مقاتل والكلبي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين رجلين أحدهما من الأنصار والآخر من ثقيف فخرج الثقفي في غزاة فاستخلف الأنصاري على أهله فاشترى لهم اللحم ذات يوم ، فلما أرادت المرأة أن تأخذه منه دخل على أثرها وقبل يدها ، ثم ندم وانصرف ووضع التراب على رأسه وهام على وجهه ، فلما رجع الثقفي لم يستقبله الأنصاري فسأل امرأته عن حالة ، فقالت : لا أكثر الله في الإخوان مثله ووصفت له الحال ، والأنصاري يسيح في الجبال تائباً مستغفراً ، فطلبه الثقفي حتى وجده فأتى به أبا بكر رجاء أن يجد عنده راحة وفرجاً . فقال الأنصاري : هلكت وذكر القصة ، فقال أبو بكر : ويحك ! أما علمت أن الله تعالى يغار للغازي مالا يغار للمقيم ، ثم أتيا عمر رضي الله عنه فقال مثل ذلك ، فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال له مثل مقالتهما ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ( والذين إذا فعلوا فاحشة ) . يعني قبيحة خارجة عما أذن الله تعالى فيه ، وأصل الفحش القبح والخروج عن الحد ، قال جابر : الفاحشة الزنا .
قوله تعالى : { أو ظلموا أنفسهم } . مادون الزنا من القبلة والمعانقة ، والنظر واللمس . وقال مقاتل والكلبي : الفاحشة ما دون الزنا من قبلة أو لمسة أو نظرة فيما لا يحل ( أو ظلموا أنفسهم ) بالمعصية . وقيل : فعلوا فاحشة الكبائر أو ظلموا أنفسهم بالصغائر . وقيل : فعلوا فاحشة فعلاً أو ظلموا أنفسهم قولاً .
قوله تعالى : { ذكروا الله } . أي : ذكروا وعيد الله وأن الله سائلهم ، وقال مقاتل بن حيان : ذكروا الله باللسان عند الذنوب .
قوله تعالى : { فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله } . أي وهل يغفر الذنوب إلا الله .
قوله تعالى : { ولم يصروا على ما فعلوا } . أي لم يقيموا ولم يثبتوا عليه ولكن تابوا وأنابوا واستغفروا ، وأصل الإصرار الثبات على الشيء . قال الحسن : إتيان العبد ذنباً عمداً إصرار حتى يتوب . وقال السدي : الإصرار السكوت وترك الاستغفار .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا أبو منصور السمعاني ، أخبرنا أبو جعفر الزياتي ، أخبرنا حميد بن زنجويه ، أنا يحيى بن يحيى ، أنا عبد الحميد بن عبد الرحمن ، عن عثمان بن واقد العمري ، عن أبي نصيرة قال : لقيت مولى لأبي بكر رضي الله عنه فقلت له : أسمعت من أبي بكر شيئاً ؟ قال : نعم . سمعته يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما أصر من استغفر ، وإن عاد في اليوم سبعين مرة " . قوله تعالى : { وهم يعلمون } . قال ابن عباس والحسن ومقاتل والكلبي : وهم يعلمون أنها معصية ، وقيل : وهم يعلمون أن الإصرار ضار ، وقال الضحاك : وهم يعلمون أن الله يملك مغفرة الذنوب ، وقال الحسين بن الفضل : إن له رباً يغفر الذنوب ، وقيل : وهم يعلمون أن الله لا يتعاظمه العفو عن الذنوب وإن كثرت ، وقيل : وهم يعلمون أنهم إن استغفروا غفر لهم .
ثم ننتقل إلى صفة أخرى من صفات المتقين :
( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم - ومن يغفر الذنوب إلا الله ؟ - ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ) . .
يا لسماحة هذا الدين ! إن الله - سبحانه - لا يدعو الناس إلى السماحة فيما بينهم حتى يطلعهم على جانب من سماحته - سبحانه وتعالى - معهم . ليتذوقوا ويتعلموا ويقتبسوا :
إن المتقين في أعلى مراتب المؤمنين . . ولكن سماحة هذا الدين ورحمته بالبشر تسلك في عداد المتقين ( الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ) والفاحشة أبشع الذنوب وأكبرها . ولكن سماحة هذا الدين لا تطرد من يهوون إليها ، من رحمة الله . ولا تجعلهم في ذيل القافلة . . قافلة المؤمنين . . إنما ترتفع بهم إلى أعلى مرتبة . . مرتبة " المتقين " . . على شرط واحد . شرط يكشف عن طبيعة هذا الدين ووجهته . . أن يذكروا الله فيستغفروا لذنوبهم ، وألا يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أنه الخطيئة ، وألا يتبجحوا بالمعصية في غير تحرج ولا حياء . . وبعبارة أخرى أن يكونوا في إطار العبودية لله ، والاستسلام له في النهاية . فيظلوا في كنف الله وفي محيط عفوه ورحمته وفضله .
إن هذا الدين ليدرك ضعف هذا المخلوق البشري الذي تهبط به ثقلة الجسد أحيانا إلى درك الفاحشة ، وتهيج به فورة اللحم والدم فينزو نزوة الحيوان في حمى الشهوة ، وتدفعه نزواته وشهواته وأطماعه ورغباته إلى المخالفة عن أمر الله في حمى الاندفاع . يدرك ضعفه هذا فلا يقسو عليه ، ولا يبادر إلى طرده من رحمة الله حين يظلم نفسه . حين يرتكب الفاحشة . . المعصية الكبيرة . . وحسبه أن شعلة الإيمان ما تزال في روحه لم تنطفىء ، وأن نداوة الإيمان ما تزال في قلبه لم تجف ، وأن صلته بالله ما تزال حية لم تذبل ، وأنه يعرف أنه عبد يخطىء وأن له ربا يغفر . . وإذن فما يزال هذا المخلوق الضعيف الخاطىء المذنب بخير . . إنه سائر في الدرب لم ينقطع به الطريق ، ممسك بالعروة لم ينقطع به الحبل ، فليعثر ما شاء له ضعفه أن يعثر . فهو واصل في النهاية ما دامت الشعلة معه ، والحبل في يده . ما دام يذكر الله ولا ينساه ، ويستغفره ويقر بالعبودية له ولا يتبجح بمعصيته .
إنه لا يغلق في وجه هذا المخلوق الضعيف الضال باب التوبة ، ولا يلقيه منبوذا حائرا في التيه ! ولا يدعه مطرودا خائفا من المآب . . إنه يطمعه في المغفرة ، ويدله على الطريق ، ويأخذ بيده المرتعشة ، ويسند خطوته المتعثرة ، وينير له الطريق ، ليفيء إلى الحمى الآمن ، ويثوب إلى الكنف الأمين .
شيء واحد يتطلبه : ألا يجف قلبه ، وتظلم روحه ، فينسى الله . . وما دام يذكر الله . ما دام في روحه ذلك المشعل الهادي . ما دام في ضميره ذلك الهاتف الحادي . ما دام في قلبه ذلك الندى البليل . . فسيطلع النور في روحه من جديد ، وسيؤوب إلى الحمى الآمن من جديد ، وستنبت البذرة الهامدة من جديد .
إن طفلك الذي يخطىء ويعرف أن السوط - لا سواه - في الدار . . سيروح آبقا شاردا لا يثوب إلى الدار أبدا . فأما إذا كان يعلم أن إلى جانب السوط يدا حانية ، تربت على ضعفه حين يعتذر من الذنب ، وتقبل عذره حين يستغفر من الخطيئة . . فإنه سيعود !
وهكذا يأخذ الإسلام هذا المخلوق البشري الضعيف في لحظات ضعفه . . فإنه يعلم أن فيه بجانب الضعف قوة ، وبجانب الثقلة رفرفة ، وبجانب النزوة الحيوانية أشواقا ربانية . . فهو يعطف عليه في لحظة الضعف ليأخذ بيده إلى مراقي الصعود ، ويربت عليه في لحظة العثرة ليحلق به إلى الأفق من جديد . ما دام يذكر الله ولا ينساه ، ولا يصر على الخطيئة وهو يعلم أنها الخطيئة ! والرسول [ ص ] يقول : " ما أصر من استغفر ، وإن عاد في اليوم سبعين مرة "
والإسلام لا يدعو - بهذا - إلى الترخص ، ولا يمجد العاثر الهابط ، ولا يهتف له بجمال المستنقع ! كما تهتف " الواقعية " ! إنما هو يقيل عثرة الضعف ، ليستجيش في النفس الإنسانية الرجاء ، كما يستجيش فيها الحياء ! فالمغفرة من الله - ومن يغفر الذنوب إلا الله ؟ - تخجل ولا تطمع ، وتثير الاستغفار ولا تثير الاستهتار . فأما الذين يستهترون ويصرون ، فهم هنالك خارج الأسوار ، موصدة في وجوههم الأسوار !
وهكذا يجمع الإسلام بين الهتاف للبشرية إلى الآفاق العلى ، والرحمة بهذه البشرية التي يعلم طاقتها . ويفتح أمامها باب الرجاء أبدا ، ويأخذ بيدها إلى أقصى طاقتها .
وقوله تعالى : { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } أي : إذا صدر منهم ذنب أتبعوه بالتوبة والاستغفار .
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا هَمّام بن يحيى ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن عبد الرحمن بن أبي عَمْرة ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن رجلا أذنب ذَنْبًا ، فقال : رب{[5733]} إني أذنبت ذنبا فاغفره . فقال الله [ عز وجل ]{[5734]} عبدي عمل ذنبا ، فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به ، قد غفرت لعبدي ، ثم عمل ذنبا آخر فقال : رب ، إني عملت ذنبا فاغفره . فقال تبارك وتعالى : علم عبدي أن له رَبا يغفر الذنب وَيَأْخُذُ بِهِ ، قَدْ غَفَرَتْ لِعَبْدِي . ثُمَّ عَمِلَ ذَنْبًا آخَرَ فَقَالَ : رَبِّ ، إنِّي عَمِلْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْهُ لي . فَقَالَ عَزَّ وجَلَّ : عَلِمَ عَبْدَي أنَّ لَهُ رَبا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيأْخُذُ بِهِ ، قَدْ غَفَرَتُ لِعَبْدِي ثُمَّ عَمِلَ ذَنَبًا آخَرَ فَقَالَ : رَبِّ ، إنِّي عَمِلَتُ ذَنَبًا فَاغْفِرْهُ{[5735]} فَقَالَ عَزَّ وجَلَّ : عَبْدِي عَلِمَ{[5736]} أنَّ لَهُ رَبا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ ، أُشْهِدُكُمْ أنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ، فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ " .
أخرجه{[5737]} في الصحيح من حديث إسحاق{[5738]} بن أبي طلحة ، بنحوه{[5739]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر وأبو عامر قالا حدثنا زهير ، حدثنا سعد الطائي ، حدثنا أبو الْمُدِلَّة - مولى أم المؤمنين - سمع أبا هريرة ، قلنا : يا رسول الله ، إذا رأيناك رقَّت قلوبُنا ، وكنا من أهل الآخرة ، وإذا فارقناك أعجبتنا الدنيا وشَمِمْنا النساء والأولاد ، فقال{[5740]} لَوْ أَنَّكُمْ تَكُونُونَ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، عَلَى الْحَالِ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا عِنْدِي ، لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلائِكَةُ بِأَكُفِّهِمْ ، وَلَزَارَتْكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ ، وَلَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَجَاءَ اللَّهُ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ كَيْ يُغْفَرَ لَهُمْ " . قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، حَدِّثْنَا عَنْ الْجَنَّةِ مَا بِنَاؤُهَا ؟ قَالَ : " لَبِنَةُ ذَهَبٍ ، وَلَبِنَةُ فِضَّةٍ ، وَمِلاطُهَا الْمِسْكُ الأذْفَرُ ، وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ ، وَتُرَابُهَا الزَّعْفَرَانُ ، مَنْ يَدْخُلُهَا يَنْعَمُ وَلا يَبْأَسُ ، وَيَخْلُدُ وَلا يَمُوتُ ، لا تَبْلَى ثِيَابُهُ ، وَلا يَفْنَى شَبَابُهُ ، ثَلاثَةٌ لا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ : الإمَامُ الْعَادِلُ ، وَالصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ وَتُفْتَح{[5741]} لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ ، وَيَقُولُ الرَّبُّ : وَعِزَّتِي لأنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ " .
ورواه الترمذي ، وابن ماجة ، من وجه آخر من سعد ، به{[5742]} .
ويتأكد الوضوء وصلاة ركعتين عند التوبة ، لما رواه الإمام أحمد بن حنبل :
حدثنا وَكِيع ، حدثنا مِسْعَر ، وسفيان - هو الثوري - عن عثمان بن المغيرة الثقفي ، عن علي بن ربيعة ، عن أسماء بن{[5743]} الحكم الفزاري ، عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، قال : كنت إذا
سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا{[5744]} نفعني الله بما شاء منه ، وإذا حدثني عنه [ غيري استَحْلفْتُه ، فإذا حلف لي صَدقته ، وإن أبا بكر رضي الله عنه حَدثني ]{[5745]} وصدَق أبو بكر - أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مَا مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا فَيَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ - الوُضُوءَ - قال مِسْعر : فَيُصَلّي . وقال سفيان : ثم يُصلِّي ركعتين - فَيَسْتَغْفِرُ اللهَ عز وجَلَّ إلا غَفَرَ لَهُ " .
كذا{[5746]} رواه علي بن المَديني ، والحُمَيْدي وأبو بكر بن أبي شيبة ، وأهل السنن ، وابن حِبَّان في صحيحه والبزار والدارقُطْني ، من طرق ، عن عثمان بن المغيرة ، به . وقال الترمذي : هو حديث حسن{[5747]} وقد ذكرنا طُرقه والكلام عليه مستقصى في مسند أبي بكر الصديق ، [ رضي الله عنه ]{[5748]} وبالجملة فهو حديث حسن ، وهو من رواية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب [ رضي الله عنه ]{[5749]} عن خليفة النبي [ صلى الله عليه وسلم ]{[5750]} أبي بكر الصديق ، رضي الله عنهما{[5751]} ومما يشهد لصحة هذا الحديث ما رواه مسلم في صحيحه ، عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيَبْلُغَ - أو : فَيُسْبِغَ - الوُضُوءَ ، ثُمَّ يَقُولُ : أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيْكَ لَهُ ، وأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، إلا فُتِحَتْ لَهُ أبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ ، يَدْخُلُ مِنْ أيّهَا شَاءَ " {[5752]} .
وفي الصحيحين عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، أنه توضأ لهم وُضُوء النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " مَنْ تَوضَّأَ نَحْوَ وُضُوئي هَذَا ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لا يُحَدِّثُ فِيْهِمَا نَفْسَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " {[5753]} .
فقد ثبت هذا الحديث من رواية الأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين ، عن سيد الأولين والآخرين ورسول رب العالمين ، كما دل عليه الكتاب المبين من أن الاستغفار من الذنب ينفع العاصين .
وقد قال عبد الرزاق : أخبرنا جعفر بن سليمان ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك قال : بلغني أن إبليس حين نزلت : { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } الآية ، بَكَى{[5754]} .
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا مُحْرِز بن عَون ، حدثنا عثمان بن مطر ، حدثنا عبد الغفور ، عن أبي نُضَيْرة عن أبي رجاء ، عن أبي بكر ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " عَلَيْكُمْ بِلا إلَهَ إلا اللهُ والاسْتِغْفَار ، فأكْثرُوا مِنْهُمَا ، فإنَّ إبْليسَ قَالَ : أهْلَكْتُ النَّاسَ بالذُّنُوبِ ، وأهْلَكُونِي بِلا إلَهَ إلا اللهُ والاسْتِغْفَار ، فَلَمَّا رَأيْتُ ذَلِكَ أهْلَكْتُهُمْ بِالأهْوَاءِ ، فَهُمْ يَحْسَبُونَ أنَّهُم مُهْتَدُونَ " .
عثمان بن مطر وشيخه ضعيفان{[5755]} .
وروى الإمام أحمد في مسنده ، من طريق عَمْرو بن أبي عمرو وأبي الهيثم العُتْوَارِيّ ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قَالَ إبْلِيسُ : يَا رَبِّ ، وَعِزَّتكَ لا أزَالُ أغْوي [ عِبَاَدكَ ] {[5756]} ما دامت أرْوَاحُهُمْ فِي أجْسَادِهِمْ . فَقَالَ اللهُ : وَعِزَّتِي وَجَلالِي ولا أزَالُ أغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي " {[5757]} .
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن المثني ، حدثنا عُمر بن أبي خليفة ، سمعت أبا بَدْر يحدث عن ثابت ، عن أنس قال : جاء رجل فقال : يا رسول الله{[5758]} ، أَذْنَبْتُ ذَنْبًا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذَا أَذْنَبْتَ فَاسْتَغْفِرْ رَبَّكَ " . [ قال : فإني أستغفر ، ثم أعود فأُذْنِب . قال{[5759]} فَإذا{[5760]} أَذْنَبْتَ فَعُدْ فَاسْتَغْفِرْ رَبَّكَ ]{[5761]} " فقالها في الرابعة فقال : " اسْتَغْفِرْ رَبَّكَ حَتَّى يَكُونَ الشَّيْطَانُ هُوَ المحسُورُ " {[5762]} .
وهذا حديث غريب من هذا الوجه{[5763]} .
وقوله : { وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ } أي : لا يغفرها أحد سواه ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا محمد بن مُصْعَب ، حدثنا سلام بن مسكين ، والمبارك ، عن الحسن ، عن الأسود بن سَرِيع ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بأسير فقال : اللهمُ إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " عَرَفَ الْحقَّ لأهْلِهِ " {[5764]} .
وقوله : { وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أي : تابوا من ذنوبهم ، ورجعوا إلى الله عن قريب ، ولم يستمروا على المعصية ويصروا عليها غير مقْلِعِين عنها ، ولو تكرر منهم الذنب تابوا عنه ، كما قال الحافظ أبو يعلى الموصلي ، رحمه اللهُ ، في مسنده :
حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل وغيره قالوا : حدثنا أبو يحيى عبد الحميد الحِمَّانيّ ، عن عثمان بن واقد عن أبي نُصَيْرَةَ ، عن مولى لأبي بكر ، عن أبي بكر ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَا أصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وَإنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً " .
ورواه أبو داود ، والترمذي ، والْبَزَّار في مسنده ، من حديث عثمان بن واقد - وقد وثقه يحيى بن معين - به وشيخه أبو نصيرة {[5765]} الواسطي واسمه مسلم بن عبيد ، وثقه الإمام أحمد وابن حبان وقول علي بن المديني والترمذي : ليس إسناد هذا الحديث بذاك ، فالظاهر إنما [ هو ]{[5766]} لأجل جهالة مولى أبي بكر ، ولكن جهالة مثله لا تضر ؛ لأنه تابعي كبير ، ويكفيه نسبته إلى [ أبي بكر ]{[5767]} الصديق ، فهو حديث حسن{[5768]} والله أعلم .
وقوله : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } قال مجاهد وعبد الله بن عبيد بن عُمَير : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أن من تاب تاب الله عليه .
وهذا كقوله تعالى : { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } [ التوبة : 104 ] وكقوله{[5769]} { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } [ النساء : 110 ] ونظائر هذا كثيرة جدا .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد أخبرنا جرير ، حدثنا حبان - هو ابن زيد الشَّرْعَبيّ - عن عبد الله بن عَمْرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال - وهو على المنبر - : " ارْحَمُوا تُرْحَمُوا ، واغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ ، وَيْلٌ لأقْمَاعِ الْقَوْلِ ، وَيْلٌ للْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصرونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ " .
تفرد به أحمد ، رحمه الله{[5770]} .
{ والذين إذا فعلوا فاحشة } : فعلة بالغة في القبح كالزنى . { أو ظلموا أنفسهم } : بأن أذنبوا أي ذنب كان وقيل الفاحشة الكبيرة وظلم النفس الصغيرة ، ولعل الفاحشة ما يتعدى وظلم النفس ما ليس كذلك . { ذكروا الله } تذكروا وعيده أو حكمه أو حقه العظيم . { فاستغفروا لذنوبهم } : بالندم والتوبة . { ومن يغفر الذنوب إلا الله } : استفهام بمعنى النفي معترض بين المعطوفين ، والمراد به وصفه تعالى بسعة الرحمة وعموم المغفرة والحث على الاستغفار والوعد بقبول التوبة ، { ولم يصروا على ما فعلوا } : ولم يقيموا على ذنوبهم غير مستغفرين لقوله صلى الله عليه وسلم " ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة " . { وهم يعلمون } : حال من يصروا أي ولم يصروا على قبيح فعلهم عالمين به .
ذكر الله تعالى في هذه الآية صنفاً دون الصنف الأول ، فألحقهم بهم برحمته ومنه ، فهؤلاء هم التوابون ، وروي في سبب هاتين الآيتين : أن الصحابة قالوا : يا رسول الله ، كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منا حين كان المذنب منهم يصبح وعقوبته مكتوبة على باب داره ، فأنزل الله هذه الآية توسعة ورحمة وعوضاً من ذلك الفعل ببني إسرائيل ، ويروى أن إبليس بكى حين نزلت هذه الآية{[3544]} ، وروى أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «ما من عبد يذنب ذنباً ثم يقوم فيتطهر ويصلي ركعتين ويستغفر إلا غفر له »{[3545]} ، وقوله { والذين } عطف جملة ناس على جملة أخرى ، وليس { الذين } بنعت كرر معه واو العطف ، لأن تلك الطبقة الأولى تنزه عن الوقوع في الفواحش ، و «الفاحشة » هنا صفة لمحذوف أقيمت الصفة مقامه ، التقدير : فعلوا فعلة فاحشة ، وهو لفظ يعم جميع المعاصي ، وقد كثر اختصاصه بالزنا ، حتى فسر السدي هذه الآية بالزنا ، وقال جابر بن عبد الله لما قرأها : زنى القوم ورب الكعبة ، وقال إبراهيم النخعي : الفاحشة من الظلم ، والظلم من الفاحشة وقال قوم : الفاحشة في هذه الآية إشارة إلى الكبائر ، وظلم النفس إشارة إلى الصغائر ، و { ذكروا الله } معناه : بالخوف من عقابه والحياء منه ، إذ هو المنعم المتطول ومن هذا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : رحم الله صهيباً لو لم يخف الله لم يعصه ، و { استغفروا } معناه : طلبوا الغفران ، واللام معناها : لأجل «ذنوبهم » ، ثم اعترض أثناء الكلام قوله تعالى : { ومن يغفر الذنوب إلا الله } ، اعتراضاً مرققا للنفس ، داعياً إلى الله ، مرجياً في عفوه ، إذا رجع إليه ، وجاء اسم { الله } مرفوعاً بعد الاستثناء والكلام موجب ، حملاً على المعنى ، إذ هو بمعنى وما يغفر الذنوب إلا الله ، وقوله تعالى : { ولم يصروا } الإصرار معناه : اعتزام الدوام على الأمر ، وترك الإقلاع عنه ، ومنه صر الدنانير ، أي الربط عليها ، ومنه قول أبي السمال قعنب العدوي : «علم الله أنها مني صرى » .
يريد : عزيمة . فالإصرار اعتزام البقاء على الذنب ، ومنه قول النبي عليه السلام :< لا توبة مع إصرار>{[3546]} ، وقال أيضاً :< ما أصر من استغفر>{[3547]} ، واختلفت عبارة المفسرين في الإصرار ، فقال قتادة : هو الذي مضى قدماً في الذنب لا تنهاه مخافة الله . وقال الحسن ، إتيان العبد الذنب هو الإصرار حتى يتوب ، وقال مجاهد : { لم يصروا } معناه : لم يمضوا وقال السدي : «الإصرار » هو ترك الاستغفار ، والسكوت عنه مع الذنب{[3548]} ، وقوله تعالى : { وهم يعلمون } قال السدي : معناه وهم يعلمون أنهم قد أذنبوا ، وقال ابن إسحاق : معناه ، وهم يعلمون بما حرمت عليهم ، وقال آخرون : معناه ، وهم يعلمون أن باب التوبة مفتوح لهم وقيل : المعنى ، وهم يعلمون أني أعاقب على الإصرار .