قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت } اختلفوا فيهما فقال عكرمة : هم صنمان كان المشركون يعبدونهما من دون الله ، وقال أبو عبيدة : هما كل معبود يعبد من دون الله . قال الله تعالى { أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } [ النحل :36 ] ، وقال عمر : الجبت : السحر ، والطاغوت : الشيطان : وهو قول الشعبي ، ومجاهد . وقيل : الجبت الأوثان ، والطاغوت شياطين الأوثان ، ولكل صنم شيطان يعبر عنه فيغتر به الناس ، وقال محمد بن سيرين ومكحول : الجبت : الكاهن ، والطاغوت : الساحر . وقال سعيد بن جبير وأبو العالية : الجبت : الساحر بلسان الحبشة ، والطاغوت : الكاهن . وروي عن عكرمة : الجبت بلسان الحبشة : شيطان . وقال الضحاك : الجبت : حيي بن أخطب ، والطاغوت : كعب بن الأشرف . دليله قوله تعالى : { يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت } [ النساء :60 ] أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو الحسن بن بشران ، أنا إسماعيل ابن محمد الصفار ، أنا أحمد بن منصور الرمادي ، أنا عبد الرزاق ، أنا معمر ، عن عوف العبدي ، عن حيان ، عن قطن بن قبيصة ، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { العيافة والطرق والطيرة من الجبت } .
وقيل : الجبت كل ما حرم الله ، والطاغوت كل ما يطغي الإنسان .
قوله تعالى : { ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً } .
قال المفسرون : خرج كعب بن الأشرف في سبعين راكباً من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزل كعب على أبي سفيان ، فأحسن مثواه ، ونزلت اليهود في دور قريش ، فقال أهل مكة : إنكم أهل الكتاب ، ومحمد صاحب كتاب ، ولا نأمن أن يكون هذا مكراً منكم ، فإن أردتم أن نخرج معكم فاسجدوا لهذين الصنمين ، وآمنوا بهما ، ففعلوا ذلك ، فذلك قوله تعالى : { يؤمنون بالجبت والطاغوت } . ثم قال كعب لأهل مكة : ليجئ منكم ثلاثون ومنا ثلاثون ، فنلزق أكبادنا بالكعبة ، فنعاهد رب هذا البيت لنجهدن على قتال محمد ففعلوا . ثم قال أبو سفيان لكعب : إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ، ونحن أميون لا نعلم ، فأينا أهدى طريقا ؟ نحن أم محمد ؟ قال كعب : اعرضوا علي دينكم ؟ فقال أبو سفيان : نحن ننحر للحجيج الكوماء ، ونسقيهم الماء ، ونقري الضيف ، ونفك العاني ، ونصل الرحم ، ونعمر بيت ربنا ، ونطوف به ، ونحن أهل الحرم ، ومحمد فارق دين آبائه ، وقطع الرحم ، وفارق الحرم ، وديننا القديم ، ودين محمد الحديث . فقال كعب : أنتم والله أهدى سبيلاً مما عليه محمد وأصحابه ، فأنزل الله تعالى : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب } ، يعني : كعباً وأصحابه { يؤمنون بالجبت والطاغوت } . يعني : الصنمين . { ويقولون للذين كفروا } أبي سفيان وأصحابه { هؤلاء أهدى من الذين آمنوا } محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ( سبيلاً ) ديناً .
ويمضي السياق في التعجيب من أمر أولئك الذين يزكون أنفسهم . . بينما هم يؤمنون بالباطل وبالأحكام التي لا تستند إلى شرع الله ، وليس لها ضابط منه يعصمها من الطغيان : " الجبت والطاغوت " وبينما هم يشهدون للشرك والمشركين بأنهم أهدى من المؤمنين بكتاب الله ومنهجه وشريعته ، ويحمل عليهم - بعد التعجيب من أمرهم ، وذكر هذه المخازي عنهم - حملة عنيفة ؛ ويرذلهم ترذيلا شديدا ؛ ويظهر كامن طباعهم من الحسد والبخل ؛ والأسباب الحقيقية التي تجعلهم يقفون هذا الموقف إلى جانب انحرافهم عن دين إبراهيم - الذي يفخرون بالانتساب إليه - وينهي هذه الحملة بتهديدهم بجهنم . ( وكفى بجهنم سعيرًا ) .
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ، يؤمنون بالجبت والطاغوت ، ويقولون للذين كفروا : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ! أولئك الذين لعنهم الله . ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا . أم لهم نصيب من الملك ؟ فإذا لا يؤتون الناس نقيرا . أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ؟ فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة ؛ وآتيناهم ملكا عظيما . فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه ؛ وكفى بجهنم سعيرًا . .
لقد كان الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ، أولى الناس أن يتبعوا الكتاب ؛ وأن يكفروا بالشرك الذي يعتنقه من لم يأتهم من الله هدى ؛ وأن يحكموا كتاب الله في حياتهم ، فلا يتبعوا الطاغوت - وهو كل شرع لم يأذن به الله ، وكل حكم ليس له من شريعة الله سند - ولكن اليهود - الذين كانوا يزكون أنفسهم ، ويتباهون بأنهم أحباء الله - كانوا في الوقت ذاته يتبعون الباطل والشرك باتباعهم للكهانة وتركهم الكهان والأحبار يشرعون لهم ما لم يأذن به الله . وكانوا يؤمنون بالطاغوت ؛ وهو هذا الحكم الذي يقوم على غير شريعة الله . . وهو طاغوت لما فيه من طغيان - بادعاء الإنسان إحدى خصائص الألوهية - وهي الحاكمية - وبعدم انضباطه بحدود من شرع الله ، تلزمه العدل والحق . فهو طغيان ، وهو طاغوت ؛ والمؤمنون به والمتبعون له ، مشركون أو كافرون . . يعجب الله من أمرهم ، وقد أوتوا نصيبا من الكتاب ، فلم يلتزموا بما أوتوه من الكتاب !
ولقد كانوا يضيفون إلى الإيمان بالجبت والطاغوت ، موقفهم في صف المشركين الكفار ، ضد المؤمنين الذين آتاهم الله الكتاب أيضا :
ويقولون للذين كفروا : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلًا . .
قال ابن إسحاق . حدثني محمد بن أبى محمد ، عن عكرمة - أو عن سعيد بن جبير - عن ابن عباس . قال : " كان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة ، حيي بن أخطب ، وسلام بن الحقيق ، وأبو رافع ، والربيع بن الحقيق ، وأبو عامر ، ووحوح بن عامر ، وهودة بن قيس . فأما وحوح وأبو عامر وهودة ، فمن بني وائل ، وكان سائرهم من بني النضير . . فلما قدموا على قريش قالوا : هؤلاء أحبار يهود ، وأهل العلم بالكتاب الأول . فاسألوهم : أدينكم خير أم دين محمد ؟ فسألوهم . فقالوا : دينكم خير من دينه ، وأنتم أهدى منه وممن اتبعه . فأنزل الله - عز وجل - : ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ) . . . إلى قوله عز وجل : ( وآتيناهم ملكا عظيما ) . . وهذا لعن لهم ، وإخبار بأنه لا ناصر لهم في الدنيا ولا في الآخرة . لأنهم إنما ذهبوا يستنصرون بالمشركين . وإنما قالوا لهم ذلك ليستميلوهم إلى نصرتهم . وقد أجابوهم ، وجاءوا معهم يوم الأحزاب ؛ حتى حفر النبي [ ص ] وأصحابة حول المدينة الخندق ، وكفى الله شرهم
( ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا . وكفى الله المؤمنين القتال ، وكان الله قويا عزيزا ) .
وكان عجيبا أن يقول اليهود : إن دين المشركين خير من دين محمد ومن معه ، وإن المشركين أهدى سبيلا من الذين آمنوا بكتاب الله ورسوله [ ص ] ولكن هذا ليس بالعجيب من اليهود . . إنه موقفهم دائما من الحق والباطل ، ومن أهل الحق وأهل الباطل . . إنهم ذوو أطماع لا تنتهي ، وذوو أهواء لا تعتدل ، وذوو أحقاد لا تزول ! وهم لا يجدون عند الحق وأهله عونا لهم في شيء من أطماعهم وأهوائهم وأحقادهم . إنما يجدون العون والنصرة - دائما - عند الباطل وأهله . ومن ثم يشهدون للباطل ضد الحق ؛ ولأهل الباطل ضد أهل الحق !
هذه حال دائمة ، سببها كذلك قائم . . وكان طبيعيا منهم ومنطقيا أن يقولوا عن الذين كفروا : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا !
وهم يقولونها اليوم وغدا . إنهم يشوهون بوسائل الدعاية والإعلام التي في أيديهم كل حركة إسلامية ناجحة على ظهر الأرض ؛ ويعينون عليها أهل الباطل لتشويهها وتحطيمها - بالضبط كما كانوا يعينون مشركي قريش ويستنصرون بهم في الوقت ذاته - لتشويه الحركة الإسلامية الأولى وتحطيمها .
ولكنهم أحيانا - لخبثهم ولتمرسهم بالحيل الماكرة ولملابسات العصر الحديث - قد لا يثنون ثناء مكشوفا على الباطل وأهله . بل يكتفون بتشويه الحق وأهله . ليعينوا الباطل على هدمه وسحقه . ذلك أن ثناءهم المكشوف - في هذا الزمان - أصبح متهما ، وقد يثير الشبهات حول حلفائهم المستورين ، الذين يعملون لحسابهم ، في سحق الحركات الإسلامية في كل مكان . .
بل لقد يبلغ بهم المكر والحذق أحيانا ، أن يتظاهروا بعداوة وحرب حلفائهم ، الذين يسحقون لهم الحق وأهله . ويتظاهروا كذلك بمعركة كاذبة جوفاء من الكلام . ليبعدوا الشبهة تماما عن أخلص حلفائهم ، الذين يحققون لهم أهدافهم البعيدة !
ولكنهم لا يكفون أبدا عن تشويه الإسلام وأهله . . لأن حقدهم على الإسلام ، وعلى كل شبح من بعيد لأى بعث إسلامي ، أضخم من أن يداروه . . ولو للخداع والتمويه !
وقوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } أما " الجبت " فقال محمد بن إسحاق ، عن حسان بن فائد ، عن عمر بن الخطاب أنه قال : " الجبت " : السحر ، و " الطاغوت " : الشيطان .
وهكذا روي عن ابن عباس ، وأبي العالية ، ومجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، والشعبي ، والحسن ، والضحاك ، والسدي .
وعن ابن عباس ، وأبي العالية ، ومجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، [ وأبي مالك ]{[7744]} وسعيد بن جبير ، والشعبي ، والحسن ، وعطية : " الجبت " الشيطان - زاد ابن عباس : بالحبشية . وعن ابن عباس أيضا : " الجبت " : الشرك . وعنه : " الجبت " : الأصنام .
وعن الشعبي : " الجبت " : الكاهن . وعن ابن عباس : " الجبت " : حيي بن أخطب . وعن مجاهد : " الجبت " : كعب بن الأشرف .
وقال العلامة أبو نصر بن إسماعيل بن حماد الجوهري في كتابه " الصحاح " : " الجبت " كلمة تقع على الصنم والكاهن{[7745]} والساحر ونحو ذلك ، وفي الحديث : " الطيرة والعيافة والطرق من الجبت " قال : وهذا ليس من محض العربية ، لاجتماع الجيم والتاء في كلمة واحدة{[7746]} من غير حرف ذولقي . {[7747]}
وهذا الحديث الذي ذكره ، رواه الإمام أحمد في مسنده فقال : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا ، عوف عن حيان أبي العلاء ، حدثنا قطن بن قبيصة ، عن أبيه - وهو قبيصة بن مخارق - أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت " وقال عوف : " العيافة " : زجر الطير ، و " الطرق " : الخط ، يخط في الأرض ، و " الجبت " قال الحسن : إنه الشيطان .
وهكذا رواه أبو داود في سننه والنسائي وابن أبي حاتم في تفسيريهما من حديث عوف الأعرابي ، به{[7748]}
وقد تقدم الكلام على " الطاغوت " في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هاهنا .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إسحاق بن الضيف ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله أنه سئل عن " الطواغيت " فقال : هم كهان تنزل عليهم الشياطين .
وقال مجاهد : " الطاغوت " : الشيطان في صورة إنسان ، يتحاكمون إليه ، وهو صاحب أمرهم .
وقال الإمام مالك : " الطاغوت " : هو كل ما يعبد من دون الله ، عز وجل .
وقوله : { وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا } أي : يفضلون الكفار على المسلمين بجهلهم ، وقلة دينهم ، وكفرهم بكتاب الله الذي بأيديهم .
وقد روى ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري ، حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن عكرمة قال : جاء حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة ، فقالوا لهم : أنتم أهل الكتاب وأهل العلم ، فأخبرونا عنا وعن محمد ، فقالوا : ما أنتم وما محمد . فقالوا : نحن نصل الأرحام ، وننحر الكوماء ، ونسقي الماء على اللبن ، ونفك العناة ، ونسقي الحجيج - ومحمد صنبور ، قطع أرحامنا ، واتبعه سراق الحجيج بنو{[7749]} غفار ، فنحن خير أم هو ؟ فقالوا : أنتم خير وأهدى سبيلا . فأنزل الله { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ [ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا ]{[7750]} } .
وقد روي هذا من غير وجه ، عن ابن عباس وجماعة من السلف .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت قريش : ألا ترى هذا الصنبور المنبتر من قومه ؟ يزعم أنه خير منا ، ونحن أهل الحجيج ، وأهل السدانة ، وأهل السقاية ! قال : أنتم خير . قال فنزلت { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ } [ الكوثر : 3 ] ونزل : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ } إلى { نَصِيرًا } .
وقال ابن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق أبو رافع ، والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق ، وأبو عمار ، ووحوح{[7751]} بن عامر ، وهوذة بن قيس . فأما وحوح{[7752]} وأبو عمار وهوذة فمن بني وائل ، وكان سائرهم من بني النضير ، فلما قدموا على قريش قالوا هؤلاء أحبار يهود وأهل العلم بالكتب الأول{[7753]} فسلوهم : أدينكم خير أم دين محمد ؟ فسألوهم ، فقالوا : بل دينكم خير من دينه ، وأنتم أهدى منه وممن اتبعه . فأنزل الله عز وجل : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ [ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا }
{ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت } نزلت في يهود كانوا يقولون إن عبادة الأصنام أرضى عند الله مما يدعوهم إليه محمد . وقيل في حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف في جمع من اليهود خرجوا إلى مكة يحالفون قريشا على محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : أنتم أهل كتاب وأنتم اقرب إلى محمد منكم إلينا فلا نأمن مكركم فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم ففعلوا . والجبت في الأصل اسم صنم فاستعمل في كل ما عبد من دون الله . وقيل أصله الجبس وهو الذي لا خير فيه فقلبت سينه تاء . والطاغوت يطلق لكل باطل من معبود أو غيره . { ويقولون للذين كفروا } لأجلهم وفيهم . { هؤلاء } إشارة إليهم . { أهدى من الذين آمنوا سبيلا } أقوم دينا وأرشد طريقا .
وقوله تعالى : { ألم تر إلى الذين } الآية ، ظاهرها يعم اليهود والنصارى ، ولكن أجمع المتأولون على أن المراد بها طائفة من اليهود ، والقصص يبين ذلك ، واختلف في { الجبت والطاغوت } ، فقال عكرمة وغيره : هما في هذا الموضع صنمان كانا لقريش ، وذلك أن كعب بن الأشرف وجماعة معه وردوا مكة محرضين على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت لهم قريش : إنكم أهل الكتاب ، ومحمد صاحب كتاب ، ونحن لا نأمنكم أن تكونوا معه ، إلا أن تسجدوا لهذين الصنمين اللذين لنا ، ففعلوا ، ففي ذلك نزلت هذه الآية ، وقال ابن عباس : { الجبت } هنا : حيي بن أخطب { والطاغوت } : كعب بن الأشرف .
فالمراد على هذه الآية القوم الذين كانوا معهما من بني إسرائيل لإيمانهم بهما واتباعهم لهما ، وقال ابن عباس : { الجبت } الأصنام ، { والطاغوت } القوم المترجمون عن الأصنام ، الذين يضلون الناس بتعليمهم إياهم عبادة الأصنام ، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : { الجبت } السحر ، { والطاغوت } : الشيطان ، وقاله مجاهد والشعبي ، وقال زيد بن أسلم : { الجبت } : الساحر ، { والطاغوت } : الشيطان ، وقال سعيد بن جبير ورفيع : { الجبت } : الساحر ، و { الطاغوت } : الكاهن ، وقال قتادة : { الجبت } : الشيطان ، والطاغوت : الكاهن ، وقال سعيد بن جبير أيضاً : الجبت : الكاهن ، والطاغوت : الشيطان ، وقال ابن سيرين : { الجبت } : الكاهن ، { والطاغوت } : الساحر ، وقال مجاهد في كتاب الطبري : { الجبت } : كعب ابن الأشرف ، والطاغوت الشيطان كان في صورة إنسان .
قال ابن عطية : فمجموع هذا يقتضي أن { الجبت والطاغوت } هو كل ما عبد وأُطيع من دون الله تعالى ، وكذلك قال مالك رحمه الله : الطاغوت كل ما عبد من دون الله تعالى ، وذكر بعض الناس أن الجبت : هو من لغة الحبشة ، وقال قطرب : { الجبت } أصله الجبس ، وهو الثقيل الذي لا خير عنده ، وأما { الطاغوت } فهو من طغى ، أصله طغووت وزنه فعلوت ، وتاؤه زائدة ، قلب فرد فلعوت ، أصله طوغوت ، تحركت الواو وفتح ما قبلها فانقلبت ألفاً ، وقوله تعالى : { ويقولون للذين كفروا } الآية سببها ، أن قريشاً قالت لكعب بن الأشرف حين ورد مكة : أنت سيدنا وسيد قومك ، إنّا قوم ننحر الكوماء{[4104]} ، ونقري الضيف ، ونصل الرحم ، ونسقي الحجيج ، ونعبد آلهتنا الذين وجدنا أباءنا يعبدون ، وهذا الصنبور المنبتر من قومه{[4105]} قد قطع الرحم ، فمن أهدى نحن أو هو ؟ فقال كعب : أنتم أهدى منه وأقوم ديناً ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس{[4106]} : وحكى السدي : أن أبا سفيان خاطب كعباً بهذه المقالة ، فالضمير في { يقولون } عائد على كعب على ما تقدم - أو على الجماعة من بني إسرائيل التي كانت مع كعب ، لأنها قالت بقوله في جميع ذلك على ما ذكر بعض المتأولين ، و { الذين كفروا } في هذه الآية هم قريش ، والإشارة ب { هؤلاء } إليهم ، و { أهدى } : وزنه أفعل وهو للتفضيل ، و { الذين آمنوا } : هم النبي عليه السلام وأمته ، و { سبيلاً } نصب على التمييز ، وقالت فرقة : بل المراد في الآية من بني إسرائيل هو حيي بن أخطب وهو المقصود من أول الآيات ، والمشار إليه بقوله { أولئك } .